عبد الرحمان الكياكي
خاص ( ثقافات )
مقدمة
يعتبر نص (أفراح القبة) نصاً يأتي في سياق كتابي وزماني خاص، حيث ازداد اهتمام الكتابة الروائية العربية، بالتجريب وبالصوغ الشكلي للسرد ولطرائقه، وجاء هذا النص بعد تضافر هم كتابي قائم لدى نجيب محفوظ. وفي سياق تجديدي للسرد الروائي العربي، حافل بطرح أسئلة ضمن أسئلة الكتابة الروائية، وخلق فضاء سردي تعددي حيث تتوزع الأصوات السردية. فنص أفراح القبة يعرف ساردين متعددين، حيث يتم التبادل العلائقي والحواري، انطلاقاً من ساردين فاعلين متشابهين في الموقع السردي، ومتباينين على مستوى المنظور الإيديولوجي، الذي تولده طبيعة تلك المسافة السردية.
من هذا المنطلق حاولنا التطرق لبعض المواقع التي يتموضع داخلها كل سارد على حدة باعتباره سارداً ثم شخصية.
كما حاولنا من خلال قراءتنا للنص التركيز عليه كفضاء نصي لأجل مقاربة اشتغال مكون السارد/ الساردين، فالنص يدخل إلى فضائه النصي أكثر من سارد، كما ينزع من خلال منظوره السردي نحو تكسير هيمنة ضمير الغائب أو ضمير المتكلم. انطلاقاً من اعتماد المستويات من التعدد في الأصوات السردية من ناحية، ثم التنويع في الضمائر الشخصية، ومن ثمة تنويع ذوات التلفظ والسرد في نص روائي واحد من ناحية ثانية.
ولعل الخلفية المنهجية والنظرية التي تتحكم في التحليل تنطلق من ما يسمى بشعرية السرد. في محاولة لاستجلاء تمظهرا ت السارد/ الساردين من خلال مواقعهم، ومواقفهم الاجتماعية، وطرائق سردهم ووظائفهم داخل الرواية.
كما تناولنا مجموعة من العلائق التي تباعد أو تقرب في الوقت نفسه بين السارد/ الساردين، والمؤلف باعتبار هذا الأخير محاوراً للأول، سواء تعلق الأمر بالمؤلف الحقيقي أو الضمني، كما حاولنا التركيز على الفعل التواصلي لدى السارد والمسرود له.
الجانب النظري:
يرتبط هذا الجانب النظري من البحث بالسارد وعلاقته بالنص السردي خاصة بالحكي: (يستقطب دائماً عنصرين أساسيين بدونهما لا يمكن أن نتحدث عنه، هذان العنصران هما: القائم بالحكي ومتلقيه، وبمعنى آخر الراوي والمروي له، وتتم العلاقة بينهما حول ما يروي (القصة).(1)
لقد عرف المنظور السردي، أو نظرية السرد تسميات عديدة بخصوص تحليل الخطاب السردي من هذه التسميات: الرؤية السردية – وجهة النظر- التبئير.
وسنقتصر في هذا المجال على هذه الألفاظ المحورية التي تدور في فلك واحد وهو تحليل الخطاب الروائي.
1) الرؤية السردية:
سوف نشير في هذا المجال وبشكل مقتضب إلى تطور هذا المفهوم منطلقاً من تصور كل من: بورسي لوبوك مروراً بجون بويون ووقوفا عند تودوروف.
بالنسبة لبورسي لوبوك فهو يركز على الراوي (المسرح)، والمدمج في القصة، وعندما يرى الحدث من خلال ذهن الشخص (المسرح) بالضمير الغائب، فان القارئ في هذه الحال يجد نفسه واقفا في داخل القصة، ونرى الأحداث من خلال هذا الذهن في الوقت ذاته الذي تجري فيه الأحداث. وميزة هذا الشكل حسب لوبوك تكمن في أن كل شيء هنا معروض أو ممسرح سواء كان ذلك الحدث أو الشخصية أو ذهنها (2).
وفي إطار علاقة الراوي بالقصة يمكن استنتاج وجهات النظر كما حددها لوبوك على الشكل التالي:
1. في التقديم البانورامي نجد الراوي مطلق المعرفة يتجاوز موضوعه ويلخصه للقارئ.
2. في التقديم المشهدي كما في الدرامي، نجد الراوي غائبا، والأحداث تقدم مباشرة للمتلقي.
3. في اللوحات تتركز الأحداث، إما على ذهن الراوي أو على إحدى الشخصيات.(3).
أما جون بويون، فقد انطلق في حديثه عن الرواية والرؤيات من علم النفس وفي تأكيده على الترابط الوثيق بين الرواية وعلم النفس استنتج ثلاث رؤيات:
الرؤية مع la vision avec:
يحددها انطلاقاً من شخصية تكون هي محور الحكي، ويمكن وصفها من الداخل والدخول بسرعة إلى سلوكها. ومن خلال هذه الشخصية المحورية نرى الشخصيات الأخرى ومعها نرى les autres protagonistes ومعها نعيش الأحداث المروية l évènements racontes وبدون شك نرى ما يحدث لها.
الرؤية من الخلف la vision par derrière شخصيته :
فالكاتب في نظر بويون ينفصل عن (عوض أن يتموقع داخل الشخصية ينفصل عنها) ليس من أجل رؤيتها من الخارج ، رؤية حركاتها، والاستماع إلى أقوالها، ولكن من أجل أن نعتبر رؤيته موضوعية ومباشرة لحياة شخصياته النفسية.
الرؤية من الخارج la dehors : vision du
تتحدد انطلاقاً من السلوك كما هو ملحوظ مادياً، وهو أيضاً المنظور النفسي للشخصية والوسط الذي تعيش فيه.(4).
وبناء على اقتراح جون بويون j.poullion بخصوص تصنيف مظاهر السرد احتفظ به تودوروف T.Todorov مع بعض التعديلات الطفيفة.
الرؤية من الخلف: السارد الشخصية الروائية:
وهذه الصيغة هي التي يستعملها السرد الكلاسيكي في أغلب الأحيان. فالسارد يكون أكثر معرفة من الشخصية الروا ئية، وهو لا ينشغل بأن يشرح لنا كيف اكتسب هذه المعرفة، أنه يرى ما يجري خلف الجدران. كما يرى ما يجري في دماغ بطله، فليس لشخصياته الروائية أسرار. وقد يتجلى تفوق السارد علما إما في معرفته بالرغبات السردية لدى إحدى شخصيات الرواية، وإما في معرفته لأفكار شخصيات كثيرة في آن واحد. وأما في مجرد سرد أحداث لا تدركها شخصية روائية بمفردها.
الرؤية مع السارد الشخصية:
في هذه الحالة يعرف السارد بقدر ما تعرف الشخصية الروائية ، ولا يستطيع أن يمدها بتفسير للأحداث قبل أن يتوصل إليه الشخصيات الروائية وهنا أيضا يمكن القيام بتمييزات كثيرة، فمن جانب يمكن القيام بالسرد بواسطة ضمير المتكلم المفرد (الشيء الذي يبرر هذه الطريقة التي يتساوى فيها السارد مع الشخصية الروائية معرفة) أو بضمير الغائب، ولكن دائماً بحسب الرؤية التي تكونها نفس الشخصية عن الأحداث… ومن جهة أخرى يمكن للسارد أن يتبع ويتعقب شخصية واحدة أو شخصيات كثيرة وأخيراً قد يتعلق الأمر بسرد واع من طرف شخصية روائية أو(بتشريح) لدماغها.
الرؤية من الخارج: السارد الشخصية
يعرف السارد أقل مما تعرف أية شخصية من الشخصيات الروائية، وقد يصف لنا ما نراه وما نسمعه، ولكن لا ينفد إلى أي ضمير من الضمائر(5).
2) التبئيرfocalisation :
يقيم جرار جنيت بدوره تقسيماً ثلاثياً:
1. التبئير الصفر: focalisation zéro نجده في الحكي التقليدي، أو الحكي غير المبأرrécit non focaliser
2. التبئير الداخلي: focalisation interne سواء كان ثابتاً أو متحولاً أو متعدداً.
3. التبئير الخارجي: focalisation externe يمكن فيه التعرف على دواخل الشخصية .
ويحدد جنيت كذلك ما أسماه بوظائف السرد fonction des narrateurs تبعد لمختلف جهات الحكي.
1. القصة: والوظيفة التي ستحملها هي الوظيفة السردية الخالصة la fonction proprement narratif.
2. النص المروي: حيث الراوي يمكن أن يحيل إلى خطاب خارج لساني (خارج سردي). حيث يمكن تحديد تمفصل أو اتصال العلاقات الداخلية لهؤلاء المنظمين للخطابات organisateurs des discours .
3. وضعية السرد والمتعلقة بالسارد والمسرود له les deux protagonistes الحاضر أو الضمني.(6).
كما حدد جنيت في كتابه nouveau discours du récit بما فيه الكفاية رداً على منتقديه وخاصة (ميك بال) مستويات النص السردي محدداً المسرود له.
بوجهية المسرود له الخارج حكائي والمسرود له الداخل حكائي. والترابط الضروري بين المسرود له والقارئ، وارتباط المسرود له الخارج حكائي بالسارد والقارئ الضمني. وكذلك علاقة القارئ المفترض بالقارئ الواقعي، كما يرى بان السارد الخارج حكائي يرتبط بالمؤلف. فهو بمثابة صوت داخل النص والمسرود له الخارج حكائياً والقارئ الضمني الذي يعد في نظره بناءً فكرياً لمجموعة النصوص ثم علاقة المسرود له بالمؤلف الضمني والقارئ الضمني. (7).
مع جنيت دائماً يمكن التمييز بين :
1. الشكل السردي: البراني الحكي يضم الصوتين .
أ- خارج الحكي وهو الذي يحكي قصة غير مشارك فيها، من الخارج، ويسميه سعيد يقطين على غرار لنتفلت بالناظم الخارجي.
ب- داخل الحكي، وهو الذي يحكي قصة غير مشارك فيها ولكن من خلال شخصية تضل بينهما مسافة ويسميه بالنظام الداخلي.
2.الشكل السردي: الجواني الحكي ويضم الصوتين:
أ- داخل الحكي وفيه تمارس الحكي الشخصيات ويسميه يقطين الفاعل الداخلي تمييزاً على الفاعل الذاتي.
ب- الحكي الذاتي وفيه تمارس الحكي شخصية مركزية، وهو الفاعل الذاتي ويرى جنيت أنه تنويع على الجواني الحكي.(8) .
3) وجهة النظرpoint de vue
مع أوسبنسكي تطرح وجهة النظر بطرق عديدة. طموح كبير منذ بداية السبعينيات، ويعتبر أن وجهة النظر تتصل اتصالا وثيقا (بتوليف) العمل الفني بصفة عامة. وهي حسب أوسبنسكي تتعلق بالمواقع التي يحتلها المؤلف، والتي انطلاقا منها ينتج خطابه السردي، فإنه يسعى في مشروعه النظري إلى معاينة هذه المواقع من خلال أربعة مستويات:
1. المستوى الإيديولوجي: وفيه يتم التركيز على تقديم (الإيديولوجي من خلال مواقع محددة تقع خارج الكتاب أو حسب رؤية شخصية موجودة في العمل المحلل.
2. المستوى التعبيري: وفيه يبحث أوسبنسكي عن التحولات المتعلقة بوجهة النظر والانتقال من وجهة إلى أخرى كما يبحث في العلاقات التي يقيمها الراوي مع خطاب الشخصيات ويحددها في وجهتي نظر. في الأولى يأخذ الراوي وضع الملاحظ الموضوعي فينقل خطاب شخصياته بكل جزئيا ته حتى الصوتية منها. في هذا الوضع نحن أمام وجهة نظر خارجية وفي الثانية يأخذ وضع المقرر الذي يتبنى وجهة نظر داخلية لان الراوي هنا لا يركز على جزئيات الخطاب.
3. المستوى المكاني – الزماني: فيعاين فيه موقع الراوي مكانيا وزمانيا من القصة وشخصياتها، ويحددها دوره بناءً على تقسيمه داخلي وخارجي.
4. المستوى السيكولوجي: يحدده من خلال أربعة أنماط سردية تقوم على أساس مقولتين سرديتين:
– وجهة نظر ثابتة أو متحولة.
– وجهة نظر داخلية أو خارجية.
في وجهة النظر الثابتة نجدنا حيال شكلين سرديين:
1. الأحداث تقدم بشكل موضوعي
2. يقدم كل حدث باستمرار من وجهة النظر نفسها بواسطة شكل إدراك الشخصية الوحيدة.
وفي وجهة النظر المتحولة نجده يظهر الشكل الثالث عندما تتابع وجهات النظر ويقدم كل مشهد من وجهة نظر معينة. لكن مختلف المشاهد تقدم من منظور أبطال مختلفين. أما الشكل الرابع فيمكن تصور مشهد واحد يقدم من خلال وجهات عديدة وفي آن واحد. أو عندما يقدم ذلك من خلال الراوي الذي يأهله موقعه للنفاذ إلى أفكار شخصياته وعواطفها.(9).
أما جاب لنتفلت فقد لخص وجهة النظر في أربعة أشكال سردية.
1. وجهة نظر ثابتة + إدراك خارجي
2. وجهة نظر ثابتة + استبطان شخصية + استظهار الشخصيات الأخرى.
3. وجهة نظر متحولة متتابعة + استبطان الشخصية المتحولة + استظهار باقي الشخصيات
4. وجهات نظر متحولة آنية + إدراك آني لشخصيات عديدة. (10).
كما ميز بين شكلين سرديين هما: براني الحكي heterodiegetique وجواني الحكي homodiegetique وهكذا ففي الشكل السردي الأول براني الحكي نجدنا أمام.
1. منظور الراوي (الناظم) وادراكان خارجي وداخلي غير محدودين (العمق).
2. منظور الراوي – الفاعل وادراكان داخلي وخارجي محدودان.
3. تبئير الكاميرا وإدراك خارجي محدود. أما الإدراك الداخلي فمستحيل على مستوى العمق
وفي الشكل السري الثاني جواني الحكي فنحن أمام:
1. منظور سردي للراوي – الشخص (الناظم) وإدراك خارجي وداخلي موسعان للراوي – الشخص.
2. المنظور السردي للشخص – الفاعل، وإدراك خارجي وداخلي محدودان على مستوى العمق (11).
أما ما أسماه بالشكل السردي فيقطين يرصد فيه العلاقة بين الراوي والقصة حيث نجدنا أمام شكلين سرديين .
1. الراوي غير مشارك في القصة (براني الحكي).
2. الراوي مشارك في القصة (جواني الحكي).
انطلاقاً من هذه المعطيات النظرية سوف نركز على الرؤية الجوانية الداخلية، والرؤية الجوانية الذاتية فاعل داخلي – فاعل ذاتي
الجانب التطبيقي:
من خلال البناء الحكائي (لأفراح القبة) يبدو أن حوارات الشخوص والساردين المتعددين – كشخصيات من بين شخوص الرواية – كل واحد يحكي عن نفسه وعلاقته بالآخرين من خلال مقطع سردي، هي التي تشد القارئ عبر لغاتهم وحواراتهم إلى عالمهم المسرحي/ الواقعي، الطافح بالتطلعات والإحاطات والأوهام من خلال ممثل ثانوي -/سارد (طارق رمضان)، وأب/ سارد(كريم يونس)، وأم/ ساردة (حليمة الكبش)، ومؤلف/ سارد(عباس كرم يونس). كل واحد من موقعه. ساردون متعددون يتناوبون على حكي نص (أفراح القبة). هذه الرحلة الدرامية بحثا عن المؤلف/ القاتل، قاتل (تحية)، حسب أقوال (طارق رمضان).بدءا من أول مقطع سردي معنون ب(طارق رمضان)، الذي ينقل واقع المسرحية بشخوصه، ووقائعه، بإحاطاته، وانكسارا ته (من وجهة نظره كسارد). والمسرحية، تبدو وكأنها البنية الحكائية الأساسية، التي نطل من خلالها على جميع الشخوص، سواء كانوا حاضرين بأسمائهم، من خلال المقاطع السردية. أو يوجهون الدفة من الخلف. فمع الساردين نصل إلى إبراز بعض السلوكيات وتنظيم جزء من السرد.
وعندما ننتقل إلى المسرحية بإزالة الستار عنها ونطل من خلالها على جميع الشخوص. فهي – المسرحية – تغدو بمديرها (سرحان الهلالي) ومخرجها (سالم العجرودي)، وناقدها (فؤاد شلبي) ومؤلفها الذي اختفى منذ انتهائها (عباس كرم يونس)، وملقن فرقتها (كرم يونس)، وقاطعة التذاكر(حليمة الكبش) وممثليها: ذرية، إسماعيل، طارق رمضان، تحية، أم هاني تفسر الواقع تفسيرا جديدا، كاشفة في الوقت نفسه عن جرائم خفية تدور في البيت القديم، مكررة ما وقع فيه بالحرف الواحد.
إن اتهام (عباس يونس)بمقتل تحية، هي الواجهة المحتوية لأحداث الرواية/ المسرحية التي لا تتجاوز في رحلتها الزمنية فصل من فصول السنة.(الخريف)، بينما تمتد مقاطع قصص كل شخصية باعتبارها ساردا في علاقتها بالشخوص الأخرى، امتدادا عموديا لتشمل فضاءً وزمناً محددين. إلا أن هذه المقاطع السردية تتظافر من خلال تنامي السرد والوصف والحوارات لتضيء الجوانب المعتمدة للشخصيات. هناك شخوص متباينة الأصول تلتقي في المسرحية، تحمل كل واحدة منها قصتها من خلال دورها، وتواجه التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ضمن مناخ معين يشخص نص (أفراح القبة) عنوان المسرحية. عبر التفاصيل وتعدد الأصوات والمنظورات واللغة المتعددة المستويات. وعلاقة الزمان بالفضاء النصي (البيت القديم)، وعناصر الرؤيا المنحدرة من تصورات إيديولوجية.
إن المسرحية هنا تعادل الحقيقة، هاهي جريمة تخلق مؤلفا وممثلا في آن (عباس كرم يونس)، المؤلف والبطل، زج بمثاليته المفرطة بوالديه في السجن وقتل زوجته وابنه، ذلك هو اتهام (طارق رمضان) له. وذلك ما خلق المأساة الحقيقية. عباس يونس يدافع عن نفسه بإظهار كوامن ضعف الشخصيات وقواهم. لقد أصبح البيت القديم نادي قمار، هكذا يتجسد غضب (عباس يونس) على العار والشر.
إنه يعيش بين الإنسانية المفقودة والفن الضائع ويتخيل” دنيا مباركة، بلا إثم، بلا أسر، بلا التزامات اجتماعية دنيا تنبض بالخلق والإبداع والفكر. وحدها دنيا تحظى بالوحدة المقدسة، فلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ذرية….” (164).
تحويل البيت القديم إلى ماخور، حيث تناول المخدرات ولعب القمار كل هذا كان يمارس من طرف الأب (كرم يونس) والام (حليمة الكبش) والأصدقاء، (سالم العجرودي، فؤاد شلبي، طارق رمضان ….).
وبذلك تعتبر أفراح القبة نصاً روائياً يأتي في سياق كتابي وزماني خاص حيث ازداد اهتمام الكتابة الروائية بالتجريب وبالصوغ الشكلي للسرد ولطرائقه. وهو السياق الذي جاءت فيه أفراح القبة، إنجاز نص روائي حافل بطرح أسئلة ضمن أسئلة الكتابة الروائية العربية، انطلاقا من هذا الشكل الذي تتوزع عليه الأصوات السردية، فنص (أفراح القبة) يعرف مقاطع سردية متعددة، كل مقطع يتفرد بسارد يصبح شخصية في مقطع سردي آخر، وكل سارد يعد وسيطا ورابطا بين مجموعة من المكونات النصية الأخرى.
من هذا المنطلق يمكن أن نطرح السؤال التالي بخصوص أفراح القبة من يرى ومن يتكلم؟. هل المتكلم في النص هو السارد العارف بكل شيء أم السارد/الشخصية الذي يعرف ما تعرفه شخصياته؟. وعلاقة السارد بالمؤلف الحقيقي والمفترض، والمسرود له الحقيقي والمفترض؟
نحن أمام تبئير داخلي يتم من خلال الأحداث المقدمة من طرف الشخص – المبئر- لكن لا يمكن أن ننحي الكاتب الحقيقي أو المفترض من حضوره في التحليل، فهو مصدر كل تبئير كيفما كان نوعه. ونص أفراح القبة يعرف أصواتا سردية متعددة (طارق رمضان – كرم يونس – حليمة الكبش – عباس كرم يونس). كل واحد يقوم بسرد قصته الخاصة في علاقته بباقي شخوص النص. من هذا المنطلق فنص أفراح القبة زاخراً بتيمات التعدد وكذا التقابل التعددي. غير أن المنظور السردي المحدد هو التبئير الداخلي، حيث معرفة الراوي إما كلية أو مقتصرة على بعض الشخصيات – حسب (ميك بال) – وفي كلا الحالتين فالحكي يقدم انطلاقا من شخصية. فالسارد/ الشخصية تعرف ما تعرفه باقي الشخصيات، فهو بمثابة شخصية يرى “مع ” الشخصيات.
مع (لنتفلت) يمكن أن نسمي المنظور بالمنظور السردي للسارد/ الشخص (الناظم)، وإدراك داخلي وخارجي موسعان لا سارد/ الشخص. وهذا المنظور هو ما يمكن تسميته مع (ميك بال) بالتبئير بواسطة الذات. وهو يتجلى في التبئير الداخلي انطلاقا من “وجهة نظر ” شخصية ما.
من هذا المنطلق دائما فنص أفراح القبة يجعلنا نركز عليه كفضاء نصي لأجل مقاربة اشتغال مكون السارد/ الساردين، فالنص يدخل إلى فضاءه النصي اكثر من سارد. كما انه ينزع – من خلال منظوره السردي/ نحو تكسير هيمنة ضمير الغائب أو المتكلم انطلاقا من اعتماد مستويات من التعديد في الأصوات السردية من ناحية ثم التنويع في الضمائر الشخصية.
إن لكل مقطع سردي سارد يبرهن من خلال حكيه على وجوده وموضعه نفيه بين الشخوص الأخرى. فمثلاً (عباس كرم يونس) فان وضعه الذاتي يتحدد بمختلف علائقه بفضائه العائلي المهيمن والمؤطر لشخوص الرواية/ المسرحية. وهو ما يمكن التوقف عنده انطلاقا من تحديدنا لطبيعة علاقته بأمه وبابيه وطارق رمضان وعلاقته بتحية، ثم علاقته بالفضاء من خلال مستويين، الفضاء المألوف لديه: البيت القديم، والفضاء الغريب، الذي لم يحدد ملامحه بعد أن هاجر البيت القديم.
لقد عاين المسرحية في البيت القديم بشخصياتها وأحداثها. الشخصيات الحقيقية. والدعارة التي تمارس في البت. وينعت أباه بالقواد وأمه بالداعرة. كل شيء يقع في بيتهم القديم. إنها أفراح بالمعنى العكسي تحت قبة تتجسم فوق كون شرير. ” إني أرفض أبوي القواد والداعرة “. ص146
إن كل مقطع من المقاطع السردية (لوحة) يعرف ساردا في علاقته بشخوص تصبح كل واحدة ساردة لكل مقطع سردي. حيث يتم التبادل العلائقي. طبيعة أخرى من العلائق الحوارية التي توظفها (أفراح القبة) انطلاقا من ساردين فاعلين متشابهين في الموقع السردي ومتباينين على مستوى المنظور الإيديولوجي. الذي تولده طبيعة تلك المسافة، كل من خلال مقطعه السردي الخاص به والمؤطر لمجموعة من المسافات التي تحدد موقع كل سارد.
وبذلك فأفراح القبة تعيد بناء مكونات الواقع من خلال تمثيله على خشبة المسرح ، وخلخلة البناء التقليدي للكشف عن وظائف الشخصيات وافعالها وأقوالها، من خلال مسرحية (أفراح القبة).
والأفراح هنا تبارك الصراع الأخلاقي بعناصر تحليلية وتشخيصية لغوية، كما تؤسس واقعها النصي، من خلال توالي مقاطع سردية ينفرد كل مقطع سردي بسارد، خطابه مشخص من طرف خطاب الكاتب المفترض، ضمن فضاء البيت القديم كفضاء عام، وفضاء المسرحية كفضاء خاص. والشخصيات تحمل بصمات هذا الفضاء، بل يؤطرها ويشكل وعيها. وعبر هذا الفضاء يتعلق المحكي في صيغ حوارية موازيا لمجموعة من المحافل السردية، ويتوزع ذلك بين أربعة مقاطع سردية.
– طارق رمضان
– كرم يونس
– حليمة الكبش
– عباس كرم يونس
ضمن هذه المسافة السردية تعري أفراح القبة عن جرائم خفية تدور في البيت القديم على امتداد المقاطع السردية، وفي تعلقها بالمحكي الأصلي. والسخرية من شخصيات هذه المسرحية. والتشكيك في طبيعة أصولها. وبذلك فنص (أفراح القبة) ينحى منحى تخييلياً. ويصوغ واقعا نصيا يخلخل بنية النسق النصي التقليدي، ويكسر طولية السرد، من خلال أصوات تكشف عن لعبة الحكي. كما تحاول في بناءها مساءلة الكتابة الروائية، والواقع من خلال مسرحته. فكل سارد يعمد إلى تبئير نفسه وعلاقته بالشخوص الأخرى، وعلاقته بالكاتب المفترض، والمتلقي المفترض. وبذلك فأفراح القبة تطرح وبإلحاح التركيز على الساردين لعلاقتهم بالمؤلف الحقيقي والضمني والمسرود له من خلال هذا البناء السردي المفتوح والغير المكتمل .
وهي بذلك تعيد بناء مكونات الواقع من خلال تمثيله على خشبة المسرح وخلخلة البناء التقليدي للنص الروائي. للكشف عن وظائف الشخصيات وافعالها، وأقوالها من خلال مسرحية أفراح القبة التي تبارك الصراع الأخلاقي، بعناصر تخييلية وتشخيصية ولغوية، وهي بذلك تحول هذا الواقع النصي إلى فضاء مفتوح على كثير من الأبعاد الرمزية والدلالية والإيديولوجية.
إن موضوع السرد والتبئير في (أفراح القبة) يرتكز على أربع شخصيات محورية من بداية الخطاب إلى نهايته، هذه الشخوص المحورية هي ذوات السرد والتبئير. فكل شخصية مبئرة، ناظمة، تعتبر (أنا السارد) عندما تكون شخصية فاعلة.
من هذا المنطلق فكل سارد (فاعل)، مشارك في الفعل الروائي، وكل شخصية ناظمة تعبر عن لحظة زمانية حاضرة. والشخصية الفاعلة هنا تحكي عن أشياء شاهدتها وعاينتها، والسارد الفاعل غالبا ما يزاوج بين العمق النفسي والاجتماعي، خاصة وان واقع الرواية يتخذ موضوعا له التخييل المسرحي، واقع تخييلي له طابع تخصصي يتقاطع مع نص الرواية المتداول والمعروف.
ومن هذا الواقع التخييلي يتكون الإطار النصي الروائي لأفراح القبة. وجود نص داخل نص، النص المسرحي داخل النص الروائي.
إن كل نص روائي يصلنا عبر سارد. ونص أفراح القبة يقدم إلى المتلقي من خلال أربعة شخوص ساردة، كل شخص يتفرد بخطابه في موقع سردي خاص به ومعنون باسمه. كما أن المؤلف يقدم الشخصيات بدون تحيز.
فليس هناك تفاضلا بين ساردي أفراح القبة من خلال الناظم الداخلي في كل مقطع سردي، فان السارد المبئرالذي يسرد من منظوره الخاص له ارتباط بالمبار(فضاء البيت القديم في النص).
وذلك من خلال وصفه للبيت القديم معدداً مظاهره، وما عرفه من تبدلات، من تغير واضطراب فالناظم في كل مقطع سردي يقوم بوظيفته من منظور سردي داخلي وبسبب تواجده يبدو “جواني الحكي “، فهو يعاني ما تعانيه باقي الشخوص في عالم القصة المسرحية ويحمل ما تحمله من تطلعات وأوهام قد تصبح هي الحقيقة نفسها.
إن كل سارد بمثابة ضمير سردي وصوت مبئر، في انتقاله من تبئير الماضي والحاضر (تقنية الاسترجاع)وبواسطة المؤشر الصيغي الذي ينقلنا من فضاء البيت القديم/الماخور، الفضاء الواقعي إلى فضاء المسرحية كموضوع خاص للتبئير.
إن الانتقال من شخصية إلى أخرى ومن رؤية إلى أخرى ومن صوت إلى آخر، جعلنا أمام تعدد للرؤيات وتحولها، ووجهات النظر، هذا التعدد الصوتي والسردي ساهم بدور كبير في جعل الرواية تقدم إلينا من داخلها. وبذلك فنحن أمام الشكل السردي الجواني الحكي حسب (لنتفلت) الذي يظهر لنا من خلال الفاعل الداخلي كصوت سردي، ليقدم لنا الأشياء كما يراها، ويدركها.
إن موضوع السرد والتبئير في أفراح القبة مرتكزا على جميع الشخوص التي تمارس السرد والتبئير بمشاركتها في الحكي مشاركة خاصة باعتبارها المحور الأساس ، ومن خلالها نتعرف على الفضاء والمحيط العام وعلى قصة حياتها.
طارق رمضان: ممثل ثانوي
يحكي بضمير المتكلم، يمارس السرد والتبئير، يحكي عن الماضي، عن نفسه عن علاقته بباقي الشخوص، يفتح حوارا معها، يبدا بتبئير المخرج والمدير داخل حجرة المدير، وإسماعيل والمؤلف، والأدوار ويشارك في الحوار، تنتهي الجلسة وينفرد السارد بالمدير بحكم الزمالة والصداقة والجيرة القديمة، . يريد أن ينتقم من المؤلف/ عباس يونس. يحمل حقداً دفيناً عليه فالمسرحية بالنسبة إليه: “إنها اعترافات كيف نترك المجرم يفلت من يد العدالة ” ؟.
“فاض قلبي بالغضب والمرارة، انتشرت أحزان الماضي كالدخان، بكافة هزائمه وآلامه إنها فرصتي للتنكيل بعدوي القديم ” (ص9).
يصب معاناته على الفضاء، وعلى الماضي والحاضر وعلى المسرح، والأدوار الثانوية، وعلى نجاح يأمله من لعب في مسرحية عدو مجرم. فهو يصب جميع أحقاده على المؤلف، ويؤكد بان المسرحية: “… اعتراف، هي الحقيقة، نحن أشخاصها الحقيقيون ” (ص8) ينتقل السارد إلى تبئير الحي، باب الشعرية. “حي التقوى والخلاعة “(ص10). وسوق الزلط حيث يربض إلى البيت القديم يطوي في صدره تاريخ أسود وأحمر. ويبئر كرم يونس وزوجته حليمة الكبش. “شد ما غيرهما السجن. وجهان هما صوتان مجسدتان للامتعاض. ينغمسان في الكدر على حين يأخذ نجم ابنهما في اللمعان ” (ص11).
ويلي ذلك الحوار الذي دار بين السارد والأبوين حول المسرحية بأنها: “باختصار تدور في بيتكم هذا، مكررة ما وقع فيه بالحرف الواحد، كاشفة في الوقت نفسه عن جرائم خفية تفسر الوقائع تفسيرا جديدا…” (ص13).
فالمسرحية ستكشف عن كل شيء حتى السجن وموت تحية، ولكنها تدلنا على من وشى بنا إلى الشرطة. كما تثبت لنا أن تحية قتلت ولم تمت ” (ص 13). تلي هذه المجموعة من الاعترافات حوارات داخلية للناظم الداخلي نفسه ”… في الأيام الحلوة نما الحب وراء الكواليس فقهت الغريزة الحياة لغة الفحولة الخفية. نلت أول قبلة والموت يزحف على راسبوتين…..” (ص16). ثم حوار بين الناظم وعباس يونس حول تحية وعباس يونس منها.
– ”أستاذ طارق.. أرجوك.. لن تحضر تحية إلى هنا ولن نذهب إلى المسرح..
– من أدراك بهذه الأسرار كلها؟
– عفوا.. سنتزوج..
– هه؟
– اتفقنا على الزواج
– يابن.. أنت مجنون؟.. ماذا تقول؟
– حلمك: نريد أن نكون شرفاء معك.. دعني..” (ص20) .
كما أن السارد (الناظم) يبئر كل شخصية على حدى يحكي علاقاته معها، ويخلط الواقع بالمسرح.
– “انك تقترح مسرحية جديدة.. البطلة نسيت تماما عشيقها القديم.
– غير ممكن وغير طبيعي..
– قلت لك عش في المسرحية وانس الحياة .. ص29/30.
كرم يونس: ملقن الفرقة
يبدا بتبئير ذاته ثم شخصية محورية (طارق رمضان)، ويستمر الحوار حول اتهام طارق لعباس يونس بقتل تحية. وموضوع المسرحية. والحوار بينه وبين زوجته، ثم ينتقل إلى تبئير ابنه.
”لم أعرف مسكن ابني من قبل، منذ زواجه انفصلنا. لم يكن بيننا خير كان يرفض حياتنا ويحتقرها فنبذته واحتقرته. وبانتقاله إلى بيت تحية تحررت من نظراته الممتعضة..” (ص46)
إ ن السارد/ الناظم الفعلي يحكي، ينوع بين الضمائر، ينتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، من وجهة نظره الخاصة، وعن موضوع المسرحية، وعن ما فعله البطل في المسرحية فهو موجود في الواقع – حدث فعلا في الحياة – ثم يحكي عن حليمة وكيف تم اللقاء بينهما بصفتها زميلة في المسرح ثم زوجة. كما يبئر الشخصية الخارجة عن الذات، ذات مختلفة كالعجرودي والهلالي… إضافة إلى ممارسة (تقنية الاسترجاع). كما يبئر زواج ابنه عباس بتحية. كما يتم الانتقال من الفاعل الداخلي إلى الفاعل الذاتي. ويبئر فضاء المسرحية باعتبارها وجها آخر من وجوه الصراع الإنساني. ” آه هاهو الستار يرفع عن بيتنا، بيتنا دون غيره، هل أراده العجرودي كذلك أو انه عباس؟ الأب والام والابن انه ببساطة ماخور ونادي قمار. يوجد اكثر من الجريمة والخيانة، علاقاتها تتتابع مع المدير والمخرج والناقد وطارق رمضان. ذهلت لحظتها. أنفاسها تتردد في ثقل وخشونة انه الجحيم ” (74/ 75)
حليمة الكبش: قاطعة التذاكر
تولد من جديد من جوف السجن مع زوجها. إلى سطح الأرض، تحكي عن نفسها. تبئر ذاتها باعتبارها الفاعل الذاتي ” أولد من جديد، من جوف السجن إلى سطح الأرض. ويهل على وجه عباس فاحتويه بين ذراعي، ادفن وجهي في صدره مثقلة بالعار والخجل..” ص82.تحكي عن عائلتها عن زواجها بكرم يونس وعن علاقتها بالهلالي وطارق. إنها تبئر الشخصيات من وجهة نظرها تحكي عن المسرح عن البيت/ الماخور، عن الواقع، عن أشياء كثيرة تتصل بالحياة اليومية، تعوذ إلى الذاكرة ترمم بعض الصور… تستقيم تلك الصور كاملة.
تحكي عن المستقبل. إنها في حكيها عن كل هذه الأشياء، لا تنسى أن تحكي عن نفسها تبئر ذاتها في وجهة نظرها الخاصة (السير ذاتي)، تعوذ إلى الذاكرة ”…حليمة الجميلة بنت الجميلة. ابي يرجع حاملا شيئا طيبا تحبه الأنفس. وتقول أمي لأبى…
– دعها تستمر.. التعليم فرصة العمر.. ليتني وجدت فرصتي.. ويقول قريبنا الطيب عم احمد برجل..
– أصبحت البنت يتيمة.. الاستمرار في التعليم مشقة…” ص 90
حوار طويل حول اختفاء عباس والمسرحية، وكره طارق لعباس. إنها فتاة استثنائية في زمن مغمور بالفلسفة. أنجبت (المؤلف عباس) بعد زواجها بكرم. كثيرا ما تحدث نفسها عن ابنها (المسرحية عبارة عن مجموعة من اعترافات)وكثيرا ما تجعل نفسها موضوع الحكي، وكما يراها ابنها.. ولكن ما هذا الطوفان من الجرائم التي لم يدر بها أحد؟ وما هذه الصورة الغريبة التي يصورني فيها؟ أهذا حقا هو رأيه في؟ ما هذا يا بني؟ انك تجهل أمك اكثر مما يجهلها أبوك وتظلمها اكثر..” ص113.
عباس كرم يونس: المؤلف
يبدأ بوصف البيت القديم باعتباره رفيق عمره الأول..يبئر البيت من وجهة نظره.” البيت القديم والوحدة هما رفيقان عمري الأول، احفظه عن ظهر قلب، بوابته مقوسة الهامات، شباك المنظور ذو القضبان الحديدية بحجراته في الطابقين ذوات الأسقف العالية والعروق الخشبية الملونة. وبلاط أرضياتها المعصراني. أثاثه القديم الشاحب من الكنبة والشلت والحصر والأكلمة… ”ص124 .
يحكي عن نفسه وهو طفل صغير، تربى في المسرح، كانت أمه دائما توصيه بان يكون ملاكما، فولي أمره الحقيقي هو المسرح ثم الكتاب كانت له رؤية خاصة للحياة: ” الحياة هي معركة الروح ضد المادة ” ص104، والموت ” الموت هو الانتصار النهائي للروح ” ص104
ارتبط ارتباطا قويا بالبيت القديم الذي تحول إلى ماخور، لقد انتقلت ماسي المسرح إلى البيت بأبطالها أو ضحاياها الشيء الذي جعله يكره أباه إلى حد القتل. ” أود أن اقتله ” ص142.لقد اصبح يرفض كل شيء الأب ” القواد” والام ”الداعرة” اني ارفض أبوي، القواد الداعرة، لا أنسى أنني رايتهما وفؤاد شلبي يتهامسان مرة فلم يداخلني سوء ظن. ومرة أخرى مع طارق رمضان يداخلني شك. الجميع…الجميع-.. بلا استثناء.. لم لا؟ هي عدوى الأول. أبي مجنون مدمن أما هي فهي المدبرة لما يجري في الكون من الشر ” ص 146.
تزوج عباس بتحية وودع البيت القديم واهله بلا احتفال. ولم تخطر العودة إلى الجحيم على باله بدا يتخيل دنيا جديدة. ” أتخيل دنيا مباركة، بلا إثم، بلا اسر، بلا التزامات اجتماعية، دنيا تنبض بالخلق والإبداع والفكر وحدها، دنيا تحظى بالوحدة المقدسة فلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ذرية “ص 164.
يصله خبر إلقاء القبض على والديه، وقبيل المحاكمة يولد (طاهرا، في جو كئيب مكلل بالحزن والعار. ودخلا جداه السجن، وهو في شهره الأول، تمرض تحية وطاهر. تموت تحية وبعد أسبوع يلحق بها طاهر. وتكتمل المأساة الحقيقية ويشرع بعد ذلك المؤلف/ السارد بالتخطيط للمسرحية. ” شرعت في التخطيط لمسرحية (البيت القديم)/ الماخور (…) ليكن البيت القديم هو المكان، ليكن الماخور هو المصير، ليكن الناس هم الناس ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع. أيهما الأقوى، هو الحلم بلا شك. الواقع أن الشرطة كبست البيت. والعرض قتل تحية وابنهما. ولكن تمة قاتلا آخر هو الحلم. الحلم الذي ابلغ الشرطة، هو الذي قتل تحية، هو الذي قتل الطفل. الطل الحقيقي للمسرحية هو الحلم. هو الذي توفرت له الشروط الدرامية بذلك اعترف بذلك اكفر. بذلك اكتسب مسرحية حقيقية لأول مرة..” ص169.
ويخلق بذلك مسرحية حقيقية (أفراح القبة)لقد تمكن من معرفة الحقيقة الخفية، ثم رسم بذلك نهاية البطل. حرر رسالة المنتحر محتفظا بالسر لنفسه.
لكن بعد هذه الاحباطات يبعث من جديد، لقد صار في خلق جديد لا يعرف متى ولد وكيف ولد ولماذا ولد؟ لقد جاء البعث بعد رحلة طويلة، بعث غير معقول ولكنه حقيقة. لقد تطهر من د نس الماضي بالرغم من الفراغ والإفلاس، ومضى في الكتابة والتأليف بعد انتصار الحياة على الموت والصراع بين انقضاء الرغبة واشتعال وهج الكتابة.
إن هذا المقطع السردي الأخير يقدم لنا بواسطة سار د/ ناظم داخلي يمارس السرد والتبئير. يراقب البنية النصية ويمارس وظيفة الفعل السردي، ووظيفة التأويل فهو الذي ينظم السرد ويأطره في استرجاعه لأحداث الماضي، الماضي القريب الماضي الحزين الذي ينطوي على أسرار خفية شخصت في المسرحية التي تعتبر مجموعة من الاعترافات، كبناء سردي خاص والنص الروائي كبناء حكائي عام الذي يعد عبارة عن محاكمة. إن المنظور السردي المحدد في هذا المقطع هو السرد بضمير المتكلم فالسارد يمارس وظيفة السرد والتأويل يبئر الواقع والأحداث من وجهة نظره الخاصة كناظم ذاتي، كما تتضح راهنية السرد وتحيين القصة. حيث صوت السارد يسمع بين ثنايا الخطاب السردي، وبذلك تهيمن الرؤية الداخلية التي تعد نقدا للذات والواقع من خلال الذاكرة والحوار الداخلي كبنيتين أساسيتين داخل النص السردي. فالسارد/ الفاعل الذاتي هنا يعتبر استراتيجية نصية تضمن به الكتابة فاعليتها.
لقد انتقلت ماسي المسرح إلى البيت القديم بأبطالها وضحاياها. الناس في المسرح يتصارعون فوق الخشبة، أما هنا في البيت فيقفون صفا واحدا في جانب الشر. انهم ممثلون، لقد تحول البيت إلى ماخور ونادي للقمار، غنيمة في يد السفلة، إن جميع الشخوص هنا ترقص رقصة الموت، في حين يصفق عباس خارج الحلبة انه تدنيس للمقدس.
إن المسرحية تشخص الواقع الاجتماعي، الواقع المتعفن “لا يحيى حياة يسيرة إلا المنافقون، لقد بات البلد ماخوراً كبيراً. لم كبست الشرطة بيت كرم يونس وهو يمارس الحياة كما تمارسها الدولة؟ ” ص31. المسرحية إذا ” ليست مسرحية، هي الحقيقة، نحن أشخاصها الحقيقيون ” ص 8. كيف تزج الحكومة بنا في السجن من اجل أفعال ترتكبها هي جهارا؟ إلا تدير هي بيوتا للقمار؟ ” ص62.
يكتب السارد مسرحية تقدم عالما اسود من النساء الساقطات، عندما مسته تحية انبثقت من سعير نفسه فكرة هذه الدار العتيقة التي بناها الجد بعرق جبينه، كيف تحولت إلى ماخور، إنها فكرة مسرحية وهل تصلح أساسا لمسرحية؟ وهل تقوم المسرحية بلا حب؟ لقد وقع في اسر الحب وفاضت به رغبة كامنة في هجر البيت القديم، البت الملوث الكئيب، سينتقل من مقاعد المتفرجين ليلعب دورا في مسرح الحياة. عقد زواجه بتحية بعد إتمام المرحلة الثانوية. ودع البيت القديم واهله بلا احتفال وعمل ملقنا في الغرفة ولم تخطر العودة إلى الجحيم على باله وبذلك يكتب مسرحية حقيقية سماها ” أفراح القبة ” غير أن الانتحار الذي رسمه لنفسه ليس انتحار عباس يونس ” ولكنه مصير الجيل الجديد في نضال الانتقاد ” ص76.
فيما يخص اللغة في أفراح القبة فتتميز بوجود أجناس تتخلل النص.. عنصر التهجين، علاقات اللغات من خلال الحوار، الحوارات الخالصة، الصوت وضده. كلها تسهم في التعدد اللغوي وما يسير النص أكثر هو الشخصيات الأربعة التي تعد أهم عنصر لإدخال التعدد اللغوي. إضافة إلى الخطاب الثنائي الصوت الذي يتجلى في الصوغ الحواري الداخلي وفي التهجين، وفي الحوارات.
هذه الثنائية في الخطاب تكسر نوايا الكاتب، يقول صوته عبر أصوات متعددة. كما يتميز النص بوجود سرد استحضاري مع توظيف اللغة المشتركة، وهذا النوع من البناء أتاح للكاتب إخفاء صوته وتكسير نواياه. إضافة إلى لغة السرد والوصف من خلال جمل صغيرة، تراكيب شعرية، وكثافة اللغة (ص43-58-66-72.).والتزاوج بين اللغة المشتركة ولغة الاستبطان، تجسد الانتقال من سجل إلى سجل لغة عينة اجتماعية، التطابق بين اللغة والفعل، الانهيار والهبوط، السخط على الحال، التذكر النوسطالجي للماضي الجميل. كل هذا ساهم في تكون النص وفي بنائه التخييلي، واقع تخييلي له طابع تخصيصي يتقاطع مع الواقع المتداول والمعروف.
استنتــــــــــــــا ج
يبدو أن النص الروائي ”أفراح القبة “، من خلال هذه المقاربة المتواضعة، يشكل انزياحاً عن سلطة النص الإبداعي التقليدي بتكسيره لسلطة الحكي، مما يجعله قد ينفلت من الرقابة التصنيفية، ولعل هذا الانزياح يشكل قفزة جديدة ضمن الكتابة الروائية.
إن النص الروائي في بنيته النصية المفتوحة اصبح يستوعب بنيات خطابية متعددة ومتنوعة من شعري وسياسي ومسرحي. واستثمار نصوص تراثية مما ترتب عن ذلك تحول في البنية الشكلية الروائية.
لقد أصبحت الكتابة الروائية تستند إلى تفاعل الخطابات واللغات والأصوات. وعلى التصور الجديد لمفهوم الواقع داخل النص كبنية سردية وتحويل هذا الأخير واعادة نسجه بواسطة اللغة وتعاقبه مع نصوص تخييلية أخرى.
وأخيراً يمكن أن نسجل بعض الاستنتاجات من خلال هذه المقاربة لأفراح القبة كالتالي:
– المسرحية عبارة عن محاكمة، والنص عبارة عن اعترافات.
– الذاكرة والحوار الداخلي بنيتان أساسيتان في بناء النص.
– السرد عبر وجهات نظر متعددة لنفس الحكاية .
– إلغاء الوساطة التي يمكن أن يقوم بها السارد، وكذا الوساطة بين القارئ والمحكي.
– عدا تكافؤ الأصوات الأربعة في النص في المستوى الثقافي والتعليمي هناك تماثل في لغات الحكي عبر الفصول الأربعة.
هوامـــــــــــــش
* أفراح القبة – نجيب محفوظ – مطبوعات مكتبة مصر.
1- تحليل الخطاب الروائي – سعيد يقطين- المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى 1989 (ص 283).
2- نفس المرجع (285- 286)
3- نفس المرجع (ص286)
4- L univers du Roman Roland Bourneuf et Real quellet.
Presses universitaires de France 1972(p.85-86)
5 – آفاق مجلة اتحاد كتاب المغرب – طرائق تحليل السرد الأدبي عدد 8/9 1988
ص. 45.
6 Gérard Genette – Figure III Seuil 1972(p.207-208)
7- Gérard Genette- Nouveau discours du récit –seuil 1983 (p.90-95)
8-تحليل الخطاب الروائي – مرجع مذكور ص319.
9- نفس المرجع ص 294-295.
10-نفس المرجع ص 295-296
11 –نفس المرجع ص 301
12- نفس المرجع ص 309
* كاتب مغربي.