رجل وامرأة من هناك


*محمود شقير

خاص ( ثقافات )

ست قصص قصيرة جدًّا

سياحة

اسمي برنارد.
جئت أنا وماتيلدا مع السيّاح القادمين من بروكسل إلى القدس. أنا أعمل صحافيًّا وهي تعمل في مجال حقوق الإنسان. منذ خمسة أشهر وأنا لا أفارقها. أراها في الصباح وفي المساء. ننام معًا في شقّتها. تأتي إلى شقّتي في بعض الأحيان.
أقمنا في فندق اسمه جيروزاليم غير بعيد من سور المدينة. وفيما كنّا نتأمّل السور من نافذة غرفتنا، اقترحت عليّ أن نخرج لكي نتمشّى بالقرب من السور. خرجنا وكان الوقت منتصف الليل. لم يكن على الرصيف سوى قليل من الناس ودوريّة راجلة للجنود. حينما رأتهم انزعجت وتعكّر مزاجها. قبضت على يدي وقالت: هيّا بنا نعد.
عدنا إلى الفندق. تمدّدنا في السرير، وكان عليّ أن أبذل جهدًا غير قليل لتعديل مزاجها لعلّها تنام.

جولة

أخذنا الدليل إلى أمكنة داخل سور المدينة وخارج السور. ماتيلدا تضع قبّعة على رأسها وترتدي بنطالاً قصيرًا يكشف بياض فخذيها، وأنا أرتدي بنطالاً طويلاً ولا أضع على رأسي قبّعة. ماتيلدا تلتصق بي، وبين الحين والآخر تهمس قائلة إنّها وقعت في حبّ هذه المدينة، وأنا أقول لها إنّني وقعت في حبّها.
زرنا قصر أوغستا فكتوريا، وهو الآن مستشفى على جبل مطلٍّ على القدس القديمة. قال الدليل: شُيّد هذا القصر خصّيصًا لكي يقيم فيه الإمبراطور الألماني ولهلم الثاني وزوجته فكتوريا حينما جاءا زائريْن إلى القدس. تجوّلنا في ممرّات القصر وفي بعض غرفه، صعدنا إلى برج الكنيسة والتقطنا صورًا للمدينة. التقطتُ صورة لماتيلدا، وطلبت من الدليل أن يلتقط صورة لي ولها. احتضنتها والدليل التقط الصورة وأعاد إليّ آلة التصوير.
في الليل، وقفت ماتيلدا أمام المرآة، تأمّلت جسدها وقالت: ليتني كنت امبراطورة وليتك كنت الامبراطور. قلت وأنا أدنو منها وأمسّد شعرها: ما حاجتنا إلى ذلك؟ لكي نرى الدنيا من موقع أعلى. قلت: نستطيع ذلك بقليل من المران. كيف؟ قضيت نصف ساعة وأنا أدرّبها على الدور المطلوب. وأثناء ذلك تبادلنا كلامًا يليق بالمناسبة، ثم أكملنا طقوسنا بلا نقصان.

الدليل

أخذنا الدليل إلى المسجد الأقصى. أعجبتنا روعة المعمار الإسلامي وتفاصيله المدهشة. أخذنا إلى كنيسة القيامة. أعجبتنا الرسوم الموحية والسقف العالي وتجاور الشبابيك . ركعت ماتيلدا على ركبتيها وتلمّست بأصابعها بلاط المغتسل، وأنا ركعت إلى جوارها، ومن حولنا نساء ورجال ينتظرون دورهم للركوع. همست في أذني: كأنّني أراه أمامي وهو ينزف دمًا.
أخذنا الدليل وهو مقدسي اسمه إلياس إلى بنايات متجاورة من زمن العثمانيين. دخلنا بناية مخصّصة لإطعام الفقراء اسمها خاصكي سلطان. هذا المكان بناه الخليفة العثماني لتخليد زيارة زوجته روكسلانة إلى القدس قبل مئات الأعوام. التقطت ماتيلدا صورًا تذكاريّة. كانت ترتدي تنّورة فضفاضة وفي قدميها صندل بنّي اللون تظهر من خلاله أصابع قدميها الرشيقتين.
في الليل، ونحن نمشي قريبًا من سور المدينة، لم تنتبه إلى ثلاثة من المستوطنين المتّجهين صوب باب العامود، وإلا لتعكّر مزاجها. قالت: أنت لا تحبّني إلى الحدّ المطلوب. وما هو الحدّ المطلوب للحب؟ تُشيّد بناية باسمي كما فعل الخليفة أو قصرًا كما فعل الامبراطور. لكنّني أحبّك دون حاجة إلى ذلك. وما الدليل؟ الدليل ماثل في الليل وفي النهار.
اعترضت طريقي ونحن نمشي على الرصيف، عانقتني كما لم تفعل من قبل. وكان ذلك قبل منتصف الليل بقليل.

ملابس شرقية

ذهبنا أنا وماتيلدا إلى السوق. رحّب بنا التجّار المقدسيّون. اشترت ماتيلدا ثوبًا فلسطينيًّا أسود اللون عليه تطريز بالأحمر والأخضر، واشترت منديلاً أبيض. التمعتْ في رأسي فكرة وهي تخلع تنّورتها وبلوزتها لكي تجرّب الثوب الطويل، ويبدو أنّ الفكرة نفسها التمعت في رأسها. قالت وهي تشير إلى ملابس رجل شرقي معلّقة عند باب الحانوت: ألن تجرّبها؟ أجرّبها وأشتريها. اشتريت قمبازًا وحزامًا جلديًّا عريضًا وكوفيّة مرقّطة وعقالاً أسود.
جرّبتها وبدت ماتيلدا مسرورة وهي تراني في زيّ رجل شرقي. ضغطت على يدي بيدها كما لو أنّها تبلّغني رسالة ذات معنى خفيّ، فرددت على رسالتها برسالة مماثلة.
ولجنا غرفتنا في الفندق بعد المساء. خلعت ماتيلدا تنّورتها وبلوزتها في الحال، اغتسلت وسكبت عطرًا على جسدها وارتدت على مهل ثوبها المطرّز، ارتدته على اللحم وهي ترنو إلي، ثمّ عقدت المنديل على رأسها. وأنا ارتديت القمباز والكوفيّة والعقال، وكنت مثل فارس يتهيّأ للنزال.
استفقنا بعد ليلة لها مذاق خاص، وملابسنا الشرقيّة مبعثرة على الكرسي وعند زاوية السرير وعلى النافذة وفي مدخل الحمّام، وكنّا أنا وماتيلدا مثل أمير وأميرة أدركهما الصباح، فسكتا عن الكلام المباح وغير المباح.

قريبًا من مبنى الحلف

عدنا أنا وماتيلدا إلى بروكسل. افتقدنا شمس القدس. كان طقس تشرين الأوّل في مدينتنا ينذر ببرودة قاسية. أقمنا بالتناوب في بيتي وبيتها. ورحنا نتابع أخبار حلف الأطلسي، ونحصي اعتمادًا على الصحافة الإلكترونية وغيرها ترسانة الأسلحة التي يكدّسها الحلف. تمنّينا لو أنّ ثمن هذه الأسلحة أو جزءًا منه يجري صرفه على فقراء العالم، أو على أبنية أثريّة نال منها الزمن كما هو الحال في القدس.
كنّا نتذكّر رحلتنا إلى هناك. ولا يندر أن نرتدي في بعض الليالي ملابسنا الشرقية دون استيهامات، لأنّنا أدركنا الصورة الصحيحة للشرق بعد أن قرأنا إدوارد سعيد. كنّا نتوهّم من قبل أن الشرق وكر ملذّات وحريم.
تقول أحيانًا وهي تعتصر خيالها لكي تتوصّل إلى متعة أوفى: ليتنا لم نقرأه. وبعد لحظات تشعر بالندم. تعتذر منّي، وأنا أقبل اعتذارها وأبيح لها أن تفعل ما تشاء.

القدس مرّة أخرى

لسبب ما أو ربّما لأسباب عدّة فترت علاقتنا. أصبحت كبير المراسلين في إحدى الصحف في بروكسل. وهي تسلّمت مركزًا مرموقًا في إحدى منظّمات حقوق الإنسان. صرت أتأخّر في العمل ولا أعود إلى بيتي إلا عند منتصف الليل، ولا تكون ماتيلدا هناك. أفكّر بمهاتفتها ثمّ أستبعد الفكرة وأقصيها إلى الصباح. أدعوها لكي تتناول معي طعام الغداء، لا تلبّي الدعوة لأنّ لديها لقاء مع وفد ما.
وذات مساء، ذهبت إلى بيتها من غير ميعاد. وجدتها منهمكة في كتابة تقرير ما. قالت إنّها ستذهب في مهمّة إلى القدس، وستقيم فيها سنة قابلة للتمديد إلى سنتين أو ثلاث سنوات. قالت من باب التحدّي: هل تسافر معي لنقيم معًا هناك؟ هذا غير ممكن، عملي في الصحيفة لا يسمح لي بذلك (لم يكن كلامي دقيقًا).
استدركتُ واقترحتُ عليها أن أسافر معها مدّة أسبوع. وافقتْ على الفكرة من غير انفعال.
جئنا معًا إلى القدس. أقمنا في فندق جيروزاليم. وكانت لنا ليلة عابقة بالذكريات.
في الصباح التالي، ذهبنا إلى كنيسة القيامة. ركعت ماتيلدا على ركبتيها عند المغتسل، وأنا ركعت بالقرب منها. نظرت إليّ وبدت كما لو أنّها تتوقّع مني جوابًا على سؤال. اعتملت في نفسي مشاعر متضاربة. قلت لها لكي أحتمي من نظرتها: سأرتّب وضعي لكي آتي للإقامة هنا -إنْ استطعت- مندوبًا للصحيفة مدّة عام.
________
*روائي وقاص من فلسطين

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *