مصائر مدوّرة


*صالح العامري


1- فخاخ
-1-
هنيئاً لولاداتكم وزوالاتكم، هنيئاً للقمر وهو يلهم الشعراء، وللبحر الذي ينجب قوارب وسمكاً ومرجاناً وطحالب وأشنات ونوارس وسلطعونات وأمواجاً عاتية. هنيئاً للحشود التي تمضي على جسر لندن وتهطل في ممرات سور الصين وتكتظ في برج إيفل أو برج خليفة. هنيئاً للفلاسفة الذين قرضت الرمة كتبهم، وللاعبي كرة القدم الذين ابتلع الطوفان كؤوسهم، وللجنرالات الذين طيّرت الزوبعة نياشينهم وأوسمتهم وميدالياتهم الشرفية.
هنيئاً للمصيدة والفخ واللعبة المحكمة. هنيئاً للخيط الأعمى والسلة المثقوبة. هنيئاً للحرب التي تأكل حصاد سنوات السلام. هنيئاً للؤم البشريّ الذي يتحرك في غرائز مهربي البشر حين يتخلون عن ضحاياهم في منتصف البحر. هنيئاً للمسافر الذي نجا بأعجوبة بعد أن تخلف عن موعد صعود الطائرة التي تحطمت في السماوات الرحيمة. هنيئاً لأبي الشمقمق لأن اسمه موسيقيّ، ولأبي نواس لأنّه ينطق الراء غينا، ولغوتاما الذي فر من بيت أسرته الكبير ليستريح تحت شجرة تين. هنيئاً لنيتشه الذي ذبحته سالومي من الوريد إلى الوريد، لكنه على الأقل نطق بهذه العبارة: «الثعلب الحقيقي لا يقول فقط عن العنب الذي لا يستطيع بلوغه أنه حصرم، بل كذلك عن العنب الذي بلغه وأخذه أمام أنظار الآخرين».
هنيئاً للمسرات التي تلقم أفواه الأحزان فاكهتها الملعونة، وللأحزان وهي تضاجع الفرح على مرأى من الملأ. هنيئاً للألعاب المسمومة التي تستمر في قذف وجوهنا وأصابعنا بأحبارها البيضاء مثل نهاية فيلم تتعارك فيه أشياء مشوشة وأشياء ستولد الآن.
-2-
استرح -أيها الملدوغ بسّم الأفعى- على مرفق أرقك وقلقك، دع طائر النار ينهش بؤبؤيك، واصغ جيداً إلى انفجار رأسك وانطحان عمودك. وبرأس مدوّر، وساقين أخرقين امضِ في تلك الرحلة المفخخة، في طريق كوميدياك. لا تفرّط أيضاً بثروة لذائذك وكنوز ضحكاتك، واسق بالطيش مغارتك الأولى وأشجارك المغتصَبة، ارتعش كأنك طفل في مهد السخرية، ارقص ثملاً في ألعابك القزحية الموازية تماماً لانهيارك وانهيار العالم. امضِ فحسب، دون أن تصغي إلى القائلين بأن الموت جزء من الحياة أو تتمّة لدورتها، ولا إلى فكرة الخلود أو طعنة الإبادة. امضِ دون أن يضجرك دعاة استكمال ولادة الجماجم ولا رُعاة محو الأقفاص الصدرية أو زهوها.
-3-
كان له منخران يقذفان أنفاساً حارة، يزفر بهما في الصباحات الباردة، لكي تكتب البراري قصائدها والسهوب لوحاتها ولكي تغتبط الأحصنة وهي تروّض الزمن الموحش.
-4-
كانت قملة، قُدِّر عليها أن تعتاش على الدم وأن تلعق جماجم الكائنات. كانت كائناً مقدّراً عليها أن تحفظ دورها بحذافيره دون تفريط، وإلا كانت ضد الله والحياة والطبيعة. هل أخطأتْ في ذلك؟.
-5-
كان عصفوراً هرستْ رأسه رصاصة الصيّاد، لكنه قام يُحَيّي الفخ، مضمراً بصقة كونية على حلم الصيّاد.
-6-
كان العنكبوت المهندس يشرع في بناء شبكة خيوطه الحريريّة الزلقة، لكي تتدحرج بعد قليل تلك الذبابة البائسة في المصيدة المعسولة.
-7-
وكانت الذبابة، وقد وأتتها الفرصة قليلاً، ترفع قبعتها في ابتسامة جليلة، حيث قرّت أعينها واستراحت في قبضة السفّاح، مؤمنة بما لا يدع للشك سبيلا أن زلاجة القدر الحكيم قد أسلمتها إلى هناك، إلى الفكّ الكبير، إلى النهاية النهمة.
2- الرجل الضبع
أرقب عند حلبة النار وجهه الموسوس، مرتدياً غريزته الحائرة ورغوة قلبه المسدلة على أذنيه. تتصبب فزاعته بطعم البارود والسِّخام، ينعكس ظله على الأرض كما لو كان ذلك الظل قريناً غير مرغوب فيه أو نِدّاً شيطانياً خرج للتوّ من قمقمه القديم.
يَعبُر بحذر لأنه يتوقع في كل لحظة أنّ الأرض ستُطوى وأن الفخ منصوب في أعين القوم أو في برق الغابة. يَفترس، وهو منتصبٌ مثل خيال شاحب، عشرين لبؤة ضارية وعشرين من الحُمُر الوحشية وثلاثين غزالة، يعلكها في دماغه الصفيق، باصقاً أنيابها وأذيالها وحوافرها في وجه الأسد الملك، دون أن يعبأ برعشة تختلج في ساقيه أو خوف مزعوم يتشكل على هيئة دائرتين تحيطان بعينيه الثاقبتين.
لا يدبّ على الأرض، بل يعرج على عصا الهواء. لا يُفْرط في الصوت بل يتنزل ورقة خريفية ذابلة على سُرّة الطرقات. إنه بعصاب شائه وسيقان مغبرة، يستخدم تلك البلاغة التي ظل يكرعها من حليب أمه قطرة قطرة في كهوف النسيان وأوجار الأخطار، وبقوائم تعفنت في الصبر والأمل يمارس الانتظار اللامدروس، مؤكّداً في وقفته تلك- دون أن تطرف له عين- في إهاب شبحه الرمادي، على رقة انتصاره على الأعداء بمجرد الوقوف على العتبة التي يسيل لُعابها، بمجرد الوصول إلى الروائح الممزقة.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *