قصص «كأن أمضي خلف جثتي» لعيسى الجابلي: حوار الخيال والوقع


*رياض خليف


يتخذ عيسى الجابلي مكانه في الساحة القصصية الجديدة بهدوء… ويعتبر من الأسماء الجديدة التي استطاعت لفت الانتباه، رغم حداثة تجربته، خصوصا بعد فوز مجموعته القصصية الأولى «قصائد لأزياء السيدة س»، بجائزة وطنية مهمة نافس فيها العديد من الأسماء الراسخة في مجال القص والسرد. 
وها هو يمضي هذه الأيام في مشروعه القصصي من خلال مجموعته الجديدة الصادرة مؤخرا والتي وسمها بـ»كأن أمضي خلف جثتي»، وهي مجموعة قصص يتجسد خلالها حرص الكاتب على التبعيد وكتابة قصة تمتد بينها وبين الواقع، مسافات من التخييل، وينكشف بين ثناياها الحس التجريبي الذي يرافق الفعل الإبداعي عند عيسى الجابلي، ولعله هنا ينحو منحى القول الذي أورده عن الجاحظ في التصدير حيث «الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب وكلما كان أعجب كان أبدع».
ولعل هذا التوجه يغمر كامل المجموعة، حيث ترافق القارئ خيبة أفق الانتظار في ردهات كثيرة من العمل، ولعل هذه الخيبة تعتبر منجزا إيجابيا في نظريات التلقي، حيث يعتبرها ياوس علامة نجاح للنص… 
فالقارئ سيكتشف منذ العتبات، وتحديدا العنوان الرئيسي أن للكاتب نزعة غرائبية، حيث يعانق المتخيل اللامعقول واللامنتظر، ويرسم صورا متحررة من قوانين المنطق والواقع والطبيعة، وللقارئ أن يلمس في قصص هذا العمل إرهاصات كثيرة من هذا التوجه، حيث تكون اللغة وحدها سيدة الموقف فلا يمكن للإنسان أن يمشي خلف جثته بطبيعة الحال، وإنما هذا الأمر هو ضرب من التخييل اللغوي، وإنشاء عالم خاص بالنص يقطع مع المستحيل.
والحقيقة أن الوقوف عند غرائبية هذا العنوان لا يحجب عنا ما فيه من سوداوية وقتامة لا تغيب عن مختلف العتبات الأخرى، مثل الغلاف الأسود والإهداء المكلوم حيث يتردد الموت والقتل «سفر الموت في جسد القتيل»، وتحضر صورة ضحايا بشاعة العصر، من خلال توجيه جانب من الإهداء إلى الطفل إيلان السوري. كما يمكن أن نتبين هذه القتامة في العناوين الداخلية للقصائد التي يطغى عليها معجم الموت فمنها «كأشباح الموت أو أدنى قليلا»- الموت خلسة- ميتة تلقائية – المسدس الأسود والشلال – عراجين الموت»… إنها قتامة ظاهرة في مختلف العتبات، ولا تغيب عن متون النصوص، حيث يتخذ الكاتب من عالم الموت والموتى متخيلا تدور في كنفه مجموعة من القصص، ولكنه لا يوظفه بطريقة تقليدية وإنما يسرى منه إلى عالم اللا معقول والغرائبي، فيحرك الجثث وينطق الموتى ويجعلهم في حوار مع الموت ومع الواقع… لهذا تحضر شخصية الراوي الميت في عدة قصص، وهو ما نتبينه من بعض الأمثلة ففي قصة الموت خلسة يقول:
«قبضوا عليّ ميتا في إحدى المغازات» 
وفي قصة «متاريس العتمة» يؤنسن الموت ويعطيه صفات إنسانية ويتحاور معه:
كان الموت صاحبي وخليلي»
لم أجد جارا أبر ولا رفيقا أقرب منه إليّ، لذلك رأيته في تلك اللحظة السوداء يحمل نعشي مع الرجال وظلمة صفراء تكتشف وجهه»
وهو ما نجده في قصة «خذني معك»: «دقت الساعة السادسة مساء كنت قد اعتذرت لعزرائيل عن سوء الفهم الذي حصل بيننا وتعللت له بأنني لم أكن على علم بأنني جثة وبأنني كنت أنوي الموت فعلا، وأنه ليس في نيتي أن أخدعه».
وفي قصة «ميتة تلقائية» يسند لعزرائيل شخصية مدنية تجارية، ويجعل له دكانا ويمزج القصة بخطاب الإشهار العصري ويربطها بمواسم التخفيض، «دخلت دكان عزرائيل ضحى…بقي يومان عن نهاية التخفيض الموسمي في أسعار الموت، وعليّ أن اغتنم الفرصة الأخيرة…» .
والحقيقة أن مظاهر توظيف الموت وملاعبته أدبيا متعددة في هذه المجموعة، وهي تضفي على هذا العمل مناخات جنائزية، لكنها تحدث الكثير من الجمالية الأدبية، من خلال ما تفتحه من أفق لاستعمالات مجازية وخيالية جديدة، أو غير مستهلكة. ولكن انغماس المجموعة في الغرائبي واللا معقول وفي مراسم الموت لا يحجب ما في ثناياها من رجوع إلى الواقع اليومي واستعادة للهامش الاجتماعي وتوظيف للذاكرة ومقابلة ذكية للمتخيل العجائبي بالواقع على نحو ما نجده في هذه القصة: «في ذلك الزمن البعيد أرى عزرائيل طفلا صغيرا في أسمال بالية مثلي يذهب معي إلى المدرسة يقص عليّ أخبار آخر الطيور التي اصطادها…».
حيث يوظف الكاتب في هذا المقطع متخيل الطفولة وزمن الدراسة في الريف وسنوات الفقر وهو ما يجعل القارئ لا يعدم الواقعي في هذه الأقاصيص، ويتبين ملامح النص الواقعي في هذه التجربة القصصية التي لم تفها هذه السطور حقها، ولم تتوغل في أغوارها استجابة لمقتضيات مساحة النشر.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *