هل الترجمة مقياس لجودة الشعر؟


*حسين بن حمزة


الشعر يخسر عندما ينتقل من لغة إلى أخرى. لا أحد يجادل في هذه المقولة التي باتت بديهية، ولكن ماذا يخسر الشعر فعلاً؟ وما نوعية هذه الخسارة التي يصعب جمعها والإحاطة بها كلها؟ لم يتوقف الحديث يوماً عن «الخيانة» الملازمة لأي ترجمة وخصوصاً ترجمة الأدب، وبالأخص أكثر ترجمة الشعر. هي «خيانة» لا بد مفرّ منها، خيانةٌ أثنى عليها ذات يوم الشاعر والمترجم الراحل بسام حجار في كتاب ثمين بعنوان «مديح الخيانة»، إلا أنها داخل لحظة مديحها ستظل تحظى بالنقاش حول ما يستعصي على الترجمة، وحول ما ينتقل من الأصل إلى لغة أخرى محمولاً على شوائب ونواقص، وأحياناً على تزويقٍ وتجميلٍ وتعديلٍ يفتقده الأصل. الترجمات المتعددة للنص الواحد تكشف كيف أن ذائقة المترجم وثقافته تلعبان دوراً أساسياً في اختلاف تلك الترجمات، بل إن المترجم الواحد قد تكون لديه احتمالات عدة يضطر إلى الاختيار بينها وتفضيل واحدة منها في النهاية. وأحياناً يتعلق ذلك بكلمة أو جملة أو صورة شعرية واحدة، وليس بالنص الشعري كله. داخل هذه التصورات التي يمكن التوسع أكثر فيها طبعاً، فكرنا أن نتفحص الخسارة أو الخسارات التي يتعرّض لها الشعر العربي في انتقاله إلى لغاتٍ أخرى، أو لنقل نسبة هذه الخسارة المتعلقة بتجارب ونصوص معينة تبدو خسارتها حتمية، بينما تبدو تجارب ونصوص أخرى في منأى عن هذه الخسارة، أو تبدو خسارتها أقل بكثير من سواها. اختصرنا ذلك في سؤال: ماذا يخسر الشعر العربي في الترجمة؟ وهل يمكن اعتبار الترجمة مقياساً حاسماً (ليس وحيداً بالطبع) لقياس جودة الشعر؟ فيما يلي شهادات لثمانية شعراء عرب يعملون في الترجمة أيضاً، وهي منشورة بالترتيب الأبجدي لأسمائهم الأولى:
عُري لؤلؤة… أو عُري جثة
أحمد شافعي
لو كان روبرت فروست قال إن من الشعر ما يضيع في الترجمة لصدق، لكنه قال إن “الشعر هو ما يضيع في الترجمة” فوجب الاختلاف معه. لا شك أن شعراً يضيع في الترجمة. فما لأمٍّ مصرية مثلاً أن تهدهد طفلها بتهويدة مترجمة، وما لمتظاهر في ميدان التحرير أن يجد شعاره في شعر مترجم.
مثل هذه الاستعمالات الصغيرة (والمهمة) تحتاج إلى شعر غير الذي تصقله الترجمة وتصفيه، وتصل به بعد رحلته وهو لا يزال شعراً، وشعراً عظيماً.
كلنا قرأنا الهايكو، وعرفناه، وفي رؤوسنا منه ما غيَّر العالم أمام أعيننا، وغيَّر وعينا أمام العالم. مع أنني أراهن أن أحداً منا لم يقرأه قط في سبعة عشر مقطعاً صوتياً موزعة على ثلاثة سطور. كلنا نعرف كفافيس، وريتسوس، وشكسبير، ورامبو، برغم أننا لم نقرأ إلا نعيم عطية ورفعت سلام ومحمد عناني ورمسيس يونان. فكيف حدث ذلك؟ كيف تهيَّأ لشعرهم أن يصل بعد رحلته من لغة إلى لغة، وأحياناً من لغة إلى لغة إلى لغة، وهو لم يزل شعراً؟
إجابتي أنا هي أنه كُتِب منذ البداية بهذه النية. كُتِب موجَّهاً للإنسان، لا في أي مكان وأي لغة وحسب، بل وفي أي زمن. أوقن، شخصياً، أن قصيدة لشمبورسكا كان يمكن أن تقرأ باليونانية في طروادة المحاصرة فتؤثر في قارئها مثلما تؤثر أبيات هوميروس بالعربية في أنا الآن. هناك شعر يكتب منذ البداية وفيه رسالة تحوِّلُ كل قارئ لها في أي لغة إلى “من يهمه الأمر”.
هناك شعر جماله يتجاوز لغته. هناك شعر لا يلتصق بثقافته المحيطة المباشرة الالتصاق الذي يمنع انتقاله منها إلا مثقلاً بالهوامش شأن البحوث والمقالات. هناك بالأحرى شاعر يعرف موقعه الحقيقي من العالم، يعرف أن وطنه أوسع من بلده، وأن جمهوره أوسع ممن لا يطربون إلا لألاعيبه اللغوية.
هناك شاعر يعرف وهو يكتب قصيدته أن هذه القصيدة قد تتعرض لامتحان الترجمة الذي تصادفك القصيدة بعده عارية، فإما عري لؤلؤة، أو عري جثة.
ولا أحسب أحداً تعلم هذا الدرس مثلما تعلمه شعراء قصيدة النثر المعاصرون. وأثق، شخصياً، أن قصائد لشعراء مثل عماد أبو صالح أو فتحي عبد السميع أقدر على الوصول إلى خارج اللغة العربية من كثير للغاية من الشعر العربي السابق على قصيدة النثر. قصيدة النثر المعاصرة، في نماذجها الناضجة الواعية، قصيدة تخاطب الإنسان العاري من قشرة اللون والجنس والجنسية والدين والزمن. وهكذا هو الشعر الذي كان يعنيه جوتة حين تكلم عن زهرة اقتلعها من الحديقة، ثم وضعها في ماء بيته الخاص، وثمة أينعت من جديد.
* شاعر مصري
فقدٌ لا علاج له
أحمد يماني
ذات يوم كنت أتحدث مع الشاعرة والناشرة المكسيكية جانيت لوثانو عن ترجمة المستعربة الإسبانية لوث غوميث لمختارات شعرية لعباس بيضون تحت عنوان «دقيقة تأخير عن الواقع»، صدرت لدى دار النشر التي تديرها الشاعرة المكسيكية. ما قلته لجانيت تحديداً إن الترجمة رائعة بكل المقاييس وبذلت فيها المستعربة الإسبانية جهداً كبيراً ولكن لغة عباس بيضون القوية والخاصة في اللغة العربية لا تظهر في النص الإسباني وكيف لها أن تظهر من الأساس؟ ولكن يظل شعر عباس بيضون قوياً في الإسبانية أيضاً. لا تُخطئه العين الخبيرة لكنها لن تعرف أبداً كيف تتشكل لغة بيضون العربية. أعتقد أن هذا ما يحدث في ترجمة الشعر من فقْد، فقدٌ لا علاج له، مهما كانت الترجمة عظيمة؛ أنت تفقد لغة الشاعر، أسلوبه باختصار، طرائقه ومساراته وتشكيلاته وتفضيلاته اللغوية، تفتقد هذه الحلاوة.
يمكننا أن نتخيل الأمر نفسه، بشكل موسع، مع ترجمة المتنبي إلى اللغة الإسبانية والتي قامت بها المستعربة الإسبانية ميلاغروس نوين بالمشاركة مع الشاعرة المعروفة كلار خانيس، وبمقدمة من أدونيس، مترجمتين مائة قصيدة وقصيدة للمتنبي. المتنبي يفقد أكثر بكثير من عباس بيضون عند ترجمته للإسبانية، يصبح أكثر ليونة وأكثر عاطفية، في لغة يصفها كارلوس فوينتس الروائي المكسيكي بأنها عاطفية من الأساس، على أن المتنبي لن يستحيل كذلك في الإسبانية إلى صوت كوني إنساني وكأن الفقد هنا مزدوج. لا يعود هذا بالطبع إلى جودة الترجمة من عدمها وإنما إلى طبيعة شعره نفسه الذي يفقد الكثير حين يغادر العربية. هنا، بطبيعة الحال، لا يمكن اعتبار الترجمة كأحد مقاييس جودة الشعر.
لكن ثمة شاعر آخر، كما قلت ذات مناسبة، تحنو عليه اللغة الإسبانية ويبدو وكأن أشعاره كتبت بها مباشرة، إنه محمود درويش الذي لا يفقد شيئاً تقريباً عند ترجمته لهذه اللغة. ربما لهذا، وليس فقط لكونه الصوت الفلسطيني، فإن درويش يظل هو الشاعر العربي الأهم في اللغة الإسبانية.
الشاعر والمترجم الكولومبي نيكولاس سويسكون (1937) يردّ على مقولة روبرت فروست قائلاً إن “الشعر ليس هو ما يضيع في الترجمة ولكنه بالتحديد ما يبقى منها”. مقولة قد تنطبق على البعض فقط وليس على الجميع.
* شاعر مصري
مَن يخسَرْ يربَحْ
جولان حاجي
أغفل القدماء الشعرَ في ترجماتهم عن لغات أخرى. ترجم العرب أرسطو ولم يقربوا هوميروس، ولعل لغات عديدة عرّفت الشعر بأنه ما لا يُترجَم أو ما لا يُنقل، وجعلت من هذه الاستحالة تعريفاً ومعياراً أو دليلاً على الأصالة أو حتى باباً إلى الفخر. المتنبي وفرانسوا فِيُّون وكيبيدو وفريد الدين العطّار وكلاسيكيون آخرون تُرجموا وحوّروا وفقدوا ألقهم بغير لغاتهم الأولى، تلاشى وقع الكلمات ومذاقها، وتبدّدَ ما تضمره وما تختزله؛ الخسارات في مثل هذه الحالات موسيقية أولاً، وهي محتَّمة غالباً ولا تعوَّض، فالبحور والأوزان تتباين بين اللغات (بين لغة كالعربية واللغات اللاتينية أو الرومانسية مثلاً)، لولا أن الترجمات الموزونة للشعر الموزون قد بادَتْ تقريباً، وما عدنا نصادف مَن يميل في الترجمة إلى بحور الخليل (هذا إذا أجادها المترجمون)، كما اختيرت في القرون الماضية عند تعريب الإلياذة أو رباعيات عمر الخيام.
إذا كانت الكتابة لعباً، فترجمة الشعر (ولنتذكر بول تسيلان الذي ترجم بدوره شعراء كثيرين) هي “لعبةُ مَن يخسَرْ يربَحْ”، لأنها تخلق شاعراً آخر في لغة أخرى، وقد تخلق أشباهاً أو أقنعة موتى، تحت اسمٍ واحد يتعدّد صاحبه، حياً أو كسيحاً أو ميتاً. ففي الترجمة، لا يخسر سيفيريس مثل ريتسوس أو كافافيس (والأخير عدّه أودِن بين الشعراء القلائل الذين يبقون أحياء بعد ترجمتهم إلى لغة أخرى)؛ وخسارات عباس بيضون أو محمد الماغوط أقلُّ من سليم بركات بما لا يُقاس؛ أما شاعر مثل سركون بولص، أقام في عدة ألسنة وترحّل بينها وترجم نفسه بنفسه، فالترجمة في صميم كتابته (ولعله في وفرة ترجماته الشعرية قد احتذى بنصيحة إزرا باوند لـ و.س. مروين). ما يمكن أن يُنْقَل قد يتجمّل تحت أضواء لغة أخرى ويبقى حيّاً، بصوره ومَشاهده ورموزه وأثره النفسي، وإذا صحَّ أن لكل شاعر لغته داخل اللغة، فكتابة الشعر ترجمة مستمرة داخل القلوب العديدة الحية للغة الواحدة، وما مِن لغة لم يزوّد المترجمون جسدَها، كمتبرّعين منسيين غالباً، بدماء غريبة خلّصتِ اللغة -لحسن حظ الجميع- من لعنات الأصول النقية.
* شاعر سوري
فتنةٌ
رشيد وحتي
1. في الشّعر — دون غيره من الأنواع الكتابيّة — أحجيّةٌ، تجعل قراءته متجدّدةً، لا تُستنفَدُ، لا نهائيّةً.
2. ترجمات الشّعر تشيخ، كالصّورة في المِرآة، وتبقى المرآة صقيلةً. لذلك تجددُ الأمم الحيّة، دوريًّا، ترجماتها للنّصوص الحيّة.
3. لكلّ أمّةٍ حالةٌ شعريّةٌ — تتمحور حول كلمةٍ/مفهومٍ — تستحيل ترجمتها لأنّها من جوهر تلك الأمّة ثقافةً/ لسانًا: الــ witz الجرمانيّ، الـ duende الإسبانيّ، الـ saudade البرتغاليّ.
4. الفتنة — سلباً وإيجاباً — جوهر كلام العرب.
5. في تاريخ الشّعر العربيّ، تَصَارَعَ الأنبيّاء والشّعراء على همهمات السّماء [أميّة بن أبي الصّلت، قسّ بن ساعدة، الـمتنبّي، الـمعرّي…].
6. فتنة الكلام الّتي لا تمرّ من لسانٍ للسانٍ: معلّقات الجاهليّين [كيف لمترجمٍ أن ينقل الإيقاع الهادر، المحاكاة الصّوتيّة في: “مــكــرٍّ مــفــرٍّ مــقــبــلٍ مــدبــرٍ مــعــاً/ كــجلـمود صـخرٍ حطّه السـيل من عل”، كيف له أن ينقل — فقط! — شطراً يكاد لا يقول التّكرار فيه شيئاً، إلى لغةٍ لا تقبل التّكرار: “عوى الذّئب فاستأنست بالذّئب إذ عوى”.
7. تترجم النّصوص ترجمةً تصمد طويلاً في وجه الشّيخوخة عندما تستقلّ نسبيّاً عن الأصل: ترجمة الملك جيمس للكتاب المقدّس، ترجمتا بودلير ومالارمي لپّو، ترجمة فيتزجيرالد لرباعيّات الخيّام.
8. استناد الشّعر العربيّ للوزن بين حركةٍ وسكونٍ مع نظام شطرين وتقفيةٍ يجعل ترجمة كلّ ما بين الجاهليّين والجواهري شبه مستحيلٍ، خصوصاً في لغاتٍ يستند إيقاعها للنّبر.
8 مكرّر: جرّبت ترجمة بعض سونيتات بودلير نثراً… رُحمَاكِ أيّتها الآلهة لِعظيم خطيئتي!
9. هل غنوص أنسي الحاج الشّرقيّ/الـمسيحيّ/التّجديفيّ قابلٌ للتّرجمة؟
* شاعر من المغرب
الشعر يربح
شاكر لعيبي
ترجمة الشعر ضرورة، ونعرف جميعاً لماذا. عبارتنا تداعب جملة كوكتو الشهيرة “الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا”. لكن الشعر يخسر ويربح بالترجمة في آن واحد، ليس فحسب من باب معرفي وثقافي، إنما أيضاً من منطلق محض شعريّ، ذلك إذا اعتبرنا الترجمة كتابة جديدة رفيعة (وليس إعادة كتابة) لنصٍّ أصليّ. أعتبر أن قصيدة بو «الغراب» بالفرنسية هي نص فرنسيّ، قَدْر ما هي نص إنكليزيّ. ولن أتحدث عن ترجمات شكسبير البارعة إلى العربية التي صارت نصوصاً عربية. ما هي عملية “التأويل” الترجميّ المعروفة إذا لم تكن قراءة ووجهة نظر ذاتية؟ وما هي “جماليات الترجمة” التي يتحدث عنها بعضهم، إذا لم تكن تحويلاً جمالياً ذاتياً من أفق ثقافيّ لأفقٍ، مع ما يستوجب هذا التحويل من فهم عارف ومزاج شخصيّ للمشكلة الجمالية المُعقّدة برمتها؟
بهذا المعنى الشعر يربح، أي أن الحقل الشعري العريض رابح، لكنه (وأظن أننا نتحدّث عن ترجمات “جيّدة” حصراً) يخسر التالي: “المزاج الثقافيّ” العام اللصيق بثقافةٍ وأمةٍ وشعب، وهذا تاريخيّ موضوعياً وذو ظلال طويلة مُلوّنة عاطفيّاً ويتكوّن من طبقات إيتيمولوجية ويُعاش قبل أن يُترجَم. ولكلٍّ من التاريخ والظلال الملوِّنة والطبقات الأركيولوجية والعيش أفكر بأمثلة صارخة من اللغة الفرنسية، لا مجال لسردها هنا. عند ترجمة بيت المتنبي الشهير “والخيل والليل والبيداء تعرفني – والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ” للإنكليزية أو الفرنسية سنخسر طاقة “المزاج الثقافيّ” العربيّ، الكلاسيكيّ برمتها.
وهذا نفسه، بشكل عام ما يمكن أن يخسره كذلك الشعر العربيّ الحديث المترجم. هذه المشكلة ليست سياقية فحسب. ولا تتعلق فقط بالمخيلة: الاستعارة والصورة الشعرية، مع أن السياق والمخيلة يتظافران عند ترجمة الشعر العربي الحديث بإعطاء صورة زائفة أحياناً عن الشعر والشاعر. عجبتُ مراتٍ أن يُعجب أوروبيون بشعر عربيّ حديث مترجم رغم بُهُوته في لغته الأم. وأعتقد أن هناك من يتفق معي. عجبتُ كذلك أن يُترجم شاعر مفرد فرد بجهد علاقاته مع أوروبيين من الرجال والنساء خاصة، من دون اعتبار حقيقيّ للسياق الثقافي العربيّ، ثمّ مزاجه النفسيّ والروحيّ العميق، ولا بدرس متخصص عن طبيعة الاستعارة شيوعاً أو ندرةً في الكتابة العربية العربية الحديثة، وهذه تسمح بمعرفة أعْمق لطبيعة هذا الشعر المُترجَم.
لماذا نُعجب أوروبياً بشعر لا نُعجب به عربياً؟ هذا سؤال آخر أخشى أن يخرج عن قدراتي في تقديم إجابة، مع أنني أجيب عن مسألة «الربح» هنا وليس «الخسارة»، أجيب بالمقلوب الذي أعتبره خير سبيل لمجاراة السؤال.
* شاعر عراقي
حتمية الخسارة
شوقي عبد الأمير
أعتقد أنّ ترجمة الشعر تطرح إشكالية معقدة وهي أن القصيدة ليست معنىً لكي يتم استبداله في مفردات وجمل لغة اخرى.. إنها شكل قبل أن تكون معنى وهذا الشكل مرتبط بخصوصيات لغته الأصل.
من هنا تبدأ العقدة وحتمية الخسارة في الانتقال الى اللغة الجديدة.
كما أن هناك مشكلة عند المتلقي ذلك أننا، عندما ننقل نصاً «ناجحاً» بمقاييسنا، نفترض أن يكون كذلك في اللغة الاخرى وهذا افتراض وهمي لأن ثقافة وحساسية القرّاء تتفاوت وتتباين كثيراً بين اللغات. أضف الى ذلك أن كثيرين يعتقدون ان اللغة هي القاموس وأن مجرد استبدال المفردات والجمل بمثيلاتها في اللغة الاخرى تتم عملية النقل.
إن اللغة بالاضافة الى القاموس هي منطق ومنطق كل لغة يختلف عن آخر.
«الجو جميل» باللغة العربية إذا نقلتها حرفياً الى الفرنسية لا تُفهم كما في العربية لأن منطق الفرنسية وطريقة تعبيرها تختلف.. هذا في عبارة بسيطة، فكيف إذن في الشعر وتراكيبه المعقدة؟
من هنا أقول ان ترجمة الشعر يجب أن يقوم بها شاعر أو تحت إشراف شاعر. وأنها يجب ألا تكون قاموسية بل تحريرية قائمة على شاعرية اللغة التي ينقل اليها النص.
من هنا أؤكد أن القصائد التي لا تقوى على العيش في هواء اللغات الاخرى هي بالضرورة نصوص ذات قيمة أقل لأنها «تتعكز» على عناصر خاصة باللغة التي كتبت فيها فقط كالتفعيلة والجناس والاستعارات التي لا تقبلها كل اللغات. إن ما تخسره القصيدة في لغة أخرى – وهي تخسر بالضرورة – ليس جوهرياً في الشعر ولهذا يجب ان تظل – اذا ما ترجمت بشكل ناجح – حية في اللغة الجديدة.. اما اذا ماتت بسبب الترجمة فهذا يعني أن «حياتها» في اللغة الأصلية ليست راسخة ولا عميقة.
إن ترجمة القصيدة تشبه عملية لقلب مفتوح، يمكن أن تموت أثناء العملية أو أن تحيا وذلك ليس عائداً الى قوة القصيدة فقط إنما ولبراعة الجراح..
ولهذا قلت أعلاه لا بد من شاعر لترجمة الشعر…
سأعطي مثلاً: عندما ترجمت مقاطع من «مفرد بصيغة الجمع» لأدونيس الى الفرنسية نقلت العنوان حرفياً في بادئ الامر ظانّاً أن الامر سيكون سهلاً.
Singulier en forme de pluriel 
هكذا بدا الامر دقيقاً وأميناً… ولكن عندما قرأ صديقي الشاعر الراحل سيرج سوترو الترجمة قال لي «هذه كلمات فرنسية وجملة صحيحة قواعدياً لكنها غير مفهومة». وعندما شرحت له صيغ الجموع العربية انتبه الى نقطة أساسية وهي التي تتعلق بمنطق اللغة كما أسلفت وهي أنه لا توجد صيغ جموع بالفرنسية وإنه يكفي أن تضع S أو X للجمع. ولهذا فإن الترجمة الفرنسية الناجحة للعنوان ستكون Singuliers أي بإضافة S فقط. ولأن إضافة S الجمع الى كلمة مفرد أمر غير مألوف فقد أعطى شحنة شعرية للعنوان.
أتذكر وهذه للمفارقة أن جاك بيرك عندما ترجم الديوان كاملاً نقل العنوان الذي ترجمته مع سوترو كما هو ولم يُشر الى المصدر.
* شاعر عراقي
ما الربح؟ ما الخسارة؟
عبدالكريم كاصد
في الترجمة كما في الحياة تلتقي النقائض، لتدخل في جدل مستمر وفي تركيب سرعان ما ينحلّ من جديد ليعاود حياته ثانية في تركيب آخر.. في ترجمة آخرى..
يرى الأديب والمفكر الراحل أمبرتو إيكو في كتابه الطريف الممتع (Mouse or Rat?) أن الترجمة ليست خسارة حسب، وإنما هي ربح أيضاً، كما يقول عنها في مكان آخر من الكتاب ذاته إنها تفاوض Negotiation ولن يكون هناك تفاوض إن لم يكن المفاوض بارعاً. وفي التفاوض بين النص الأصلي والنص الهدف ثمة مسافة قد تطول وقد تقصر. وداخل كل هذا التشابك يحرص المترجم أن يكون بارعاً في خفائه وتجليه لئلا يطغى ظله على ظل النص وصاحبه.
هل كانت ترجمة الخيام إلى الإنكليزية خسارة وخيانة؟
قال لي أحد الأصدقاء الإنكليز وهو ناشر أيضاً ويجيد الفارسية إجادة تامة إن الترجمة الإنكليزية أفضل من الأصل. قد يبالغ، ولكنه من جهة أخرى يعبر عن إعجاب مبعثه الربح الذي يتحدث عنه إيكو وآخرون. لقد دخل الخيام إلى صلب اللغة الإنكليزية.. إلى “سِستمها” أي نظامها عبر ترجمة فيتزجرالد، وهذا ما لم يحدث لشعر آخر عربيّ أو غير عربيّ، على الرغم من أن فيتزجرالد لم يسمع اللغة الفارسية منطوقة بل تعلمها من خلال الكتب.
لم يدخل المعري ولا المتنبي في سيستم اللغة الإنكليزية فهل نقيمهما عبر واقعة كهذه، أم إنّ ثمة مقاييس أخرى للترجمة والشعر. أين نجد هذه المقاييس؟ وهذا سؤال آخر لا علاقة له بمضمون السؤال المطروح؟ لأن وراءه شبكة من التعقيدات ابتداءً بالمترجم وليس انتهاءً بالمؤسسات العربية والأجنبية معاً.
تحضرني هنا مناقشة الشاعرة والناقدة المعروفة كاتلين رين لترجمة إليوت شعر سان جون بيرس، في كتابها (دفاعاً عن الينابيع القديمة)، فهي على الرغم من إعجابها بترجمته تأخذ على إليوت عدم إدراكه لبساطة صور سان جون بيرس الواضحة، كما تأخذ عليه استخدامه الألفاظ المشحونة بمعانٍ إضافية لاستدعاء الماضي في كل لفظة وصورة في قصيدة تنتسب صورها إلى طبيعة بلا ماض ولا تاريخ حيث المتحجر والعابر شيء واحد في حضوره الآن.
ترى ماذا ستقول عن بعض ترجماتنا التي نقلت شعر سان جون بيرس بلغة قرآنية أو تراثية؟ وهل خسر سان جون بيرس كثيراً في هذه الترجمات؟
أذكر هذا لكي أدلّل على مدى تعقد مسألة الترجمة وما تطرحه من تساؤلات شائكة، لذا أرى أنّ من الأفضل لنا وللترجمة أن نكون أكثر احتراساً في أسئلتنا خشية أن تفضي بنا إلى أجوبة خاطئة.
*شاعر عراقي

التخفيف من نسبة الخيانة
محمد علي اليوسفي
كل اللغات أو معظمها تتشابه في وجود صيغ عامة وأخرى خاصة ولصيقة بكل لغة. ولعل الترجمة تكتشف، وتكشف، هذه الخصوصيات التي يعاني منها المترجم كثيراً، لا سيما إذا كان مُكرهاً على ترجمة ما بين يديه، وليس أمام إمكانية انتقاء نصوص معينة يتحكم فيها فلا تتحكم فيه.
وكأمثلة من اللغة العربية، ولا تعنيها وحدها طبعاً، نستطيع ذكر الأوزان الخليلية وكل أشكال المحسنات البديعية (من سجع وجناس وطباق وغير ذلك) التي تفقد صياغتها الأم في اللغة المنقول إليها.
إذا أصر المترجم على ترجمة تلك الخصوصيات سيجد نفسه مضطراً إلى الكثير من الصنعة وإضافة الهوامش التوضيحية.
في هذا السياق تبدو النصوص المتحررة من الوزن والقافية، وفي الاتجاهين بالنسبة للترجمة، هي الأكثر قابلية للنقل بأمانة. وقد لا تشوبها شائبة باستثناء بعض الاختلافات الاجتماعية والحضارية في كل لغة.
إن غنائيات كثيرة متسربلة بالنَّظم سوف تفقد الكثير أيضاً من خصوصياتها. لكن قصائد خاضت تجربة النثر، بل وتأثرت بنصوص مترجمة، قد تبدو بضاعة رُدّت إلى أصولها في أحايين كثيرة.
وبالتالي فإن شعراء مثل عباس بيضون وأدونيس وسليم بركات (وهذا الأخير، رغم ما يُظن باطلاً حول فرادة لغته وصعوبة ترجمتها) لن يفقدوا الكثير في الترجمة.
ولا يتعلق الأمر بمفاضلة ريادية في الأسماء هنا، فمعظم التجارب اللاحقة التي قُيِّضت لها الترجمة، برهنت على حسن وفادتها في اللغة الجديدة، لولا مشكلة عامة تتمثل في ندرة التعامل مع الشعر في العقود الأخيرة، وازدياد التظاهرات الاحتفائية والشفاهية تحديداً.
ذكرتُ نصوصاً تواصل التنفّس بحُرّية لدى ترجمتها إلى لغات أخرى، ويمكنني ذكر نصوص أخرى تفقد الكثير ابتداء من جزالة جدّنا المتنبي، بين نظْم وحكمة، وصولاً إلى بعض أشعار محمود درويش والكثير من أشعار نزار قباني.
لكن، هل في الإمكان القول إنّ الترجمة، أو قابلية النص الشعري للترجمة، تشكل مقياساً حاسماً (ليس وحيداً بالطبع) لقياس جودة الشعر؟ قد لا تكون تلك القابلية مقياساً لجودته لكنها في كل الأحوال تسهّل في عملية النقل وتخفف من درجات الخيانة.
_________
*كلمات
العدد ٢٨٤٨

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *