أين الشعر؟


* فاضل السلطاني

تنبأ هيغل، من ضمن ما تنبأ، بموت الشعر في عصرنا الصناعي الحديث، ولحسن الحظ لم تتحقق نبوءته، أم أنها تحققت من دون إنذار، ومن دون أن نشعر؟ الصورة تبدو من السطح زاهية تماما، وتفند نبوءة هيغل المشؤومة. فلقد تكاثر الشعراء في زماننا، وأصبح سلم الشعر سهلا، على عكس ما تصور العظيم الحطيئة، حين شكا من صعوبة ارتقاء سلم الشعر. كل شيء متاح الآن. ولا بأس في ذلك، فلم يعد أحد بحاجة إلى مرجعيات، وانتهى زمن الرهبة من هذا الناقد أو ذاك، ومات زمن الخوف، حين كنا نضع أيادينا على قلوبنا ألف مرة قبل أن ندفع بقصيدة للنشر، ليحل محله الاستسهال.. استسهال رهيب. والمشهد نفسه في كل مكان، من بلد المتنبي إلى بلد شكسبير. ماذا جرى؟ لماذا لا نعرف الآن شعراء بمنزلة تي إس. أليوت، أو سان جون بييرس، أو السياب؟ أين الشعر العظيم، ونعني به ذلك الشعر الذي يمدنا بتجربة حسية وذهنية ومتعة روحية معا، ويصيبنا بتلك الحمى الرائعة، التي تطهر أرواحنا من هذا الواقع النثري البغيض، وتحررنا من أسره، ولو للحظات؟

في حوار أجريناه معها قبل أربع سنوات من رحيلها عن تسعين عاما في 2003، ونشر في هذه الصفحة، عبرت الشاعرة البريطانية كاثلين رين بمرارة عن خيبة أملها بغياب الشعر العظيم بالمعنى الذي تحدثنا عنه، متفقة مع هيغل على أن مثل هذا الشعر لا يمكن أن ينتج في ظل الثقافة التي نعيشها، وغياب ما سمته «المعرفة الروحية»، التي تنطلق من التجربة الحسية، ثم يرفعها الخيال إلى مستوى التجريد، لتعود لتستقر في وجداننا في وحدة نادرة بين الفكر والإحساس.
كل القصائد العظيمة منذ فجر البشرية، عربيا وعالميا، حققت هذه المعادلة، ولهذا السبب لا نزال نقرأها على الرغم من مرور قرون، بينما تموت قصائد معاصرة لنا بعد القراءة الأولى.
إنه ليس ذنب الشعراء، ونعتقد أن الأمر يتعدى الموهبة الفردية، التي لا يمكن أن تنعدم تماما، لكنها بحاجة إلى شروط معينة لتحقق تفتحها الأقصى. ويبدو أن ثقافة عصرنا لم تعد تسمح بظهور شعر عظيم، وهي ليست قادرة أيضا على إنتاج قراء لهذا الشعر، بسبب طبيعة ثقافتنا المعاصرة، التي تشظت إلى عناصر كثيرة لا جامع بينها كما يبدو. وحين تنعدم وحدة الأشياء، نتحول إلى كائنات بائسة ذات بعد واحد. لقد قال الشاعر الآيرلندي ويليام بتلر ييتس مرة إن وحدة الكائنات لا يمكن أن تتم من دون وحدة الثقافة بكل أنواعها: الشعر والموسيقى، والرسم والنحت والعمارة.. إلخ. وهذه الأنواع، في عصرنا الحالي بالذات، لا يمكن أن يبدع فيها الإنسان من دون امتلاكه معرفة كبيرة، إلى المستوى الذي من المفروض أن يملكه كل شاعر عظيم حتى يصبح قادرا على مخاطبة كل حاجات المجتمع، وعلى مستوى لغوي عال أيضا.
ما الحل إذن؟ هل نعود إلى عصر ما قبل الحداثة، أم أن موت الشعر، الشعر الحقيقي، هو نتيجة طبيعية لعصرنا، كما توقع هيغل قبل أكثر من قرن ونصف القرن؟
_____
* شاعر من العراق يقيم في لندن 
(الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *