أدب الاحتضار… تجربة الكتابة في مواجهة الموت

أدب الاحتضار… تجربة الكتابة في مواجهة الموت

أشرف أبو اليزيد

يناقش مفهوم «أدب الاحتضار» تجربة الكتابة في مواجهة الموت. فهو نوعٌ أدبي يعكس تأملات الكتّاب في الحياة والموت في أثناء معاناتهم مرضًا عضالًا أو معرفتهم بقرب نهاياتهم ليمثل سردُهم مشاعرَهم، ورؤاهم الوجودية، ومحاولتَهم ترك أثر قبل الرحيل، وكأنها شهادةٌ على قوة الحضور في حضرة الموت.

ولعل أشهر من كتب، من المعاصرين، خلال احتضاره هو الأديب غابرييل غارسيا ماركيز، في روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات»، التي عمل عليها بعد تشخيصه بسرطان الغدد الليمفاوية. بينما يتحدث العمل عن التأمل في الحياة والحب عند الشيخوخة، فإنه يعكس أيضًا تأملات ماركيز الشخصية في الموت، والشيخوخة، والفناء، ومرور الوقت.

يتأمل بطل الرواية، وهو رجل لم يُذكر اسمه، ويبلغ من العمر 90 عامًا، في حياته وندمه وفي السنوات القليلة القادمة، بينما يشرع في علاقة غير تقليدية مع فتاة صغيرة يلقبها بـ«ديلجادينا». تتكشف القصة كتأمل في طبيعة الحياة العابرة، وتقدم رؤى حول كيفية تعامل بطل الرواية مع ماضيه وإعادة اكتشاف مشاعر الحب والحنان في شفق حياته. في حين أن الموت لم يُستكشَف استكشافًا مباشرًا بالتفصيل، فإن حتمية فناء بطل الرواية تلوح في الخلفية، وهو ما يؤثر في تأملاته وأفعاله. يقول بطلها:

«العمر ليس كم عمرك بل كم تشعر بالعمر. عندما واجهتُ الموت، بدأتُ أرى الحياة بوضوح أكبر، وكأنها كانت مخفية عني حتى تلك اللحظة».

رسائل كافكا إلى ميلينا

ظهرت تجربة فرانز كافكا في أدب الاحتضار في عمله الأخير «رسائل إلى ميلينا»؛ إذ كان الكاتب التشيكي يعاني داءَ السلّ، فكتب هذه الرسائل لتصور صراعه مع العزلة والمرض وإحساسه بالموت الوشيك واليأس الوجودي. كما تكشف المراسلات مع ميلينا جيسينسكا، التي كتبها بين عامي 1920 و1923م، هشاشة كافكا الجسدية ووعيه بالموت الوشيك.

يذكر كافكا كثيرًا صراعه مع مرض السل، ويصف الضريبة الجسدية التي يفرضها عليه. يعمل مرضه كخلفية لأزمته العاطفية وشعوره بالعزلة، وتكشف رسائله عن وعيه بحتمية الموت. غالبًا ما يعبر عن مشاعر العبث واليأس والخوف من أن يكون عبئًا على الآخرين، بما في ذلك ميلينا. تلتقط الرسائل حبه الشديد والهش لها، الذي يصبغه تصوره الذاتي بصفته رجلًا يحتضر. ويشكل مرضه علاقته، وهو ما يجعله مترددًا وغير آمن بشأن قدرته على الانخراط الكامل في الحياة أو الحب، كما تتخلل كتاباته تأملات وجودية حول الحالة الإنسانية، والشعور بالوحدة، ومعنى الحياة في مواجهة المعاناة والموت.

في إحدى الرسائل، يشير كافكا إلى حياته بوصفها «حكمًا بالسجن»، ويعبر عن مشاعر الاحتجاز الجسدي والعاطفي بسبب مرضه، وهو الشعور الذي يعكس صراعاته الأوسع مع الصحة والرعب الوجودي. وفي مقتطف من «رسائل إلى ميلينا» نقرأ: «لا أستطيع أبدًا أن أفهم كيف يمكن للناس أن يخافوا من الموت. الحياة تؤلم أكثر بكثير من الموت. في لحظة الموت، ينتهي الألم. نعم، أعتقد أنه من الأسهل بكثير أن تموت من أن تعيش».

مذكرات حِداد رولان بارت

قد يكون استحضار النهايات، دعوةً للموت، وهو ما يتجلى في «مذكرات الحِداد» للكاتب رولان بارت. والمذكرات هذه هي عمل شخصي عميق وتأملي، كتبها بعد وفاة والدته هنرييت بارت عام 1977م.

يتخلل الموت النص، ليس فقط بصفته حدثًا ولكن بوصفه حضورًا دائمًا يعيد تشكيل وجود بارت وإدراكاته. ويستكشف بارت الفراغ الذي خلّفه رحيل والدته، والذي أصبح موضوعًا مركزيًّا في المذكرات. يصف الارتباك العاطفي والوجودي العميق الناجم عن غيابها، ويتأمل كيف يمحو الموت ليس فقط شخصًا بل جزءًا منه: «غيابها مثل السماء، منتشر فوق كل شيء».

‏يكتب بارت في إدخالات مجزأة، تعكس الطبيعة المتقطعة والمتواصلة للحزن. الموت بالنسبة له ليس حدثًا فرديًّا بل تجربة حية مستمرة. يختبر تسلل الحزن إلى الحياة اليومية، ويجعل حتى اللحظات العادية تذكيرًا لا يطاق بالخسارة. وغالبًا ما يقارن بارت بين فهمه الفكري للموت والألم العاطفي الخام الذي يجلبه، مسلطًا الضوء على طبيعته المزدوجة كمفهوم مجرد وجرح حميمي.

ويؤطر بارت الموت كمفارقة؛ في حين أنه يفصله جسديًّا عن والدته، فإنه أيضًا يكثف ارتباطه بها من خلال الذاكرة؛ لذا غالبًا ما تدور تأملاته حول الحفاظ على حضورها في ذهنه، خوفًا من التآكل التدريجي لصورتها بمرور الوقت: «ما أريده هو ألا يكون موتها حقيقيًّا، ومع ذلك أشعر بحقيقته طوال الوقت».

ويقارن بارت بين الحتمية العالمية للموت والتأثير الشخصي العميق لوفاة والدته. بالنسبة له، فإن موتها ليس مجرد مثال على الفناء، بل هو قطيعة فريدة لا مثيل لها في حياته؛ لذا يتجنب التعميمات الفلسفية حول الموت، ويركز بدلًا من ذلك على طبيعته الذاتية الشديدة التي لا يمكن تعويضها. ومن هنا تتحول المذكرات نفسها إلى فعل مقاومة ضد نهائية الموت. ويواجه بارت، من خلال الكتابة، حزنه ويتفاوض معه، ويجد العزاء في التعبير عن حبه وألمه، حتى مع اعترافه بأن الكلمات لا يمكن أن تلتقط خسارته بالكامل. في مقتطف من «مذكرات الحداد»، يكتب بارت: «أعيش في إيقاع هذا الهوس: ليس لتقليلها، وليس لمجادلتها، وليس لجعلها تفقد جودتها وهويتها، من خلال تحويلها إلى ذكرى، ومرجع، وقيمة. لقد ماتت إلى الأبد، وأنا حي إلى الأبد».

ألبير كامو … الرجل الأول

استحضار الموت، نجد نموذجه عند ألبير كامو، في روايته: «الرجل الأول». عمل كامو على هذه الرواية، لكنها لم تكتمل؛ بسبب وفاته في حادث سيارة مأساوي عام 1960م. ومع ذلك، يُظهر العمل تلميحات واضحة لتأملاته حول الموت والنهايات، سواء على مستوى الفرد أو التاريخ، وهو ما يجعل النص وثيقة مفعمة بالمشاعر والتأملات الوجودية التي اشتهر بها كامو.

«الرجل الأول» نص شبه سير ذاتي، يعيد كامو فيه النظر في طفولته ونشأته في الجزائر. وتتمحور الرواية حول شخصية جاك كَرمري، الذي يبحث عن جذوره وعلاقته بوالده المتوفى الذي مات خلال الحرب العالمية الأولى. البحث عن الأب الميت هو في جوهره مواجهة رمزية مع الموت. يظهر في النص شعور بفقدان الإرث الشخصي والتاريخي، ورغبة في استعادة الماضي وسيلةً لفهم الحاضر، وكأن كامو يواجه فناء الأب وفناء ذاته. فالموت، في الرواية، ليس مجرد نهاية، بل هو جزء من النسيج الحياتي. كامو، من خلال جاك، يتأمل كيف أن الموت والفقد يشكلان الإنسان، فيُبرز موتُ الأب شعورَ اليتيمِ بالعزلة، وهو إحساس ظل كامو نفسه يعانيه طوال حياته. وعبر استحضار هذه المشاعر، تبدو الرواية وكأنها محاولة للتصالح مع نهايات لا مفر منها.

مواجهة النهايات حتمية، حيث ينظر جاك إلى حياته وعلاقته بالزمن والمجتمع الاستعماري في الجزائر. وهذا السرد المزدوج بين الشخصي والجمعي يُظهر كامو وهو يقترب من أفكار النهايات: نهاية العلاقة بين المستعمِرين والمستعمَرين، ونهاية طفولته وبداية الوعي بحقيقة العالم القاسي. من هنا يُمكن وصف «الرجل الأول» محاولة كامو لمقاومة الموت عبر الكتابة. ويبدو النص محاولةً لفهم الحياة، ليس فقط من خلال استرجاع الماضي، بل أيضًا في البحث عن المعنى في تفاصيله الصغيرة.

كان كامو يعلم أن الكتابة ليست فقط تعبيرًا عن الحياة، بل وسيلة لمواجهتها، بما في ذلك نهايتها؛ لذا يحمل النص أسلوبًا يفيض بالحنين والحزن على ما مضى، ويعكس وعيًا عميقًا بأن كل شيء مؤقت وزائل. وبعض المقاطع تشير إلى اهتمام كامو برحلة الإنسان بوصفها دائرية، تبدأ من اللاوعي بالوجود وتنتهي بتأمل النهاية. العمل هو شهادة على تأملات كامو الأخيرة حول الحياة والموت والبحث عن جذور الذات في مواجهة الزمن، وهو ما يجعل وفاته خلال كتابة النص تضيف بُعدًا مأساويًّا ومعبرًا إلى إرثه الأدبي والفكري.

إعدام دوستويفسكي

الأمر مختلف مع دوستويفسكي، فعلى الرغم من أن الروائي الأشهر لم يكن على فراش الموت، فإن تجربة الحكم عليه بالإعدام ثم العفو في اللحظة الأخيرة تركت أثرًا عميقًا في رواياته، مثل: «الجريمة والعقاب» و«الأبله».

حُكم على فيودور دوستويفسكي بالإعدام في عام 1849م؛ بسبب انتمائه إلى جماعة بتراشيفسكي، وهي مجموعة فكرية ناقشت أفكارًا سياسية واجتماعية تقدمية عدَّتها السلطات القيصرية تهديدًا للنظام. في اللحظة الأخيرة، أُلغِيَ الحكمُ واستُبدِلَ به النفي إلى سيبيريا والأعمال الشاقة. هذه التجربة القاسية، التي واجه فيها دوستويفسكي الموت مواجهة مباشرة، تركت أثرًا عميقًا في كتاباته وشخصيته، وبرزت في أعماله اللاحقة بطرائق متنوعة. في روايته «الأبله»، يصف دوستويفسكي، وصفًا دقيقًا، مشاعر شخص محكوم عليه بالإعدام في أثناء انتظاره تنفيذ الحكم. هذه التفاصيل تحمل وضوحًا وواقعية نابعة من تجربته الشخصية. يقول الأمير ميشكين:

«الموت قريب جدًّا، يمكن الشعور به تمامًا، وعندما تدرك أنك ستفقد حياتك في لحظة، يصبح كل شيء حادًّا ومؤلمًا».

هذه التجربة جعلته يعيد التفكير في الخير والشر والطبيعة الإنسانية. وانعكست هذه التأملات في أعمال مثل «الجريمة والعقاب»، حيث تواجه الشخصيات قضايا: الذنب، والعقاب، والخلاص. وبعد تجربته مع الإعدام، أصبحت فكرة الموت والخلاص موضوعًا محوريًّا في رواياته. في «الإخوة كارامازوف»، يناقش دوستويفسكي معنى الحياة والموت ودور الإيمان في مواجهة الفناء. وفي «الشياطين»، يبرز صراع الأيديولوجيات الذي يؤدي إلى الفوضى والموت. كما أننا نجد في رواياته، مواجهة الشخصيات للمآسي وسيلةً لإعادة اكتشاف إنسانيتها أو السعي إلى التكفير عن خطاياها. مثلما حصل لدوستويفسكي نفسه، حيث كانت فرصة النجاة من الإعدام نقطة تحول في حياته. تداخلت تجربة الإعدام مع تجربة النفي والأعمال الشاقة في سيبيريا، في روايته «ذكريات من منزل الأموات»، حيث تعج بوصف الحياة في معسكرات السجن، ويظهر اهتمامه بالطبيعة البشرية في أقسى الظروف، مع تأملات المؤلف العميقة حول معنى الحرية، والمعاناة، والتكفير.

قبل تجربة الإعدام، كان دوستويفسكي متأثرًا بالأفكار الثورية الليبرالية. لكن بعد هذه الحادثة، ومع سنوات النفي، أصبح أكثر اهتمامًا بالأسئلة الروحية، وهو ما انعكس بوضوح في رواياته اللاحقة. وهكذا تمكن دوستويفسكي من تحويل آلامه الشخصية إلى أعمال أدبية خالدة تعبر عن القضايا الإنسانية الكبرى.

جسر الفن إلى الموت

العبور من الحياة إلى الموت؛ يجعلنا -في رحلة البحث عن أدب الاحتضار- نعبر جسرًا آخر بين الأدب والفن. جسر جسده التشكيلي السويسري الألماني الشهير بول كلي في أعماله الفنية والرسائل الشخصية. فالرسام بول كلي، الذي يمكن وصفه أديبًا بصريًّا، واصل العمل على لوحاته وكتاباته في حين كان يعاني مرضَ تصلب الجلد، وهو مرض مميت.

تأثر بول كلي تأثرًا كبيرًا بمرضه الجلدي النادر، التصلب الجلدي الجهازي، الذي أصيب به في عام 1935م واستمر معه حتى وفاته عام 1940م. هذا المرض، الذي يؤثر في الجلد والأعضاء الداخلية، انعكس بوضوح على أعماله الفنية وكتاباته ورسائله، حيث أصبحت تجربته مع المرض والموت الوشيك محورًا أساسيًّا في إبداعه.

تضمنت رسائل بول كلي -في سنوات مرضه- تأملات عميقة حول هشاشة الحياة والمعاناة. كان يكتب كتابات صريحة عن ألمه الجسدي والنفسي، وهو ما أضفى على كلماته بُعدًا وجوديًّا عميقًا. وبسبب مرضه، شعر كلي بالعزلة عن العالم الخارجي، وعبّر عن هذه العزلة في رسائله، مشيرًا إلى الصراع بين رغبته في التعبير الفني وقيود جسده المريض.

واتسمت لوحات الرسام بعد إصابته بالمرض بأسلوب أكثر بساطة وأقل تفصيلًا، مع ميل إلى استخدام خطوط ورموز تبدو كأنها تعبيرات رمزية عن الألم والأمل، مثل: لوحة «الملاك الجديد» التي تعد انعكاسًا لبحثه عن الخلاص الروحي في مواجهة المعاناة. وعلى الرغم من مرضه، فأنتج كلي ما يقرب من 1200 عمل في عام 1939م وحده، وهو عدد غير مسبوق في مسيرته، ربما أدرك قرب نهايته، وهو ما دفعه لتكثيف عمله للتعبير عن رؤاه قبل فوات الأوان.

وتحمل لوحات -مثل «الموت والنار»- إشارات مباشرة إلى معاناته مع المرض والموت، حيث تظهر الأشكال المجردة والألوان القاتمة والمركزة. كما أن كثيرًا من أعماله الأخيرة تحتوي على رموز مثل المربعات والدوائر التي تشير إلى النظام والفوضى، في محاولة للتصالح مع حالته الصحية. كما أصبحت ألوانه أكثر هدوءًا، مع تركيز على درجات الأبيض والأسود والرمادي، بينما ازدادت الخطوط بساطة وغموضًا.

على الرغم من أن بول كلي لم يكتب على نطاق واسع عن مرضه في رسائل بتفاصيل واضحة، فإن بعض المقتطفات من مراسلاته وكتاباته تعكس بشكل غير مباشر تجربته مع المعاناة، وعلاقته بالموت، وكيف أثر مرضه في نظرته وممارسته الفنية. ففي إحدى رسائله في المراحل الأخيرة من حياته، أعرب كلي عن تصميمه على مواصلة العمل على الرغم من حالته: «لا يمكنني أن أستسلم للمرض؛ حتى لو هُزم جسدي، فإن رُوحي تبقى».

على الرغم من أنها ليست تعليقًا مباشرًا على مرضه، فإن فلسفة بول كلي حول الفن كانت غالبًا موازية لحالته الجسدية: «الفن لا يعيد إنتاج ما نراه؛ بل إنه يجعلنا نرى». وقد أعطى مرضه لعمله عمقًا وإلحاحًا جديدًا، حيث بدأ في استكشاف موضوعات الهشاشة والتحلل والمتعالي. وتلمح رسالة أخرى إلى وجهة نظره حول طبيعة الحياة العابرة، التي ربما زادت بسبب مرضه: «أنا غريب عن هذا العالم، وفني يتحدث عن واقع آخر، واقع يتجاوز الألم والزائل».

تأمل بول كلي في الموت بمزيج من القبول والانفصال الفلسفي: «إن ثقل هذا الجسد هو تذكير دائم بما هو عابر. لكنني أستمر في السعي وراء ما هو أبدي في فني». مرض بول كلي، واحتضاره، لم يكن عائقًا أمام إبداعه، بل كان قوة دافعة جعلته يتأمل في قضايا جوهرية مثل الفناء، والألم، والروحانية. رسائله ولوحاته في سنوات المرض تعد شهادة حية على كيفية تحويل المعاناة إلى إبداع خالد.

أنا قادم أيها الضوء

لعل القارئ العربي يتذكر عنوان «أنا قادم أيها الضوء»، للكاتب الصحفي والطبيب المصري الراحل محمد أبو الغيط، وهو كتاب يجمع بين السيرة الذاتية والتأملات الفلسفية والشعرية عن الحياة والموت. كتبه مؤلفه ليكون شاهدًا على معاناتِه مَرَضَ السرطانِ، ويناقش الكتاب القضايا الوجودية بطريقة مفعمة بالأمل والرغبة في إيجاد معنى للحياة.

أهم أفكار الكتاب التي تتماس مع الموت، تبدأ بوصفه جزءًا من الحياة، وجزءًا لا يتجزأ من الوجود الإنساني. ففي الكتاب، لا يُعَدّ الموت نهاية للحياة وحسب، بل بداية لمرحلة جديدة من الفهم والتقدير للحياة نفسها. ومن خلال هذه الفكرة، يحاول أبو الغيط تخفيف من وطأة الموت وتحويله إلى عنصر طبيعي في تجربة الإنسان؛ فرحلة الحياة مقدمة للموت، وهي رحلة نحو «الضوء» الذي يرمز إلى الفهم النهائي؛ إذ يُنظر إلى الموت في الكتاب على أنه حلقة وصل بين ما كان وما سيكون، ويربط الكاتب بين الموت والمصير الإنساني، فيجد في الموت أملًا في تحقيق السلام الداخلي والاتصال بالمطلق. كما أن الموت، في الكتاب، ليس نهاية بل هو لحظة اكتشاف الحقيقة العميقة عن الذات والحياة.

يرى أبو الغيط في الموت لحظة للاتصال بما هو أبعد من الوجود المادي، بل هو فرصة للتناغم مع القوى العليا أو النور الذي يمثل الحقيقة الكونية، فالموت ليس مجرد فناء، بل يُفهم على أنه عملية تطهير وتغيير داخلي. يتأمل الكاتب في كيف أن الموت يمكن أن يكون خطوة نحو التحول الروحي، حيث ينتهي الخوف من النهاية ليحل محلها سعي نحو الفهم الأعمق، فهو يرى في فكرة الموت تجربة تصالحية مع الذات. يتحدث أبو الغيط عن الإنسان الذي يواجه الموت بروح من الصفاء والمصالحة الداخلية، حيث يكون أكثر قدرة على قبول نهايته بسلام.

عن مواجهة الموت كتب محمد أبو الغيط: «أنا لست خائفًا من الموت في ذاته، بل من أن يسبقني الوقت، أن تأتي النهاية وأنا لم أكتمل بعد، لم أعطِ الحب الذي أستطيع، ولم أترك الأثر الذي أتمنى». وعن الأمل وسط الألم يقول: «حتى في أكثر لحظات الألم قسوة، يشرق ضوء صغير، يذكرنا بأننا لا زلنا أحياء، وأن الحياة دائمًا تستحق المحاولة». وعن القوة الداخلية كتب: «لا تعرف كم أنت قوي إلا حينما تواجه الهاوية، حين تدرك أن الحياة ليست صراعًا مع الآخرين، بل مع نفسك لتظل متماسكًا أمام الانهيار».

وعن الحب والأسرة، كتب: «في عيون من تحب تجد الضوء الحقيقي، ذلك الذي يمنحك القدرة على الوقوف كل يوم رغم جسدك المنهك وروحك المثقلة». وعن الوداع قال: «لم يعد الوداع كلمة عابرة، بل أصبح حقيقة يومية، أودّع نفسي كل يوم، أودّع ما كنت عليه، وأحاول أن أخلق معنى جديدًا لما تبقى». وعن معنى الضوء: «الضوء ليس مجرد إشراق، إنه كشف للحقيقة، حتى لو كانت الحقيقة مؤلمة، فالضوء في النهاية هو ما يحررنا من الظلمة».

أدب الاحتضار… محيط غائر

الواقع أن محيط أدب الاحتضار شاسع بما يكفي ليشمل أسماء عديدة في الشرق والغرب معًا، مثل كتابات وقصائد الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، قبل رحيله، وكتاب «الخلود» للكاتب البريطاني الأميركي كريستوفر هيتشنز بعد تشخيصه بمرض السرطان؛ إذ ناقشت مقالات كتابه الموت بجرأة عقلانية، دون أوهام، معبرًا عن أفكاره حول: الحياة، والألم، والخوف من المجهول. ومثلها كانت كتب أخرى، كتجربة الحداد التي عاشتها الكاتبة جوان ديديون بعد وفاة زوجها المفاجئة. في مذكراتها «عام التفكير السحري» تناولت ديديون مواجهتها لفقدان زوجها، وكتبت عن الموت بصفته جزءًا من الوجود الإنساني. وفي مذكرات الجراح والأديب بول كالانيثي، «حين تصبح الأنفس هواءً»، كتب عن تجربته مع مرض السرطان قبل وفاته. الكتاب تأمل عميق في معنى الحياة والموت، والانتقال من دور الطبيب إلى دور المريض.

أختتم هذه النماذج بالإشارة إلى «ذكريات الحياة والموت»، لإيرفين يالوم ومارلين يالوم، وهو كتاب مشترك بين الزوجين، وفيه تناقش مارلين تجربتها مع مرض السرطان وتأثيره في حياتها الزوجية، في حين يعبر إيرفين عن مواجهة الموت كجزء من حياة الشريك.

  • عن الفيصل

شاهد أيضاً

سيرغي يسينين: شاعر الوجوديّة الحزينة

سيرغي يسينين: شاعر الوجوديّة الحزينة  فاطما خضر   بين لوحات جدارية، وتماثيل تتباين في أحجامها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *