* هاشم صالح
هذا الكتاب من تأليف الناقدة الفرنسية كارين وينكلفوس المختصة بشعر ريلكه والأستاذة في جامعة روان. وهي تتحدث هنا عن واحد من أعظم الشعراء في اللغة الألمانية على مر العصور، إنه رينيه ماريا ريلكه. ومنذ البداية تقول ما معناه: «لقد عاش ريلكه عدة مراحل في إبداعه الشعري وانتقل من التقليد إلى الحداثة بشكل طبيعي متدرج. وقد كتب عدة نصوص نظرية عن الإبداع الفني أو مطبخ الشعر الخلاق (هذا ما فعله أيضا شعراء الحداثة العربية أيضا، فقد ابتدأوا بالشعر الموزون المقفى ثم انتقلوا إلى قصيدة التفعيلة وأخيرا قصيدة النثر. وفي بعض الأحيان كانوا يجمعون بين كل الأشكال دفعة واحدة)».
ومن بين النصوص التنظيرية التي كتبها ريلكه على هامش الشعر نذكر نصه الشهير الذي يقول فيه ما معناه: «ينبغي أن تتعرف على مدن كثيرة وأشجار كثيرة وعصافير وذكريات لا حصر لها قبل أن تكتب حرفا واحدا. وينبغي أن تعيش كل التجارب حتى يتكدس بعضها فوق بعض ثم تتخمر وفجأة تنفجر أعماقك بالشعر كما لو كان ذلك على غير وعي منك.
ثم كتب ريلكه «رسائل إلى شاعر شاب» كان قد طلب منه النصائح قبل أن يبتدئ بكتابة الشعر. والواقع أنه كتبها لنفسه قبل أن يكتبها لهذا الشخص المجهول الذي اقتحم حياته دون إذن. من المعلوم أن ريلكه نفسه كان شابا آنذاك ولا يتجاوز السابعة والعشرين من العمر. وبالتالي فقد انتهزها فرصة لكي يوضح موقفه من قضية الشعر التي كانت قضية حياته كلها. فريلكه كان شاعرا فقط.
صحيح أنه كان قد أصبح معروفا إلى حد ما في الأوساط الأدبية، ولكنه لم يكن قد توصل إلى الشهرة الواسعة التي سيحصل عليها لاحقا. وفي هذه الرسائل المهمة يوضح رينيه ماريا ريلكه تصوره للعمل الشعري ويقول للسائل ما معناه: «أنت تطلب نصيحتي قبل أن تدخل إلى عالم الشعر، وأنا إذ أشكرك على هذه الثقة الغالية أقول لك: لا أحد يستطيع أن ينصحك، أن يساعدك، اللهم إلا نفسك. الحل الوحيد أو بالأحرى الطريق الوحيد لكي تصبح شاعرا هو أن تدخل في نفسك الجوانية، أن تنزل إلى أعماق أعماقك. الحل الوحيد هو ألا تهتم برأي الآخرين بعد الآن. ينبغي أن تصبح نظرتك متوجهة نحو الداخل لا الخارج. الخارج لا يهم، النقاد لا يهمون، رأي الناس ليس هو الأساس. الأساس هو أن تدخل في أكبر عملية استكشافية لأعماقك الجوانية. وبعدئذ قد يجيء الشعر أو لا يجيء، قد ينبجس من الداخل أو لا ينبجس. وإذا لم يجئ فاتركه وانصرف عنه إلى مهنة أخرى. فأنت لم تخلق له. ليس من الضروري أن يصبح كل الناس شعراء»!
ثم يردف ريلكه قائلا هذا الكلام المهم: «بعد أن تدخل في أعماقك الجوانية اطرح على نفسك هذا السؤال: هل ستموت إذا ما منعوك من الكتابة؟ هل فعل الكتابة ضروري لك إلى مثل هذا الحد؟ هل هو مسألة حياة أو موت؟ إذا كان الأمر كذلك فواصل طريقك وكرس نفسك لكتابة الشعر، وإلا فلا… فالكتابة عملية حميمية أو حتى شبه مرضية ولا يقدر عليها إلا أولئك المصابون، المجروحون من الداخل حتى العظم»!
ثم تواصل المؤلفة كلامها قائلة: «هكذا نلاحظ أن تصور ريلكه للكتابة الشعرية هو تصور راديكالي لا يحتمل المساومات. والذين يريدون تحقيق النجاح والشهرة في هذا المجال عليهم أن يوطنوا النفس على الأذى، والضيم، والوحدة، والعذاب. فالشعر لا يعطي نفسه بسهولة، ولا النثر كذلك، أي الكتابة بكل بساطة».
كان ريلكه يقول ما معناه: «لكي نقارب العمل الأدبي أو الفني فإن أسوأ طريقة هي طريقة النقاد المختصين أو المحترفين، وذلك لأن النقد التقني أو الأكاديمي لا يستطيع أن يتوصل إلى كنه العمل الأدبي أو جوهره. وحده الحب يستطيع أن يتوصل إلى ذلك. فإذا ما أحببنا العمل الأدبي استطعنا أن نصل إلى أعماقه، أن نفهمه، أن نكون منصفين معه. وهذا يعني أن الشخص الذي لا يطرب للعمل الأدبي أو لا يهتز في أعماق أعماقه عندما يقرأه لا يمكن أن يكون ناقدا ناجحا حتى ولو حصل على كل شهادات الدكتوراه في العالم! ينبغي أن تكون ذواقة تعرف معنى القصيدة الشعرية وتهتز لها بكل كيانك وجوارحك. ينبغي ان تنفعل بها، أن تصيبك في العمق بالمعنى الحرفي للكلمة».
والواقع أن ريلكه، وهنا تكمن عبقريته، لم يكن يعتبر إبداع القصائد هو الهدف الأول. أو قل كان يعتبر أن ذلك يجيء كمحصلة طبيعية لعملية أخرى أشد هولا وأهمية ألا وهي: إبداع الفنان لذاته.
فالكاتب قبل أن ينخرط في عملية الإبداع الأدبي لا يعرف من هو حقيقة ولا إلى أية نتيجة ستقوده عملية الانخراط هذه. وبالتالي فهو يبدع نفسه أولا قبل أن يبدع قصائده. أو قل إنه، بينما يستكشف ذاته وأعماقه الداخلية، يبدع قصائده الشعرية.
وهكذا تصبح عملية الإبداع أكبر مما كنا نتصور: فالفنان يبتكر نفسه من خلالها، إنها إعادة خلق للذات بكل بساطة. بعد عملية الإبداع لن تعود كما كنت قبلها. لقد أصبحت شخصا آخر. فنحن لا نعرف من نحن في البداية. نحن عبارة عن مادة خام أو جملة إمكانيات مفتوحة على كل الاحتمالات قبل الدخول في معمعة القصيدة. والإبداع هو الذي يساعدك على استكشاف القارات السحيقة التي تكمن في داخلك. وهكذا يقودنا الإبداع إلى ذواتنا، يشعرنا بهويتنا الشخصية، يجعلنا نعرف من نحن على هذه الأرض وما الفرق بيننا وبين الآخرين. بهذا المعنى فإن الإبداع هو عملية استكشاف لمتاهات الذات الداخلية: أي للقارات المجهولة وغير المرئية للعين المجردة.
ثم تردف المؤلفة قائلة ما معناه: «ينبغي العلم أن رينيه ماريا ريلكه عاش تجارب كثيرة في الحياة قبل أن يكتب قصائده العبقرية. لقد اكتوى بنار المعاناة: من حب، وقطيعة، وفراق، ولقاءات عابرة، وآلام، وقلق نفسي رهيب لا يكاد يفارقه لحظة واحدة تقريبا. ومن أهم التجارب التي عاشها علاقته مع الكاتبة الحسناء الشهيرة لو أندريا سالومي. فخلال 3 سنوات من عام 1897 إلى عام 1900 عاشا معا بشكل لا ينفصم. وقد سافرا إلى روسيا معا وزارا تولستوي في بيته الريفي ثم عادا إلى ألمانيا. وحتى بعد أن افترقا ظلت العلاقة متواصلة عن طريق المراسلة».
ويمكن القول إن رسائل ريلكه إلى لو أندريا سالومي ملأت المجلدات من كثرتها. وفيها بعض الروائع الأدبية الخالدة، فقد كانت صديقته الأولى والأساسية في هذه الحياة. وكثيرا ما كان يلجأ إليها في أوقات الضيق والشدة لكي ينفس عن آلامه، لكي تساعده نفسيا وتدعمه معنويا برسائلها وحضورها حتى ولو من بعيد. لقد كانت حاضرة بقوة وهي الغائبة.
وفي إحدى الرسائل التي كتبها إليها يقول: «لا أريد أن أفصل بين الفن والحياة لأنهما يمتلكان نفس المعنى في كل المناسبات والأزمان. ولكني أمام الحياة شخص ضعيف، متردد، فاشل».
أما الفن فهو شيء ثقيل، صعب، طويل جدا بالنسبة للعمر أو لحياة شخص واحد. وحتى عندما يصل الإنسان إلى الشيخوخة يكون لا يزال في بداية مسيرته نحو الفن. فالفن صعب لا يعطي نفسه بسهولة أو من الضربة الأولى. الفن لا يزال أمامنا، وكذلك الشعر.. من يستطيع أن يقبض على الشعر بكلتا يديه؟
وقد كتب أحدهم يقول: «لم أفهم شكل العصافير وطبيعتها الحقيقية إلا عندما أصبحت في الثالثة والسبعين من عمري. ويمكن أن أقول نفس الشيء عن الأسماك والنباتات. وهذا ما كان يشعر به رودان أيضا، ذلك النحات الفرنسي الشهير».
والواقع أن الشيء الذي كان يحلم به ريلكه هو التحويل الشعري للعالم، أو تحويل العالم إلى شعر. شخص كريلكه لا يستطيع أن يسكن العالم نثريا أو بشكل حيادي، موضوعي، بارد. ريلكه ليس فيلسوفا، ريلكه شاعر من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. ويبدو أنه كان يكره العالم الحديث المطبوع بالطابع الأميركي الاستهلاكي الرأسمالي المفرغ من الروح. وما معنى عالم بلا روح أو شعر؟
وكان يخشى انقراض العالم التقليدي، العالم الزراعي الريفي القريب من الطبيعة. كان يخشى أن تسحق التكنولوجيا كل الحياة التقليدية التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا. كان يخشى أن تقضي على بهجة الحقول في الريف، وجمال السنابل في فصل الربيع، وكل تلك الحياة البدائية التي عرفناها والتي هي الآن مهددة بالاندثار.
يقول ريلكه: «ربما كنا آخر جيل يعرف هذا النوع من الحياة البسيطة، البريئة، الساذجة… فالحياة الميكانيكية أو التكنولوجية تكاد تطغى على كل شيء: وبخاصة على عالم الأشياء القديمة التي ألفناها».
عندما قال ريلكه هذا الكلام كان يخشى على الشعر في الغرب من الانقراض. وقد انقرض تقريبا في عصر الحداثة الوضعية والصناعية الزاحفة. وبما أن الشعر هو أغلى شيء في الوجود على قلب رينيه ماريا ريلكه فإنه عبر عن قلقه من هذا المصير. فما معنى الحياة دون شعر؟ دون قصيدة شعر؟ هل تستحق أن تعاش؟ لحسن الحظ أنه مات قبل أن تحصل هذه العولمة التكنولوجية النمطية التي قضت على شاعرية العالم. أما نحن…!
_________
*الشرق الأوسط