مِنْ هنا يا غبي!


*خليل النعيمي


كان الوقت صُبْحاً. الشمس مشرقة وبهية. الجو هادئ ولطيف. «يوم جميل، يشبه أيام دمشق»! قالتْ «سلوى». وكنتُ سعيداً. كنتُ قد حَرَّرْتُ نفسي، هَرَباً، من ربقة الجيش الذي كان «عربياً سورياً»، منذ وقت قصير. كان الخلاص من «وضع ملتبس» آنذاك يشبه الولادة من جديد: بَلَد واحد. طاغية واحد. وقمع واحد، تلك هي سوريا يومذاك. وكان للتمرّد، عندئذ، معنى واحد: البحث عن الحرية. 
في «سان جرمان»، في «باريس»، كنا نقف معاً. في يدي خريطة المدينة التي وصلتُ إليها منذ شهور. ومنذ أيام قليلة وصلت إليها سلوى، كذلك. كنت أبحث عن المكان الذي أريد أن أذهب إليه في ذلك الصبح الباريسي الآسر، وسلوى تنتظر بصبر، واقفة لصقي، صامتة وسعيدة. كنتُ أتحرّى باهتمام بالغ علامات الخريطة، وفي الوقت نفسه، أتساءل عن سبب سعادتها الغامضة، واللامفهومة بالنسبة لي. سعادة كانت تنعكس عليّ مرحاً وخيالات.
من آن لآخر، كانت تمدّ رأسها لترى إلى أين وصلتُ. كانت تلك الحركة اللامتناهية الرِقَّة تغبطني. كنتُ طويلاً كالغيم، وكانت لدنة وبهية. ولكيْ تحيط بي أكثر، تصير تتطاول على مِشْط قدمَيْها لترى ما أراه. وهممتُ أن أسألها… لكنني تابعت بحثي بإصرار عن النقطة التي كانت تشغلني على الخريطة. وفجأة قالتْ، مُتعَجِّبَة: «حكيتَ لي كثيراً عن عبورك للسهوب بلا خريطة يوم كنت فتى في ’»الجزيرة». وفيما بعد، حينما صرت في الجيش، قلتَ لي إنك كنت، منذ النظرة الأولى، تعرف المواقع بدقة لا متناهية، ولم تكن حتى بحاجة إلى أن تنظر في إحداثيات الورق. كنتَ تمشي إلى أي نقطة تريد، وكأن الخريطة مرسومة في عينيك، ومحفوظة في قلبكَ». 
توقفتُ عن البحث برهة، وأنا أنظر، بحَذَر، حولي. أريد أن استجمع شتات ذهني قبل أن أجيب. لكن الفضاء الجديد هو الذي سيطر على نفسي، وجعلني أنسى كل شيء. ساحة «سان جرمان»، التي صار اسمها في ما بعد : «ساحة سارتر ودو بوفوار»، كانت مزدحمة بالعابرين. و«مقهى دوماغو» يعجّ بالكائنات. مقهى «فلور» تتخارَج الناس منه، وتتداخل، بدون توقُّف. وكنيسة «سان جرمان دي بْرِيْ» التاريخية تربض فوق القاع بأبّهة. والشمس تفعم شارع «رين» بأشعتها المضيئة. نسيتُ، سريعاً «أحاسيسي العدائية»، وعدتُ، من جديد، إلى الخريطة، أُنقِّب فيها بهمّة عن المكان الذي أريد أن أصل إليه. وعن كيفية الوصول بأقصر الطرق وأسهلها. كان «الموعد» قد بدأ يقترب. ولم أكن قادراً على التأخُّر، أكثر.
سلوى تقف لصقي. تكاد تلامسني. منذ ثوان، كَفَّتْ عن الكلام، وبها تشتُّت. هَممْتُ أن أُقبِّلها. ولم أفعل. وكأنها أحسَّتْ بكل ذلك، بدت الغبطة ظاهرة على ملامحها، وهي تَتَشَمَّم الهواء الآتي من ناحيتي، مستثارة. وعلى غير توقُّع مني لمسَتْني: «لقيت المكان»؟ «لا»! قلتُ مكتئباً، وأنا أكاد أن أقذف بالخريطة إلى الجحيم. لكنني، بدلاً من ذلك، تصَنَّعْتُ البحث المحموم، وأنا أُراقب العابرين. وفجأة بدأتُ أُبَرْبِر: «لماذا تركتُ سوريا»؟ وكأنني أردت أن أنتقم من نفسي، سألتُها: «ألستِ نادمة»؟ وكأنها كانت تقرأ ما أكتبه على الريح، ردَّت بعفوية أذهلَتْني: «أنا؟ أنا لا أعرف الندم»!
طويتُ الخريطة. وقعدتُ على الرصيف، وأنا أُراقب الجهات. وظَلَّتْ سلوى واقفة. وكأنني خشيتُ أن تطير من فوقي، قمتُ واقفاً، وأفردتُ الخريطة من جديد. بعد نوبة الاكتئاب البائسة، بدأ النوء يتبدَّل. وبدأتُ استعيد تصميمي الذي رافقني طيلة الرحلة: «ستعثر على ما تبحث عنه، بشرط ألاّ تتخلّى عن البحث»! ومع ذلك لم ألْقَ طريقي. وبدأ صبري ينفد، فعلاً. وكأنها طيَّة من حرير، رأيتها تنفرد، وتتطاول، وتسحب الخريطة من بين يدي، وتحملق فيها، ثواني، وبدقة العارف تضع أصبعها الصغير على النقطة، وتشير إلى الاتجاه، قائلة: «مِنْ هنا، يا غبي»!
يومها أدركتُ أنها تعشقني.
كان ذلك منذ أربعين عاماً.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *