*عبدالله الزعبي
خاص ( ثقافات )
عبير أبو دية شاعرة أردنية من مواليد عمان 1993. هذه المجموعة التي تحمل اسم «عندما أَغلق الباب على الشارع» هي المجموعة الشعرية الأولى لها، صدرت عن دار الأهلية للنشر بدعم من وزارة الثقافة عام 2014، تقع في 168 صفحة من القطع المتوسط، وتنقسم إلى ثلاثة أبواب: القسم الأكبر «شعر»، و «نثر» و «رسائل».
تفتح الصفحة الأولى وتبدأ بالإهداء الذي يلخص كل ما أرادت أن توصلنا إليه تقريباً في هذا الكتاب:
«إلى الخرافة والوهم والبلاد والحب والحزن والنرد والزنبق والعزلة.
إلى بنفسجة هذا العالم.
إلى أمي وأبي وأصدقائي».
ومنذ القصيدة الأولى تعلن أن في داخلها غزالة تغني أغان تطفح أسى وحزناً وغموضاً وندم، وحياة غبشاء غير واضحة ومبهمة:
«تقول الغزالة:
لم تنتبهي للمقبرة في رأسك
واسعة ومحطمة، لكنها تغني
ماذا هناك بين الموت والروح؟».
ثمة اشتغال كبيرعلى قصيدة النثر، وعلى التخفف من قوالب الإيقاعات الجاهزة والإنطلاق نحو صناعة إيقاع داخلي خاص بلغة بسيطة وسلسة، بعيدة عن البلاغة الزائفة، تضع القارئ في مناخات سوريالية وفي مشاهد أقرب ما تكون إلى الضبابية الجذابة الهائلة، ضبابية امرأة وحيدة في الشارع أسفل الشتاء بمعطف ووشاح وشعر مرسل مع الريح.
في «الشاعر الميت» وهي واحدة من القصائد الجميلة تقول:
«أنا لا أمشي بقميص أبيض
ولا بنية بيضاء في الشارع الواضح
أحاول أن أؤدي دور الغباش
حتى لو نال مني الغبار
وخال أني حجر
حتى لو نال مني القلق
وأنا أقول للشاعر الميت: حبيبي
وأغني له أغنية من غير قصد».
وتشتبك في القصيدة ذاتها مع جدلية الشعر والرغيف، جدوى الشعربلا رغيف والرغيف بلا شعر، فتقول:
«ما فائدة القصائد
لو ما وجدنا الرغيف!».
لتتنتهي على هذا النحو في توصيف الشاعرالحقيقي:
«كلهم ارتدوا قميصاً أزرق
التقط لهم صديق ما صورة
كتبوا قصيدة أخيرة
غزلوا فأساً
حفروا قبراً
تفسّخت ذاكرتهم
وانطفوا..»
تدور في فلك الفقد والفجيعة، وتحدّث بنبرة خافتة وهادئة عن الحزن والغياب والملل والوحدة، عن شراسة العالم وضيقه وغرابة الإنسان فيه، عن الأم وحزن الأم وحبها وخوفها، عن البلاد المنكوبة التي ترزح تحت نير القتل والحرب والتهجير، عن الحبيب الذي لا يجيء، الحبيب غير الموجود، الحبيب الذي كان موجوداً ثم ذهب إلى غير رجعة. وهنا نقرأ المقطع التالي من قصيدة «الأرملة المعتمة»:
«يا حبيبي
يكبر الهلع تحت أظافرنا
يا حبيبي
من تحت الجسر
تعال».
والجسر مغلق للأسف، أو تهدم على رؤوس السائرين بلا وجهة ولا غاية.
ثم تحيلنا في قصيدتي «جنية الماء» و «الإحتراق بالنرد والزنبق» إلى أن الناس يعيشون في جحيم خالص داخل بلاد لم تخلق إلا لتنهب وتحترق، واضعة يدها المالحة على الجرح العربي الذي يتعطب بالنار واللهيب والثلج والبرد ثم لا يبرأ ولا يشفى، بأسلوب مراوغ ينبذ التقرير ويشيح بوجهه عن المباشرة ويرفع كأسه للنبيذ:
«والناس يذهبون من دون رجعة
إلى جحيم خالص
فيه ثلج ونار
وقلب بريء
وأسئلة عن الحرب
ووردة..».
«جنية الماء» التي تفضل القافية، وتحتاج إلى شغل قليل لتغدو قصيدة تفعيلة يغلب عليها جو قصيدة النثر والتفاصيل والمخيال الملقى على غاربه:
«كالعود يا بلدي
تعوين في كبدي
كالريح لا
كالظامئين إلى غمامة موعدي».
إنها تحدق في عيون الناس، فتفاجأ بألسنة النيران البذيئة تزدحم في محاجرها، وبالخذلان واليأس والحزن والضياع:
«أصغي دائماً
لكل هذه العيون
تتخيلين
ولو أنها تماماً
كما لو
“مفتوحة على جهنم”».
وتنتصر لنا نحن الذين يهيمن علينا الرجل الأبيض. يسرق خيرات البلاد، ويصنع منا العبيد، ويستعمرنا في الإقتصاد والسياسة والمعرفة، ينبذنا ويخرجنا من سيرورة التاريخ وصيرورتها، ولا ينسى حتى أن يفرض هيمنتة الأخلاقية علينا فيرسم خطّاً صارماً لا يحيد عنه سوى من كان توّاقاً إلى الويل، ثم بعد ذلك كله يستغرب من أن تنتج الشعوب المسحوقة أفكار التطرف والقتل والإرهاب، ويعيب على هذه الشعوب ثقافتها وحضارتها ومنظومتها القيمية، وينظر إلى الفرد فيها باستحقار ولا يتواني لحظة عن قدحه والإستخفاف به ورميه بالغباء التام. «حجة الأبيض» القصيدة التي تشيطن اللون الأبيض، وتظهره بحلة سوء تمسح بخرقة مبللة كل السواد الجميل وتجهز على اللص الجريح:
«لا ترفد حدادك هنا
لا تتكوم على شكل الحصير
أنت اللص الجريح
ونارهم
بوق
نسي
كم عبأته
تخوم صوتك».
المرأة الشجرة، المرأة التي بأول العشرين، على ناصية العشرين تماماً أصدرت هذه المجموعة. وفيها تحتفي بالزهور والأشجار والليل البهيم، تجسّد الطفل ووعيه على ما حوله بسارة الصغيرة ابنة عمها التي لها قلب «مدهوش دائماً من فكرة العالم»، تستنطق وتحاكي دفقات الجمال الساحرة في الفلاح والحارس والجمّال والراعي، تربط البلاد بالحبيب والحبيب بالبلاد، كلاهما مكسور وغائب، «ذهب ولم يعد» كما يقال و«ذهب مع الريح»، لديها شعور صارخ بالخواء والفراغ والكآبة التي تتمظهر في كثير من النصوص باللون الأزرق، فالحبيب أزرق والصديقة زرقاء، والجامعة زرقاء، والعصفور أزرق، والغزالة التي تسبح في داخلها زرقاء، والشعراء زرق، والحياة والعالم عن بكرة أبيه أزرق، و«ريقي هو الآخر في حلقي مر» كما يقول تيسير السبول.. وأزرق، كل شيء أزرق.. أزرق.
وهكذا صفحة وراء صفحة حتى نصل إلى مقطع في قصيدة «لو ابت..» أي لو ابتسامة:
«البنت بأول العشرين
تدير ظهرها للحياة
ووجهها للحائط
تتنهد وتقول:
يا الله.. لو شِعر».
ونقرأ في قصيدة «قلبي ورّاق وتلّة»:
«أنا كنت عمياء
ودخولي على العالم
كان محض خيط
يحب أن يضيع في الزحام».
البلاد بعيدة ومخيبة للآمال، والحبيب الفاشل بعيد ومخيب للآمال أيضاً، كلاهما سرق كلامها وتركها وحيدة للصمت:
«ولأن لساني بقي هامداً
وكلامي الكثير سرقته البلاد البعيدة
والعاشق الفاشل
تعجلوا
وداسوا عليه».
ثم في قصيدة «خدر» تسائل بشرود وحسرة تامة:
«عن سقف
يدسّ في أغطيتهن
طعم النوم
دون حبيب واقع
من فرس
كسيح».
السؤال يجر إلى سؤال أعقد، والوحدة تجر إلى وحدة أكبر منها، ففي قصيدة «ثلاثة كراسي» نرتطم بامرأة موغلة في العزلة والتوحد داخل غرفة ضيقة يؤثثها ثلاثة كراسي، وفجأة يرن في رأسها أسئلة كثيرة موحشة ومذهلة نستشف منها وننحت سؤال الرغبة: ماذا لو كانت هذه الكراسي له ولها وللشيطان؟!.
ومع أنها تتحدث، تصفّ الكلمات بجانب الكلمات، إلا أن هذا كله لا يرجع منه غير الصدى، حتى الصدى هذا الكائن الماورائي ما عادت تهتدي قدماه إلى الطريق، إنه كسيح تماماً، طيرته الأرجوحة، قصيدة «أرجوحة» هذه التي نجد فيها حواراً من طرف واحد مع الأم وربطاً وثيقاً بين الحياة والموت: «إنها سنة الحياة، إنها سنّة الموت». الأشياء كلها تركب الأرجوحة، كرّة كرّتان ثم تطير وتحلق في السماء بلا رجعة، الأرجوحة التي تشبه القطار الذي لا ندري ذاهب إلى أين ولا يدري محمد عبد الوهاب أيضاً:
«وعندما أخلع كلامي
وأرتّبه في أنّةٍ غيمة
تأخذه الأرجوحة».
ويتسع مفهومها للبلاد، يزخر ويتنوع ويتخذ شكل هوّة جاهزة للجثث والجماجم الثقيلة النيئة، «جماجم مليئة بالنوى والفراغ والحنين القديم»، فهنا «قانا» والمجزرة التي وقعت فيها عام 1996، قانا واسمها معها، وههنا «تدمر» و«اللاذقية»، ورمزية الشجرة التي تشير بالسبابة إلى الأرض وبالوسطى إلى الأعداء:
«يا أمي قانا
كل شيء يفسد الحب
بعد أن خلعونا من الشجرة
ولفونا بأسلاك النار
بعد أن قلعوك من ضلع الأرض».
وإلى الفوضى العارمة في سوريا تقودنا من أيدينا وتزج بنا في قصيدة «تدمر»، قصيدة الدمار التام، تصرخ مثل زنوبيا في وجه أورليان، زنوبيا التي لا يهمها تدمرالآن ولا الإنسان في تدمر وفي كل «سوريا الحرة»، ترمي الصرخة إثر الصرخة والسؤال بعد السؤال في وجه البلاد التي أكلت بعضها، واستدعت الكلاب المسعورة إلى وكر الإنسان المسحوق داعية بكل وقاحة وراحة بال إلى تفريخ الأشلاء والقذائف والضحايا التي تنحر وتسكب دماؤها في قصعات تتصافح فيها الأيدي الآثمة، الأيدي التي ما لبثت أن قادت قيساً الأعزل إلى وجار الضبع وتركت ليلى تمرح مع الذئب الماكر: «كيف يقتل وطن وطنه؟!»، «الوطن الذي لا يملك أي كلب وفيّ⁄ كل كلابه قذرة»، «مقسوم وجه الوطن⁄ من أولئك المتقاتلين على السماء».
و «تدمر لا تبلع ريقها
لأن كل الذين قُطفت رؤوسهم من حناجرها
لم يبلعوا ريقهم
فعطشوا
وماتوا».
حزن ودمار وحرب وفجيعة وفقدان وشعور بلا جدوى الزمان والمكان. تجذّرالغياب: غياب البلاد، وغياب الحبيب، وغياب الطفل القتيل عن الحصة المدرسية، وغياب المسرات. ترسخ القبح والبشاعة: فلا زهور، «ولا سنديانة تطلع من جبهة الوقت»، ولا «هواء يرشح معاطف قديمة»، ولا برتقال، ولا شمسية تستظل بظلها من جحيم الصيف أو مظلة تحتمي بها من أعاصير الشتاء. صخب يبطش بالبلاد، وصمت يبطش بها وينساها لكنها لا تنساه وتوجه إليه رسالة عتاب: «إلى الصمت: كم أسمعك، كم ستنساني». قتل تبعث له برسالة مستعجلة، وتقرأ فيه قصيدة ذم قبيحة مثل وجهه، بصوت عال جداً، حتى إذا بكى خرجت من باب الغرفة منتصرة عليه. كل هذه الأشياء تقودها إلى الضحك: «أضحك كي يكون جحيمي حلواً»، وتجعلها تصرعلى الغناء وعلى أن تفتح له أذنين عريضتين وحنجرة صدّاحة وقلباً كبير. تظل «غزالة تغني»، وتذهب بخطى وسيعة إلى قصيدة «فلنغنِّ» فتبدأها بمقطع غنائي يتلوى بشجن قاتل ومفارقة مأساوية مبكية حتى الضحك، قصيدة ليست إلا «أغنية معذبة» تبعاً لعنوان قصيدة أخرى، وليست سوى أغنية صامتة خرساء يطبخها الكل الذي يغني على ليلاه، كما نرى:
«الجميع يمكنه أن يغني
الذي ارتكب الشجرة
والذي ارتكب المجزرة».
تحضها السخافات السابقة و «أحباء بعيدين لا ينادى عليهم إلا بالغناء» إلى أن تبحث عن خيط من ضوء وعن بريق من أمل وبصيص من حياة في نفق مظلم، لكنها لا تفلح في مسعاها فتشرع بالغناء من جديد، غناء يؤسس للعبث واللامبالاه ويرسم مشهداً درامياً سوداوياً في مقطع أخير من فيلم «الحياة» الغامض الساخر. إذاً تعقد الأمور بات واضحاً وعليها أن تنفض يدها وتختتم القصيدة بصوت أوبرالي هائل:
«رأيتم!
في غرفة الحياة
ننتظر حياة أخرى
نتمنى أن تشبه الحياة أكثر
ننتظر حياة أخرى
وما باليد حيلة
فلنغنِّ.. فلنغنِّ».
ثم تشرع بالرقص: إنها «رقصة عصية على الفهم، تشبه أول بريد في العالم».
وغرفة الحياة تلك ربما هي ذاتها الغرفة التي تؤثثها ثلاثة كراسي تافهة، والغناء هذا هو ذاته التي دندنت به الغزالة في القصيدة الأولى، وأتت عليه في كثير من القصائد الأخرى.
لكن تمهلوا قليلاً، لا بد للمرأة الشجرة أن تزرع شجرة أخرى قبل أن تذبل وتموت، لا بد وأن تملأ كفها وترمي البذور، بذرة ذاتها وبذرة الآخرين وبذره العالم بأسره:
«سوف نغرس الأشجار
سوف نغرس الأشجار
سوف نغرس الأشجار
ولن نسمي الشجرة.. إلا شجرة».
الكتابة وسيلة لتفريغ الطاقات الكامنة وإشباع الذات الجائعة المحرومة، وصلاة لاستدرارالدموع والبكاء: «الشاعر يكتب كي يبكي» ، وإشارة في الشارع العام تدل من يراها فقط ويدركها خير الإدراك إلى «بيت الصبر»:
«والكتابة ليست إلا فخّ
من قشّ ورغبة
ننقعه في الملح
ونلفّ به الأوجاع
حتى تثمر
صبراً ونهاية..»
ثمة تحميل فائض للعبارة في كثير من المواضع بزوائد لغوية واستعارات في غير مكانها، ترتسم بطريقة تجور على المعنى وتصنع نشازاً ولحناً رديء من شأنه أن ينسف النص كاملاً عن بكرة أبيه. الكتابة النقية أساسها الإختزال والمعنى، أما الحشو فلا يملك سوى صرف الأنظار عن الجوهر والطوفان على الوجه مرسخاً بذلك الركاكة والتسطيح. من تلك العبارات مثلاً: «الصوت عال مثل عواء قطة الوقت» «تحمل اسطبل سنينك نحوي» «عاجٌ من بهجة فضةٍ قاتل». بابَيْ «نصوص» و «رسائل» أعتقد كان من الأفضل أن لا تنشر في كتاب، جميعها دون المستوى وتثخنها المطمطة والحمولة الزائدة والحشو باستثناء: نص «جدتي»، و «رسالة إلى القتل»، و «على السياج» التي هي في الحقيقة ليست رسالة بقدر ما هي قصيدة دخل عليها المحكي في النهاية (نهاية الرسالة ونهاية الكتاب أيضاً) بصورة مدهشة تشد القارئ:
«كلشي ما جربناه
كلشي جربناه
بيوت مَيّه طينها ناسها
وريحة ميرامية..».
عبير أبو دية التي تجيد الغناء والشعر، وتبرع في تحويل الذاتي إلى موضوعي تام، والشخصي إلى أدبي خالص، باكورة أعمالها هذه، بكل ما فيها من قصائد تنوعت في مكانتها من الجمال وفي موقعها داخل الهرم الإبداعي الفني، بإمكاننا القول ربما تكون بداية تجربة شعرية مهمة ومختلفة ننتظر بشغف أن ترى النور وأن تتنفس الأوكسجين النقي، أو الأوكسجين على الأقل غاضين الطرف عن ماهيته ونقائة.
____________
*شاعر أردني