د. عماد أبو غازي
خاص ( ثقافات )
“المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك الشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية”.
“وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية”.
مقتطفان من المادة 68 من دستور جمهورية مصر العربية الذي وافق عليه المصريون بأغلبية كبيرة في يناير 2014.
“حرية الوصول إلى الوثائق يثري معرفتنا للمجتمع الإنساني، ويعزز الديمقراطية، ويحمي حقوق المواطنين، ويحسن نوعية الحياة”.
“تستخدم الأرشيفات للمساهمة في تعزيز المواطنة المسؤولة”.
“ينبغي أن تكون الأرشيفات متاحة للجميع”.
ثلاثة مقتطفات من الإعلان العالمي للأرشيف الصادر عن المجلس الدولي للأرشيف في 2010.
أحاول هنا أن أجيب عن سؤال يلح على كل المعنيين بالحق في المعرفة، هل تلبي قواعد الإتاحة المعمول بها في الأرشيف القومي المصري حاجة المواطنين؟
أو حتى حاجة الباحثين؟
وما تقييم هذه القواعد في ضوء معايير حقوق الإنسان ومن ضمنها الحق في الحصول على المعلومات والحق في المعرفة؟
وتشتبك هذه الورقة مع هذه الإشكالية، في محاولة لإلقاء الضوء على تطور نظم الاطلاع والإتاحة، والتشريعات المنظمة لها، ووجهات النظر المختلفة في هذا المجال، كما تسعى للإجابة عن التساؤل المطروح على الساحة المصرية منذ منتصف التسعينيات: هل هناك حاجة لقانون جديد للوثائق في مصر؟ وهل الوضع القائم يتلاءم مع قواعد الإتاحة والاطلاع في عصر مجتمع المعرفة؟
تبدأ رحلة الأرشيف القومي الحديث في مصر مع إنشاء الدفترخانه العمومية سنة 1829، ورغم أن حفظ الوثائق كان معروفا في مصر منذ القدم وعبر العصور، إلا أن فكرة الأرشيف القومي لم تظهر إلا مع ظهور الدولة القومية الحديثة.
وقد كان الغرض من إنشاء الدفترخانه في بدايتها حفظ الأوراق والسجلات والدفاتر الناتجة عن نشاط دواوين الحكومة وفروعها في الأقاليم بطريقة منظمة، بحيث يمكن للقائمين عليها الوصول إلى محتوياتها بسهولة، وفي نفس الوقت توفير مكان آمن لها، وتم تحديد نظام العمل في الدفترخانة بمعرفة المجلس العالي (الهيئة الإدارية العليا التي يستشيرها الباشا في إدارة أمور البلاد). وطوال القرن التاسع عشر صدرت عدة لوائح للدفترخانة كان آخرها لائحة 1895، وقد طورت تلك اللوائح وظائف الدفترخانة، فبعد أن بدأت عملها كمجرد مكان لحفظ الوثائق الإدارية والمالية للدولة لأغراض العمل الحكومي، أصبحت مع نهاية القرن التاسع عشر تقوم بمهام الأرشيف القومي الحديث، بعد أن أضيف إلى اختصاصها حفظ الوثائق لأغراض البحث التاريخي والقانوني والعلمي والإحصائي، وقد تغير اسم الدار إلى دار المحفوظات العمومية ولا زالت تحمل هذا الاسم إلى الآن، وتتبع حاليا وزارة المالية، وتحتفظ بأنواع محددة من الوثائق، مثل: سجلات المواليد والوفيات، وملفات خدمة موظفي الدولة بعد إحالتهم إلى المعاش، ودفاتر الضرائب العقارية، وأصبحت الدار تلعب دورا أقرب إلى دور الأرشيف الوسيط.
وطوال الوقت لم تكن دار المحفوظات العمومية ومن قبلها الدفترخانة تقدم خدمات الإتاحة للباحثين بيسر وسهولة، فقد كانت في بداية تأسيسها وعلى مدى أكثر من خمسة وستين عاماً مجرد مؤسسة لحفظ وثائق الدولة المالية والإدارية بعد انتهاء استخدامها، يتم الرجوع إليها من قبل جهات الإدارة في بعض الأحيان للحصول على المعلومات إذا اقتضت ذلك حاجة العمل الإداري، ولم يكن من ضمن وظائفها تقديم خدمات للباحثين، والحقيقة أن الدراسات التاريخية المعتمدة على الوثائق لم تظهر في مصر إلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وربما كان على باشا مبارك (1824 ـ 1893) أول مصري في العصر الحديث يستخدم الوثائق كمصدر للدراسة وللمعلومات في عمله الضخم “الخطط التوفيقية الجديدة لمصرالقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة”، خاصة في جزئيه الثاني والثالث، حيث استندإلى حجج الوقف ـ التي كانت تحت يده بحكم توليه نظارة الأوقاف ـ في وصف المبانيوالمنشئات المختلفة في القاهرة، وفي تتبع أوضاع الملكية العقارية في المدينة، كمااستعان بدفاتر الحيازة الزراعية ـ بحكم توليه نظارة الأشغال ـ في تحديد مساحات القرى فيأقاليم مصر المختلفة في الأجزاء الباقية، فقدم بذلك عملا رائدا، هو الأول في مجاله من حيث أنه جاء موثقا توثيقا علميا مستندا إلى الحجج الشرعية والدفاتر المالية؛ لكن هذا لا يعني أن الوثائق كانت متاحة وقتها للباحثين فقد سمح وضع على مبارك الوظيفي له بمطالعة الوثائق والاستعانة بها.
وعندما صدرت لائحة 1895 نصت ضمن تحديدها لأنواع الوثائق التي تحتفظ بها الدار على أن من بينها “الدفاتر والأوراق المقتضى حفظها إلى ما لا نهاية والاستكشاف منها عن المواد التاريخية والعلمية والقانونية والصناعية والإحصائية والطبوغرافية، مثل الدفاتر والأوراق الخاصة بالسلطان العثماني، وأوامر الحضرة الخديوية، وأوراق ودفاتر نظارات الخارجية والحقانية والداخلية والمعارف العمومية والأشغال العمومية والحربية والمالية”، لكن اللائحة لم تحدد من لهم حق الاطلاع على هذه الوثائق، كما منحت لبعض النظارات الحق في الاحتفاظ بوثائقها في حوزتها. وقد انتقل هذا الحق إلى قانون دار الوثائق القومية بعد ستين عاما.
وإلى يومنا هذا ما زالت قواعد الإتاحة والاطلاع في دار المحفوظات العمومية تميل إلى التقييد ولا تحكمها ضوابط محددة، ما عدا ما يتعلق بخدمات الجمهور في الحصول على صور رسمية من شهادات الميلاد والوفاة.
أما المرحلة الثانية في رحلة الأرشيف القومي المصري فقد بدأت في عصر الملك أحمد فؤاد الأول، فبعد صدور تصريح فبراير 1922 الذي تحولت مصر بمقتضاه إلى مملكة مستقلة استقلالا مقيدا، بعشر سنوات ـ أي في عام 1932 ـ أنشأ الملك أحمد فؤاد الأول قسم المحفوظات التاريخية بقصر عابدين والذي يعرف بين الباحثين بأرشيف عابدين التاريخي، ورغم التأريخ لأرشيف عابدين بعام 1932، إلا أن العمل بدأ فيه منذ عام 1925 عندما شكل الملك فؤاد لجنة برئاسة حسن باشا نشأت لدراسة المحفوظات التاريخية الموجودة بالقصر واتخاذ قرار بشأن الاستفادة منها، وفي العام التالي استدعى المستشرق الفرنسي جان ديني الذي أعد فهرسا للوثائق التركية بقصر عابدين وغيره من الأرشيفات المصرية، وبناء على ما قامت به لجنة حسن نشأت وما قام به ديني تقرر في عام 1932 ضم مجموعات من الوثائق الموجودة بدار المحفوظات والمتعلقة بعصر محمد على وعصر إسماعيل على وجه الخصوص إلى مجموعة عابدين وحفظها بالقصر، كما تم تكليف عدد من المتخصصين بالتجوال في الأرشيفات الأوروبية لجمع ما يتيسر من وثائق تتعلق بتاريخ مصر في عصر الأسرة العلوية، وهكذا تأسس أرشيف عابدين التاريخي الذي ضم الوثائق التركية المحفوظة بالقصر إلى جانب الوثائق التي انتزعت من مجموعاتها الأرشيفية بدار المحفوظات العمومية وما تم جمعه من خارج مصر من وثائق أصلية أو صور للوثائق، خصوصا تلك التي تتعلق بمحمد على باشا والخديوي إسماعيل.
ومنذ اللحظة الأولى كانت وثائق أرشيف عابدين التاريخي متاحة للباحثين، فقد كان هدف فؤاد الأساسي من وراء ذلك توفير الوثائق للباحثين لكتابة تاريخ أسرة محمد علي، فأسسأول مشروع ظهر في مصر لكتابة التاريخ استناداً إلى الوثائق، حيث أتاح وثائق أرشيف عابدين للأساتذة والدارسين الأجانب، كما أتاحه لمجموعة من شباب الباحثين المصريين لينجزوا رسائلهم العلمية عن مصر في القرن التاسع عشر، ووفر لهم المترجمين المتخصصين ليقوموا بترجمة الوثائق التركية إلى اللغة العربية. مما أسهم في دعم ظهور مدرسة جديدة من المؤرخين المصريين الأكاديميين الذين اعتمدوا على الوثائق في دراستهم للتاريخ.
وفي عام 1954 مع بداية العصر الجمهوري صدر القانون رقم 356 لسنة 1954 بإنشاء دار الوثائق التاريخية القومية لتكون أرشيفاً قومياً لمصر، وتعد الدار أول أرشيف قومي حقيقي للبلاد، وحدد القانون وظيفة الدار، التي تنص على: “تقوم هذه الدار بجمع الوثائق التي تعد مادة لتاريخ مصر وما يتصل به في جميع العصور وبحفظها وتيسير دراستها والعمل على نشرها”، ورغم أن القانون يُكل للدار مهمة جمع الوثائق المتصلة بجميع عصور التاريخ المصري، إلا أن واقع الحال أنها تصدت لجمع الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر منذ الفتح العربي فقط، بل إن كثير من هذه الوثائق تحتفظ به مؤسسات أخرى، وربما يرجع ذلك إلى أن القانون عند صدوره قيد الدار في جمعها للوثائق بالالتزام بقانون الآثار القائم وقتها، والذي احتفظت المتاحف الأثرية بكثير من الوثائق التي تم العثور عليها ضمن الكشوف الأثرية في متاحف الآثار المختلفة والتي سبق إنشاء أولها دار الوثائق القومية بنحو قرن من الزمان.
وقد ضمت الدار كنواة لتأسيسها وثائق أرشيف عابدين ووثائق أخرى من مجموعات دار المحفوظات، إلى جانب الوثائق التي تنتقل إليها من مجلس الوزراء ووزارات الخارجية والعدل والأوقاف، إلى جانب الأزهر الشريف.
ومن الملاحظ أن القانون لم يضع معايير محددة للسرية أو مددها، وفي عام 1975 صدر قانون المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها، الذي تم تعديله عام 1983. كما صدر قرار جمهوري لتحديد درجات السرية ومددها جعل الحد الأقصى لها 50 عاما. وقد كان المقصود من هذه التشريعات تقييد حق المواطنين في الاطلاع على الوثائق ونشرها، كما كشفت المذكرة الإيضاحية للقانون.
فضلا عن ذلك فقد أعطى القانون لمجلس الوزراء والأزهر ووزارات العدل والخارجية والأوقاف الحق في الاحتفاظ بما ترى أنه وثائق لها صلة سرية، وقد فتح هذا النص الباب أمام التوسع في حجب الوثائق عن الجمهور والباحثين.
وتقدم دار الوثائق القومية خدماتها للباحثين في مجالات التاريخ والآثار والوثائق والعلوم السياسية، كما تقدم أيضا خدمات للجمهور الذي يحتاج إلى صور رسمية من الوثائق القديمة لاستخدمها في المنازعات القضائية. لكن القيود المفروضة على هذه الخدمات لا تفي بمتطلبات البحث العلمي كما إنها تتعارض مع حق المواطنين في المعرفة، ورغم محاولات تعديل قانون دار الوثائق القومية منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلا أن هذه المحاولات انتهت إلى الفشل مرة وراء مرة.
لقد دخلت مصر عصر الأرشيفات الحديثة في عشرينيات القرن التاسع عشر وخلال ما يقارب القرنين من رحلة الأرشيف المصري كانت إشكالية الاطلاع والإتاحة موضوعاً مطروحاً للنقاش، خاصة مع تعدد مؤسسة الحفظ الأرشيفي واختلاف لوائحها وقواعد العمل بها وتبعيتها الإدارية، ومع وجود مؤسسات تقتني مواد أرشيفية غير تقليدية، مثل: الرسوم الهندسية والخرائط والصور الفوتوغرافية والمواد المسموعة والمرئية؛ فتختلف مشكلات الإتاحة في هذا النوع من الأرشيفات لأن مقتنياتها تختلف من حيث وضعها القانوني عن مقتنيات الأرشيف القومي من الوثائق التقليدية، فبينما تقع الوثائق التقليدية في الملك العام، تتمتع معظم المواد التي تحتفظ بها الأرشيفات النوعية والمتخصصة بحماية قانونية بمقتضى قوانين حماية الملكية الفكرية.
لقد ازدادت أهمية الوثائق والحفاظ عليها مع دخول العالم في عصر ثورة المعلومات والاتصالات وانتقال المجتمعات الإنسانية إلى ما نسميه بمجتمع المعرفة، كما تضاعفت إمكانيات الحفاظ على الوثائق وإتاحتها بفضل المعطيات التي اتاحها هذا العصر.
وتمتلك مصر تراثاً وثائقياً ضخماً، يتنوع ما بين الوثائق التقليدية القديم منها والحديث، والوثائق المحملة على الوسائط الحديثة بأشكالها المختلفة بدأ من الصور الفوتوغرافية مروراً بالمواد السمعية والأفلام انتهاءً بالوثائق الإلكترونية.
للوثائق أهمية كبيرة كمصدر للمعرفة التاريخية، لكن أهميتها تتجاوز ذلك بكثير، خاصة في عصر المعلومات، حيث تشكل المواد الوثائقية مصدراً مهما من مصادر المعلومات التي ينبغي أن تتاح للباحثين ولمتخذي القرار على حد سواء، كذلك تستعين قطاعات واسعة من الجمهور بالوثائق المحفوظة في دار الوثائق ودار المحفوظات في النزاعات القضائية وفي أثبات الحقوق القانونية، كما أن حفظ الوثائق بشكل منظم يمكن الدولة من الحفاظ على الحقوق الوطنية، ولعل انتصار مصر في قضية التحكيم حول طابا يبين قيمة الوثائق وأهميتها.
ويعاني مجتمعنا من بعض المشكلات في مجال حفظ الوثائق واتاحتها، ورغم أن السنوات العشر الأخيرة قد شهدت تطورات مهمة في مجال الوثائق إلا أننا مازلنا في حاجة إلى الكثير.
وتتركز متطلبات التطوير في مجال الوثائق فيما يلي:
1. الاستمرار في مشروع الرقمنة الذي بدأ بالفعل في دار الوثائق القومية بدعم من وزارة الاتصالات.
2. دعم دار الوثائق القومية بالعنصر البشري المؤهل تأهيلاً مواكباً لتطورات العصر في مجال الوثائق والمعلومات حتى تستطيع القيام بدورها كأرشيف قومي لمصر.
3. الإسراع بإصدار قانون حرية تداول المعلومات وقانون الحفاظ على الوثائق.
ويشكل إصدار قانون جديد للوثائق عنصراً محورياً لأي تطوير مرتقب في هذا المجال، وقد شهدت السنوات العشرين الأخيرة خطوات في هذا الاتجاه لكنها لم تنتهِ بعد إلى النتيجة المرجوة، وربما يستدعي هذا توضيحاً للمسار الذي اتخذته محاولات إصدار هذا التشريع.
لقد صدرت التشريعات التي تنظم حفظ الوثائق وتداولها في مصر عام 1954، وأدخلت عليها بعض التعديلات التي شددت عقوبة إفشاء الوثائق السرية في سنوات 75 و78 و83، وهذا التشريع أنقضى على صدوره أكثر من ستين عاماً تغيرت فيه مفاهيم علم الأرشيف في العالم كله، وظهرت أشكال وأنواع جديدة من الوثائق لم تكن موجودة وقت صدور القانون، كما شاعت في السنوات الأخيرة ظاهرة ضياع كثير من وثائقنا بالإعدام أو البيع بسبب ثغرات التشريعات القائمة، ومرور أكثر من ستين عاماً على صدور هذه التشريعات يفرض علينا إعادة النظر فيها لعدة أسباب:
1. لتتوافق مع المفاهيم الجديدة لمجتمع المعرفة وعصر ثورة المعلومات والاتصالات.
2. لتحقق مبادئ الحق في المعرفة وحرية تداول المعلومات.
3. لتلبي احتياجات البحث العلمي.
4. لتتواكب مع التطورات العالمية الحديثة في مجال انتاج الوثائق وحفظها.
وقد بدأت دار الوثائق القومية منذ سنوات الإعداد لإصدار قانون جديد للوثائق من خلال لجان من المتخصصين في التاريخ والوثائق والقانون، استمرت تلك اللجان في عملها منذ 1995، وخلال ثلاث سنوات درست اللجان تشريعات الوثائق في مختلف دول العالم، ودرست تطور تشريعات الوثائق في مصر، كما درست واقع حالنا وانتهت بتقديم المشروع الذي أخذ طريقه الطبيعي في مؤسسات الدولة إلى أن قٌدم لمجلس الشعب، وثار حوله جدل واسع في الصحافة، كان السبب فيه تفسير غير صحيح لنصوص القانون، والذي ثارت حوله مجموعة من الشكوك والشبهات التي لا أساس لها، فتم سحب القانون من مجلس الشعب، ثم أعيد بعد سحبه إلى لجان جديدة لمناقشته بعد الاستماع لآراء المعارضين والمؤيدين، وتمت مناقشة موضوع هذا القانون في أكثر من ندوة ومؤتمر علمي، وأصبح من الملائم دفع القانون إلى المجالس النيابية لمناقشته وإصداره.
ويهدف مشروع القانون من خلال نصوصه إلى إرساء مجموعة من المبادئ تضمنها المشروع الذي سحب والمشروع الجديد:
أولاً: إن الأصل في الوثائق بعد انتهاء استخدامها العلانية ما لم ينص على خلاف ذلك.
ثانياً: إن دار الوثائق القومية مسئولة عن جمع الوثائق التي تصدرها وتتلقاها مؤسسات الدولة المختلفة بغض النظر عن شكلها ونوعها بحيث يدخل في ذلك الأفلام الوثائقية والصور والتسجيلات الصوتية ومخرجات الحاسب الآلي، لكن ذلك يأتي بعد انتهاء استخدامها في الأغراض التي أنشئت من أجلها. ويلزم القانون جميع الجهات الحكومية بتسليم وثائقها للدار لحفظها بها بعد انتهاء استخدامها الإداري والقانوني في تلك الجهات، وذلك إذا كان للوثائق قيمة تستدعي حفظها حفظاً دائماً.
ثالثاً: يحقق المشروع اللحاق بالتطور الأرشيفي في العالم، بإلزامه المؤسسات الخاصة بإيداع وثائقها بالدار بعد انتهاء استخدامها للأغراض التي أنشأت من أجلها بدلاً من إعدامها أو بيعها، وذلك للحفاظ على جزء مهم من تاريخ مصر وتوفير إتاحته للباحثين.
رابعاً: إن الهدف من جمع الوثائق وحفظها إتاحتها للباحثين وللمواطنين.
وقد تضمن المشروع الحالي للقانون تعريف الوثيقة بشكل محكم، بعد مراجعة نصوص قوانين الوثائق في كثير من دول العالم، من بينها إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية التي سبقتنا في مجال إصدار قوانين للوثائق مثل الجزائر، وقد جمع المجلس الدولي للأرشيف هذه القوانين كنماذج إرشادية لصياغة تشريعات الوثائق، إذا فنحن أمام تعريف محكم ودقيق إلى أبعد حد.
فالوثيقة وفقاً لمشروع القانون “كل مادة يصدرها أو يتلقاها شخص من أشخاص القانون العام أو الخاص خلال نشاطه اليومي أياً كان شكلها أو كيفية إنتاجها مدوناً أو مسجلاً أو مصوراً عليها بيانات أو معلومات أو صور، وتكون لها قيمة تستدعى حفظها حفظاً دائماً”، ويتوافق هذا التعريف مع ما ورد بالفعل من تعريفات في التشريعات الأمريكية والفرنسية والبريطانية وكثير من تشريعات الدول العربية.
لقد ارتبطت الدراسات الوثائقية الحديثة بشقيها ـ أي اتخاذ الوثيقة موضوعاً للبحث، واعتمادها مصدراً للمعلومات خاصة في مجال الدراسات التاريخية ـ بالتحديث وبظهور الدولة القومية أي بعصر الثورة الصناعي.
كما ارتبط بهذا العصر أيضاً، الاهتمام بجمع الوثائق وحفظها، وبإنشاء الأرشيفات القومية، وخلال عصر الثورة الصناعية تطورت أشكال الوثائق وأنواع الوسائط المادية التي تُحمل عليها البيانات، وقد تطورت مؤسسات الأرشيف تطوراً هائلاً بظهور التقنيات الحديثة لتدوين الذاكرة الإنسانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم طوال القرن الماضي الذي شهد الانتقال إلى عصر ثورة المعلومات والاتصالات وحضارة الموجة الثالثة، فظهرت الأرشيفات السمعبصرية، بما استتبع ذلك من ظهور مفاهيم جديدة فيما يتعلق بالحفظ والإتاحة والحقوق القانونية، كما شهدت مؤسسات العمل الأرشيفي نقلة نوعية جديدة في عملها، أدت إلى تحولات مهمة في أهداف دراسات الوثائق والأرشيف وموضوعاتها وتوجهاتها.
واليوم والعالم يدخل بقوة في عصر مجتمع المعرفة يأخذ دور الأرشيف أبعاداً جديدة، فالأرشيفات بأنواعها المختلفة مصدر من مصادر المعرفة، التي هي أساس القوة في العصر الراهن، لقد بات جوهر التنمية الإنسانية مرتبطا بعملية توسيع الخيارات أمام الناس، الأمر الذي يعني إتاحة أكبر قدر من المعلومات أمامهم، ويشكل الأرشيف كمصدر من مصادر المعلومات الأساسية في المجتمع، نقطة من نقاط الارتكاز في هذه العملية، ففي العصر الجديد أصبحت التحولات على الصعيد الثقافي والمعرفي حاسمة في إنجاز التطور المنشود، فالمعرفة هي كلمة سر العصر الجديد، وقد باتت منتجا استراتيجيا في هذا العصر، لقد أضحى اقتحام مجتمع المعرفة والدخول إليه بقوة وجسارة ضرورة لازمة لتحقيق التنمية البشرية الشاملة والمستدامة، وكما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول الصادر عام 2002، فإن “المعرفة هي عماد التنمية، وتزداد أهميتها في عصر العولمة الذي يتسارع فيه التغيير التكنولوجي بشكل غير مسبوق. فالمعرفة سلعة ذات منفعة عامة تدعم الاقتصادات والبيئة والمجتمعات، وتنتشر في جميع جوانب النشاط الإنساني” وإذا كان اكتساب المعرفة وسيلة مهمة لبناء قدرة الإنسان، فإن له قيمة في حد ذاته باعتبار أن المعرفة هي العنصر الرئيسي في الإنتاج، والمحدد الرئيسي للإنتاجية ورأس المال البشري، فهناك تكامل واضح بين اكتساب المعرفة والقوة الإنتاجية للمجتمع، ومن هنا فإن قلة المعرفة أو ركود تطورها يؤديان إلى ضعف القدرة الإنتاجية وتضاؤل فرص التنمية، حتى أن فجوة المعرفة أصبحت تعد المحدد الرئيسي لمقدرات الدول في عالم اليوم بعد أن كانت فجوة الدخل هي التي تحدد قدرات الدول، وتشكل الثقافة بمعناها الواسع روح التنمية، كما يشكل الإنتاج الثقافي للمجتمع وصناعاته الثقافية دعامة أساسية من الدعامات التي يقوم عليها مجتمع المعرفة”وتتوقف قيمة المعرفة لأغراض التنمية على مدى تطبيقها بفاعلية، لذلك يتطلب السعي لإقامة مجتمع يقوم على المعرفة وضع استراتيجيات فوق قطاعية تحقق التكامل بين استيعاب المعرفة واكتسابها ونشرها”، ويشكل توافر الإطار المؤسسي الملائم عنصرا مهما في عملية اكتساب المعرفة، كما يشكل توافر المعلومات وتدفقها عنصرا أساسيا في هذه العملية.
وما زلنا في مجتمعاتنا العربية نعاني من الفجوة المعرفية والفجوة الرقمية، ومن محنة نقص البيانات والمعلومات وتضاربها، وقد رصد تقرير التنمية الإنسانية العربية حقيقة أن البلدان العربية تواجه فجوة كبيرة في المعرفة، وهي فجوة يصعب التغلب عليها وتجاوزها كلما مر الوقت، “لأن المعرفة، بمعناها الواسع، هدف متحرك، وحدودها في توسع مستمر، ويشكل ضعف السياق المؤسسي في المجتمع وفجوة المعرفة وقصور الحريات الإنسانية أكثر العوائق خطورة على التنمية الإنسانية في المنطقة العربية.
وإذا كانت بعض الدول العربية قد حققت في السنوات الماضية منجزا مهما على صعيد تطوير البنية الأساسية في مجال إنتاج المعرفة، فإن هناك شرطين أساسيين لا غنى عنهما لاستكمال هذا الإنجاز وتطويره:
أول هذان الشرطان، إطلاق كل طاقات الإبداع المعرفي لدى الإنسان بلا حدود ولا قيود، وإذا كانت قيود الماضي قد أعاقت تطورنا في عصر الثورة الصناعية، فلا نملك رفاهية أن تعوقنا هذه القيود في عصر مجتمع المعرفة، فالحرية الفكرية والسياسية شرط ضروري لتحقيق أي تطور لمجتمعاتنا، فبدونهما من المحال أن نتحدث عن منافسة في مجال إنتاج المعرفة، أو مواجهة لمحدثات العولمة.
أما الشرط الثاني فهو الشفافية الكاملة في المجتمع، وحرية تداول المعلومات، وهنا تأتي مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، فعليها يقع عبء تطوير مرافق المعلومات ـ ومنها مؤسسات الأرشيف ـ وتغيير البنية التشريعية بما يحقق التدفق المرن واليسير للمعلومات، ورغم ما تحقق على صعيد بناء البنية الرقمية في عدد من الدول العربية فمازال الأمر يحتاج إلى مزيد من الجهد والعمل حتى نلحق بعصر المعلومات وبمجتمع المعرفة، فبدون الحرية الفكرية والشفافية المعلوماتية لن نستطيع أن نحقق على المستوى العربي إنجازاً حقيقياً في مجال إنتاج المعرفة نواجه به عصر العولمة.
ومن هذه الزاوية يمكن أن ننظر إلى الأرشيف ومؤسساته، فقد بات من الضروري أن نحدث ثورة في مفاهيم العمل الأرشيفي وفي آليات العمل بالمؤسسات الأرشيفية، قوامها إتاحة مواد الأرشيف للكافة بالاستعانة بالتقنيات الحديثة، تطوير التشريعات الأرشيفية بما يلائم هذه الروح الجديدة، روح الإتاحة لا المنع، ويتوافق مع متطلبات مجتمع المعرفة، مع الاستفادة بإمكانيات الثورة الرقمية في عمل المؤسسات الأرشيفية، وهي أمور تستدعي أساليب جديدة في التكوين الأرشيفي.
في مصر نعيش في واقع يتجاذبه اتجاهان، فمن ناحية تتزايد القيود على الحق في الوصول للوثائق وحرية تداول المعلومات، بالمخالفة لدستورنا الجديد، ومن ناحية أخرى بدأ العمل في مصر في السنوات الأخيرة في اتجاه تطوير البنية الرقمية في مؤسسات الدولة المختلفة، وفي الاتجاه نحو تبني مشروع الحكومة الإلكترونية، وهي أمور تنعكس بوضوح على العمل الأرشيفي، وفي نفس الوقت شهدت السنوات الأخيرة تطوراً واضحاً في عمل الأرشيف القومي المصري (دار الوثائق القومية) وتبني سياسات التحول الرقمي فيها، بعد سنوات طويلة من القصور في عمل هذه المؤسسة المهمة، وهو القصور الذي أشارت إليه البحوث والدراسات والتقارير في رصدها لمشكلات الأرشيف القومي المصري، هذا بالإضافة إلى أنه صار من المحتم على الدار أن تتدخل في إنتاج الوثائق الجارية في مختلف الجهات، لتقنين إنتاج النماذج ووضع الضوابط لتبسيط إجراءات الدورة المستندية، وكذلك القيام بوضع القواعد التي ينبغي أن تتبع في العمليات الفنية من ترتيب ووصف وترميز، حتى تسهل في النهاية إجراءات الفرز والتقييم للوثائق بكافة أنواعها، لتحديد ما سوف يتم الاستغناء عنه، وما سوف يحتفظ به كوسائل للإثبات القانوني أو لخدمة الأغراض الثقافية والعلمية، كذلك بات من الضروري العمل على امتداد سيطرة دار الوثائق القومية على مجموعات الأرشيف الخاص التي أصبحت تشكل مصدراً مهماً من مصادر البحث العلمي، بما لا يتعارض مع مبدأ الخصوصية، ونظرا للكم الهائل من الوثائق المفترض أن يضمها الأرشيف القومي فلابد من التفكير بجديه في إنشاء فروع إقليمية لدار الوثائق القومية، ولا شك في أن حل جزء كبير من مشكلات الأرشيف القومي المصري وتلبية متطلبات تطوير دار الوثائق القومية، يتوقف على الاتجاه إلى التحول الرقمي في عمل مؤسسات المجتمع المختلفة بما يترتب عليه من ظهور الأرشيفات الإلكترونية، واتجاه دار الوثائق نفسها إلى سياسة التحول الرقمي في تقديم خدماتها للباحثين وللجمهور.
لقد أدى ظهور الوثائق الإلكترونية إلى تعقد نظم الرقابة والتقييم والفرز والإعدام، فملكية الوثائق الإلكترونية لا تقتصر عادة على هيئة واحدة، بل تكون جزء من شبكة أكبر إقليمية أو قومية أو عابرة للقومية، كما أن التعامل معها يقتضي معرفة بقواعد البيانات والبرامج ونظم المعلومات التي تتعامل معها، وتمثل نظم الوثائق الإلكترونية ثلاث تحديات أساسية للأرشيفي:
أولاً: تهدد بإحداث تحول للإطار البيروقراطي المستقر نسبيا واستبداله ببناء تنظيمي ما زال في بدايته الأولى.
ثانياً: تقودنا إلى أساليب جديدة من الاتصالات وأشكال جديدة من الوثائق لم تتضح حدودها بعد.
ثالثاً: تطور تكنولوجيا المعلومات الحديثة تحرم الأرشيفيين من رغد إمكانية إصدار أحكام الفرز بعد إنشاء الوثيقة الإلكترونية بشهور أو ربما حتى سنين.
وفي البداية لم ينتبه الأرشيفيون إلى أهمية التعامل مع الوثائق الإلكترونية، لكن منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي بدأ الانتباه إلى هذا النوع من المواد.
تبقى نقطة أخيرة تتعلق بحاضرنا اليوم ومستقبل التوثيق، فإذا كنا قد فقدنا الكثير من وثائقنا عبر العصور فعلينا اليوم أن ننتبه كي لا نفقد ما ينتج كل يوم من وثائق، خاصة تلك الوثائق التي تنتج بأدوات العصر الجديد، عصر حضارة الموجة الثالثة، عصر ثورة المعلومات والاتصالات، عصر مجتمع المعرفة، فقد فقدت المؤسسات الرسمية احتكارها لإنتاج الوثائق، فاليوم يمكن لكل من يحمل في يديه كاميرا رقمية أو أي باد أو جهاز جوال أن يكون موثقاً مستقلاً متجولاً وسط الأحداث، وأن يبني أرشيفه الخاص بنفسه، ولعل ثورات الربيع العربي وما تشهده من أساليب جديدة للتوثيق الحي للحدث والتداول السريع للمواد الموثقة، سواء كانت نصوص في شكل تدوينات أو تغريدات أو بيانات سياسية أو صور رقمية ثابتة أو مشاهد حية مصورة بكاميرات الفيديو أو الجوال، لعلها تلفت انتباهاً مبكراً نحن المشتغلين بالوثائق والأرشيف والتأريخ لأن نتتبع هذه المواد ونجمعها قبل أن تضيع، وتدفع المتحكمين في مؤسساتنا الأرشيفية إلى إعادة التفكير فيما يفرضونه من قيود على الإتاحة سرعان ما سوف تسقط كما سقطت أنظمة لم يكن القائمون عليها يتصورون أنهم إلى زوال.