طرابيشي في محطته السابعة


*خيري منصور

لا أعرف كم من أبناء جيلي يشاطرونني العرفان لجورج طرابيشي، بما ترجم ونقد واجترح من آفاق، وإذا كانت هناك انعكاسات لمحطاته الستّ تحدث عنها في مقالة شبه وداعية قبل رحيله، فهي محطات مشابهة لدى من تابعوا طائرته منذ الإقلاع حتى الهبوط الاضطراري، فقد كان المرشد والمترجم معا لأهم ما في الفلسفة الوجودية، حين كانت الموجة الطاغية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كما كان صاحب الفضل والرّيادة في ترجمة واحد من أعقد المشروعات الثقافية هو سلسلة علم الجمال لهيغل.
وهناك محطتان نعترف فيهما بفضله، نحن الذين استضأنا به في معظم ما كتب، هما إحداث قطيعة مع متواليات تقليدية كانت بمثابة المسلمات، ففي كتابه «شرق وغرب، ذكورة وانوثة»، علّق جرسا لم يُعلّق من قبل، هو افتضاح الهاجس الجنسوي لدى الروائي العربي الذي زار الغرب أو عاش فيه زمنا، بحيث كتبت عدة روايات منها «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس و»عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، في ضوء فهم شرقي يعاني من قصور في الرؤية، وكأن الضحية هنا تلوذ بأوهام الجنس لتصفية الحسابات مع مستعمرها.
كانت تلك الأطروحة حاسمة وفارقة في سياق كان يمكن له أن يتواصل، إذ سرعان ما أدرك المثقف العربي أن الغرب ليس أنثى وبالمقابل الشرق ليس ذكرا، وهنا ينبغي استذكار الراحل يوسف إدريس في «سيدة من فيينا» حيث فضح بدوره أوهام الشرقي الذي يتصور أنه بمجرد الوصول إلى الغرب سيصبح شهريارا.
والمحطة الأخرى هي ما كتبه مبكرا إلى حدّ ما عن ثنائية الدولة والأمة، وكانت تلك الموضوعة من المسكوت عنها في ثقافة سياسية تتأسس على النشيد والمونولوج والتفكير الرغائبي، وكان علينا أن ننتظر عقودا كي نرى الدولة العربية تخلع نفسها عن كيان الأمة وتحاول الاكتفاء بذاتها، مما أدى إلى دفع أثمان باهظة على صعيد الأمن القومي. 
والشق الآخر من هذه المحطة هو ما كتبه عن الصراع الصيني الروسي، رغم السقف الأيديولوجي الواحد، فالأيديولوجيا مهما بلغت من الشمول والهيمنة لا تحذف البعد القومي والنرجسيات العرقية للأمم، وربما لهذا السبب قدم كل من العراق وسوريا نموذجا لذروة الاختلاف، رغم مزاعم الائتلاف الأيديولوجي، بحيث كانت تكفي مباراة رياضية للكشف عن المستور، إقليميا وسياسيا.
أما محطته الفرويدية فهي أيضا إلى حد ما محطة جيلنا الذي بدأ يلتفت إلى أهمية البعد السايكولوجي في الثقافة وبالتحديد في الأدب، خصوصا بعد أن عرفنا أن معظم ما أدرجه فرويد لما يسمى العقد النفسية ،جاء نتيجة استقراء لروايات ونصوص خالدة، إضافة إلى أساطير اليونان وما استخلصه فرويد منها كعقدة أوديب وعقدة ألكترا وجريمة قتل الأب.
وإذا كان الراحل الجابري باعتراف طرابيشي نفسه قد أخذ من عمره ربع قرن، فإن جيلنا أيضا قدم أكثر أو أقل من هذا، من أجل نشاط معرفي غير مسبوق هو نقد النقد، فالنقد كان بالنسبة للكثيرين نهاية المطاف، واتضح أنه قابل ليس فقط للنقد، بل للنقض أيضا. لكن لماذا كتب طرابيشي عن محطاته الستّ على هذا النحو الوداعي، هل استشعر دنوّ الأجل بمعناه العضوي؟ أم الصمت باعتباره موتا آخر؟
يقول إن ما أصابه في المحطة السادسة ولحظة انفجار المكبوت العربي من تفاؤل عاد به إلى أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، سرعان ما تغير، شأن العديد من المفكرين العرب الذين أدركوا بعد فوات الأوان أنهم يستحمون في السّراب، وأن الحمل كاذب وكذلك الفجر، كانت صدمة طرابيشي كما هو حال معظمنا بانتظار ترشيدها وإعادة وضع النقاط المحذوفة والضالّة إلى الحروف، لكن الموت لم يمهله لهذا فإن ما أعنيه بالمحطة السابعة، التي لم يتحدث عنها جورج طرابيشي، هو الذهاب بالنقد السياسي والاجتماعي إلى أقصاه، كي يصبح الفرز متاحا بين الثورات وما يشبهها من حيث الانفجارات الاجتماعية وما يصاحبها من أعراض جانبية تهددها بالانزلاق نحو الفوضى المدمرة، بحيث تأكل الثورات أبناءها وأحفادها أيضا. 
إن طرابيشي شأن معظم المفكرين المعاصرين من ذوي التجارب الحزبية المبكرة لم يستطع أن يبقى داجنا في الشرنقة، وهو يذكّرنا بما كتبه سارتر عن المثقف وافعى البوا، فالحزب يختنق بالمثقف ويضطر إلى لفظه ناعتا إياه بأنه عسير الهضم.
لكن طرابيشي بقي مهجوسا بأشواق قومية تتجاوز الانتماءات الضيّقة لأحزاب وطوائف وجماعات وله رؤى سياسية تنفرد عن رؤى معظم أبناء جيله بأنها من إفراز تكوين معرفي بالغ الثراء، فالسايكولوجي أو السوسيولوجي وكذلك الأنثروبولوجي من صميم قراءاته للواقع لهذا لم يقع أسير بُعد واحد.
إن المحطة السابعة في حياة هذا المفكر والمثقف التنويري الرائد، هي إعادة قراءة منجزاته المعرفية في مختلف الحقول، ومن واجب جيلنا اعترافا وعرفانا ألا يحرم الأجيال القادمة من هذه المُنجزات.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *