نورا بن علي
خاص ( ثقافات )
قصر الجم الشاهد المتبقي على مدينة عريقة تتفاعل فيه هندسة معمارية لتيارات شرقية وغربية، شدّ اهتمام المؤلفين من الرحالة الغربيين الذين زاروه في القرون الماضية، فقد فتنهم بتناسق أجزائه ومركّباته وجمال لونه المحاكي للون الذهب فأفاضوا في مدحه وإعلاء شأنه ورأوا فيه أثراً مميّزاً لأفريقيا الرومانية، بل نافس في البذخ أجمل مدن الإمبراطورية الرومانية وتباهى بملعب لا يقل أهمية عن كوليزي روما، بل هو الوحيد المعروف بشكله البيضاوي وبعدد مقاصيره، هنا، هنا في هذا القصر كان المقاتلون يهدرون أرواحهم إلى القيصر ويصارعون الوحوش….
هو مسرح أثري يقع بمدينة الجم الساحلية جنوب شرق العاصمة تونس، كان اسمه الروماني كُولُوزيُوم تيْدْرُوسْ يرجع إنشاؤه إلى العهد الروماني سنة 238 م، موقعه في منتصف السهوب العارية إلى حدّ ما ومظهره الضخم سبب في جماله وتميُزه. يسمى بقصر الكاهنة نسبة إلى الملكة البربرية الكاهنة التي احتمت به مع جيشها، لمدة أربع سنوات إثر هزيمتها أمام حسان بن النعمان الغساني، لذلك سمي القصر في بعض الكتابات العربية القديمة بقصر الكاهنة. والجم تعني بالأمازيغية الملتقى والجمع نسبة إلى طلب الإمداد من حسان بن النعمان بالجيش، لذلك سمي بقصر الجم.
يعدّ من أجمل وأبدع ما تتميّز به المدينة في ميدان الفنّ المعماري، والعلامة المميّزة لتونس الرومانية وهو القصر الوحيد الذي استعمل فيه حجارة “الكذال الرملي” غير قابل للنحت الذي يفسر مظهره الكثيف وقلة الزخارف والعناصر البارزة في واجهته.
يزخر هذا الصرح الروماني بالعديد من القطع الأثرية النادرة في العالم نقل بعضها لمتحف الجم والبعض في متاحف أخرى، فضلاً عن نحو 30 موقعاً رومانياً تم اكتشافها عبر الحفريات أبرزها “منزل أفريقيا” الذي يحتوي على قطع نادرة من الفسيفساء التي تصور الحياة اليومية لسكان روما وطرق عيشهم. كما نجد به سرداباً قائماً في أسفل القصر قال علماء الآثار إنّه يربط بين الجم وقرطاج مروراً بمدينة سوسه أي أنّ طوله أكثر من 170 كيلومتراً، يستعمله السكان أيام الحروب لجوءاً إلى قرطاج وإلى البحر.
إن ما يسمى اليوم بالقصر إنّما هو مسرح مزدوج معدّ للألعاب الحيوانية والمصارعات المختلفة، ويمكن ترتيب مسرح الجم ضمن كبار المسارح بالعالم الروماني فهو يعد في المرتبة الرابعة، بعد كولوزيوم روما ومسرح كابوا، ومسرح بُوتِسْوُولِي، ويفوق من حيث العظمة معلميْ آرل ونيم بفرنسا. ويحمل في أرجائه ثلاثين ألف متفرج. ويعتبر آخر المعالم العظيمة التي أقيمت في العالم الروماني صمّمه جورديال الثاني بشكل تجاوز فيه كل الأخطاء الهندسية الموجودة بروما، نظراً لتشييده في فترة متأخرة استفاد فيها معمارياً من كل التطوّرات والخبرات إذ تمّ فيه تجنب كل النقائص التي اكتشفت في المباني الأخرى. فجسّم المبنى حنكة المهندسين الرومانيين في امتداده وشموخه وشكله المعقد، كما كانت جدرانه شاهداً على النبلاء الرومانيين الذين أدمنوا الصّراعات الدامية كانوا أبطالها أو ضحاياها أسرى حرب. فقد عثر الباحثون في الدهاليز على غرف خاصة بالمصارعين والحيوانات، كما خصص مكان لجثث المتصارعين قبل دفنها. فالتاريخ لم يكن دائماً تاريخ سلم كما أن المجتمعات لم تكن مهادنة، بل كانت ميّالة إلى مشاهد سفك الدماء. وملعب الجم كان إطاراً لهذه المظاهر الاحتفالية، وهو يعتبر من الملاعب المهمّة إذ يبلغ ارتفاعه 36م وأبعاد حلبته 65 متراً، والألعاب تدوم أياماً وأحياناً أسابيع، وتشمل عروض مصارعين ووحوش مفترسة، أو مبارزات بين المصارعين، أو إعدام أسرى الحرب أو كبار المجرمين، وذلك بإبقائهم في العرين لتفتك بهم الوحوش.
قصر الجم الذي كان قبل 17 قرناً حلبة لمصارعة الوحوش ومسرحاً دامياً تتمزق فيه أجساد العبيد وأسرى الحرب أصبح اليوم مكاناً لالتقاء الفنانين ومسرحاً شهيراً لأهم الحفلات الموسيقية.
صار قصر الجم، حالياً، ركحاً لأشهر الفنانين والموسيقيين العالميين، إذ تقام فيه سنوياً مهرجانات وحفلات لأهم الفرق العالمية وفرق موسيقى الجاز، وقد ازدادت شهرته أكثر منذ إنشاء أول مهرجان للموسيقى السمفونية، يقام سنوياً في هذا القصر حيث تضاء الشموع في كل صيف في مختلف أروقته لتعلن انطلاق دورة جديدة من مهرجان الموسيقى السمفونية بالجم، الذي استضاف ولا يزال عدة أسماء عالمية على غرار المغنية الأمريكية الملقبة بالديفا باربرا أندريكس والموسيقي الإيطالي الشهير ريكاردو موتي.