كَعْكُ الحريّات والحقوق


*أدونيس


– 1 –
يقول المفكّر الفرنسيّ ميشال أونفري في كتابه الأخير «بَرْقٌ خُلَّب»:
كان ديغول يساريّاً لم يقبلْه اليسار، لذلك سانَده اليمين. وكان ميتران يمينيّاً لم يقبلْه اليمين، لذلك سانَدَه اليسار.»
وقال مرّةً رئيس وزراء فرنسا الأسبق ليونيل جوسبان: «نعم لاقتصاد السّوق، لكن كلّا لمجتمع السّوق».
من الناحية الأولى ليت العرب يبدأون بوضع معيارٍ يميِّزون على أساسه بين اليسار واليمين، لا طبقيّاً فقط، بل فكريّاً على الأخصّ.
ومن النّاحية الثانية ليْتَهم يتوقّفون عن المزْج بين «اقتصاد السّوق»
و«مجتمع السّوق»، خصوصاً أنّنا بدأنا نقدِّم للعالم، موضوعيّاً، كلّ ما يسوِّغ له أن يُطلِق علينا اسم «مجتمع السّوق».
– 2 –
أن تقول الحقيقة أمرٌ كان دائماً منذ سقراط مخاطرة بين أشكالها الموت. الموت، اجتماعيّاً، على الأقلّ.
– 3 –
أن نمنعَ كاتباً أو مفكّراً من قول رأيه في عقيدةٍ أو مذهبٍ، ألا يعني ذلك عمليّاً أننا نمنعه من التفكير؟
– 4 –
هناك في أعماق كلٍّ منّا، منفى داخليّ لا نخرج منه إلّا بالتعبير الحرّ الكامل عمّا نؤمن به.
– 5 –
«ليس الإنسانُ حرّاً، ألّا يكونَ حرّاً»، يقول سارتر.
-6 –
يمكن أن تكون الهجرة، وبخاصّةٍ هجرة العرب إلى أوروبا، «رمزاً» نترجمه بالقول: «الآخرُ» نفسُه هو الجدار.
– 7 –
هل الجدارُ العازِلُ خبزٌ آخر طالِعٌ من فرنٍ اسمه الحداثة يُفتَرَض أنه
«صُنِع» لكي يَخبز كعكَ الحرّيّات والحقوق؟
– 8 –
طالَت المباراة في حفر القبور العربيّة.
إنّها الأكثرُ طولاً في التاريخ الحديث.
وتبدو «الأنا» في هذه المباراة كأنّها شهوةٌ عارمةٌ وكاملةٌ إلى أن تقلِّد النّموذج المثاليّ. إلى الهيمنة الشّاملة، وبخاصّةٍ في شكلها السّياسيّ السّلطويّ.
وتبدو في ممارسة هذه الشّهوة كأنّها ذروة لعبٍ يبدو هو في الوقت نفسه، كأنّه ذروةٌ فاجعة.
انتصارٌ لا يحتضن غيرَ الانهيار.
– 9 –
للزّمن معدةٌ من الرّمْل،
وليس في التّاريخ ماءٌ يكفي لكي يرويَ عطشَها.
-10-
ما أعجبَ تلك المرأة الغربيّة المُستَعرِبة:
لها قامةُ الألِف،
– 11 –
للسّلطة، هي أيضاً، نملُها السّياسيّ.
– 12-
لا تزال الحريّة تبحث عن طريقٍ تسلكه لكي تصلَ إلينا،
لكن يبدو أنّها لم تجِدْ حتّى الآن طريقاً
-13 –
لا يتذكّرُ التّاريخُ
إلّا الخطوات التي مهّدَتْ له الطّريق.
-14 –
كان التّاريخُ يتصدّرُ
مظاهرَةً نظّمَتْها، أمس، الحرّيّاتُ والحقوق احتجاجاً على ازدهار
السّجون.
– 15-
الأيديولوجيّ، لا يطرحُ دائماً إلّا الأسئلة التي يعرفُ مُسَبَّقاً أجوبتها.
– 16 –
يقف التّاريخ مُمَزَّقاً أمامَ عرَباتِه المُحَطَّمة وإصطَبلاتها،
يتنهّدُ، ويتساءَلُ: ألا يستحقّ هذا المشهدُ الفاجِع نظرةً
ولو عابرةً يلقيها أولئك الذين يعنون بالقراءة والكتابة؟
خصوصاً أنّ الصّواعق التي تسقط بين وقْتٍ وآخر على هذه
الاصطبلات تحتضن بيوضاً غريبةً ليس لها شكلُ البيض،
وأنّ هناك ضمائر كثيرة مستترة في الأفعال التي تكتب سيرتَها،
وأنّ القاعدة الأولى في كتابة هذه السّيرة هي الفصلُ الكامل بين الجراح التي تصنعها المدن وتلك التي تصنعها الأرياف وقراها وغاباتُها.
خصــوصاً أنّ رعداً أحمر يخترق بين لحظـــة ولحظةٍ غيوماً سوداء تغطّي الاصطبلات، حيث يهرب الماء ويُعلِن الليلُ حَظْرَ التّجَوُّل.
– 17 –
حَرْبٌ شاملةٌ داخِلَ الأبجديّة:
الحروفُ الصّائتةُ ضدّ الحروف الصّامتة،
ونِصْفُ هذه حليفٌ لنصفٍ آخرَ في أبجديّاتٍ أخرى.
السّماءُ في هذا كلِّه كريمةٌ تحنو على الجميع، وتُبارِكُ، وتستجيب.
الأمَلُ وحده محصورٌ في زاوية،
لا نَصيرَ له غيرُ المستقبل الذي لا نصيرَ له.
– 18 –
غزْوٌ إلِكْترونيٌّ شامِلٌ وغامِض، في عصْرٍ يلبس الحديدَ ويستحمُّ بالنّار. وهو نفسُه الذي أذِنَ لهذه الكواكب التي تضيئنا أن تأخذَ من الغيوم حُجُباً ورايات.
ويقول أهلُه وأصدقاؤه إنه لم يبقَ أمامه إلا أن يحقِّق، إلى جانب إنجازاته الكبيرة في كلّ ما يتعلّق بتقسيم الأرض، الإنجاز الأعظم: تقسيم الفضاء. وفي الأنباء الأخيرة المتسرِّبة أنّه وصل إلى المرحلة الأخيرة .
-19 –
إنه التّاريخ الآخر الذي تخطّه الحداثة الإلكترونية، بعد أن يُطبَخ في جحيم الاتّهامات والظّنون والهواجس والنّوايا وفي جنّة الضّمائر المُستترة.
إنّه التاريخ الآخر: دعوى متواصلة تقيمها النّارُ على الحطَب، في شكوى متواصلة يقدّمها الحطَب ضدّ الفؤوس والمَناشير،
والغريب أنّ الشّجرَ لا مكانَ له في هذا كلِّه.
– 20 –
لم يعدْ أحدٌ في عالمنا الحديث
يصدِّق وينتظرُ تحقيقَ ما يصدِّقه،
إلّا أولئك الذين يؤمنون بالمعجزات.
هل نهنّئهم،
أم نرثي لحالهم؟
-21 –
بيتٌ في يسار الشّارع أكلَ بيتاً في يمينه،
(وقيلَ، أمسِ، العكس).
كانت الشمسُ تراقب المائدة،
لم تقُلْ شيئاً. غابَت وهي تجرُّ وراءها ذيولَ الشروق.
– 22 –
حبْلٌ من العشب،
عشبٌ من الطّين.
طينٌ معجونٌ بشهوة الفَتْح.
-23 –
العالَمُ «الحديث»، بالمعنى الحَصريّ التّاريخيّ، آخِذٌ في الانهيار والاحتضار. «ما بعد الحداثة» شكلٌ من أشكال هذا الانهيار – الاحتضار.
وهو ينهار ويُحتضَر في فِخاخٍ يصنعها هو نفسُه.
وها هو يوصِل «إنسانَه الحديث» إلى مرحلةٍ يُقالُ فيها ما لا يُرى، ويُرى فيها ما لا يُقال.
– 24 –
هل الإيصال في ثقافتنا العربية نوعٌ من التوهُّم وشكلٌ آخر للتكرار؟
خصوصاً أنّها تقوم شعوريّاً ولاشعوريّاً، على قناعات مُسبَّقة راسخة. فثقافتنا العربيّة ليست ثقافة أسئلة واستقصاء وإعادات نظر. وإنّما هي ثقافةُ مُعتَقداتٍ يقينيّة، وثقافةُ أجوبة جاهزة.
وهذا يقتضي أن نعيد النّظر في ما نعنيه بالإيصال أو التّواصُل، وفي الجدوى التي ننتظرها منه.
– 25 –
اقترِبْ يا قمرَ الحبّ.
ضَعْ قوسَك على عتبة الليل، ونَمْ على طرَفِ القوس.
لكن، لا تنَمْ إلّا «بإحدى مقلتيك» اتّقاءً للموت، كما يقول صديقك
الشاعرُ العربيُّ القديم.
تُرى هل كان هو نفسُه، يعرف أن يتّقيَ الموت؟
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *