*محمد العباس
بدافع الفضول والاكتشاف والمتابعة، قرأت قبل فترة رواية ذات صيت وجماهيرية بين الشباب. وهي رواية تحقق مبيعات عالية جداً. ولا يمر يوم إلا وأرتطم بتعليق أو أكثر في مواقع التواصل الاجتماعي حولها. في ما يسميه هؤلاء الشباب وجهة نظر. وهي في الغالب عبارات تعاضدية أقرب إلى تشجيع مدرجات كرة القدم منها إلى ما يُصطلح عليه بالرأي.
لدرجة أن هناك من توجها بخمسة نجوم في موقع (غود ريد). وهو الأمر الذي دفعني أكثر للتماس معها كمنتج أدبي من ناحية، ولفحص آليات التلقي عند هذه الشريحة من القراء الآخذة في الاتساع والتمدُّد. وفرض سلطتها على سوق النشر وصناعة الكتاب، وبالتالي تشكيل حالة جديدة للوعي الروائي.
بدون أي مبالغة ولا انحياز ضدها، لم أجد في الرواية ما يدل على أنها رواية بالمعنى الذي يختزنه وعيي للفن الروائي. فهي مجرد قصة بسيطة تشبه قصص المكتبة الخضراء للأطفال. ولكنها مكتوبة بلغة اللحظة ووفق متطلباتها. كما بدت لي منفوخة بحشو كلامي وحوادث ملفقة لتصل إلى ما يقارب الثلاثمئة صفحة، حيث تفاجأت بأن مرجعيتها ليس الواقع، ولا التأثر بنصوص روائية كلاسيكية من حيث الموضوع ومعمارية البناء والأسلوب. ولا صلة لها بالوقائع اليومية الساطية على حقل الكتابة بكل أشكالها، بل تكمن مرجعيتها في ألعاب الفيديو وأشرطة «البلاي ستيشن». فهي مغترفة من تلك الأجواء والعوالم الإلكترونية، بل منغلقة داخل تلك المدارات.
الرواية بدت لي كالقصص المكتوبة للأطفال: أمير وأميرة وقصر ولصوص ومطاردة، حيث الإمبراطورية المبنية بمخيال ستانلي كوبريك، والحيوانات المجنحة المستجلبة من حظيرة سبيلبيرغ، والسرد القصصي المستلهم من فن الإنيمي الياباني، مع مسحة مستنسخة بسذاجة من فيلم «أفاتار» لتأكيد بُعد الخيال العلمي وهكذا. ولكن تلك التوليفة لا تحدث في الغابة المتعارف على ملامحها الطبيعية، كما في القصص القديمة، بل في فضاء أكثر حداثة. بمعنى أنها تحدث في الفضاء الافتراضي بكل ما يحتمله هذا المدار من سيناريوهات غرائبية تسمح بتلفيق المشاهد والحوادث داخل حبكة بسيطة في مركباتها البنائية، وتتسع لكل ألاعيب وحيل المخيال الإلكتروني.
هذا ما نتوقعه من شاب تربت ذائقته على تلك المضخات البصرية الساطية. وهذا ما يمكن أن يؤديه وعيه القصصي عندما يقرر إعادة إنتاج ما تلقاه من أفكار ولغة وأخيلة. فتلك هي مرجعياته التي يغترف منها رؤيته للوجود. وهذا هو أفق رؤيته للكتابة الأدبية. والأهم أنه حين يكتب ما يسميها رواية بهذه الطريقة، فإنه يشعر بشيء من الاعتزاز والرضى الداخلي. لأنه تمكن من تقليد الأنموذج إلى حد استنساخه، حتى عندما يحاول إدخال العواطف في روايته، كما لاحظت في هذه الرواية، فإنه لا يتعامل مع القيمة العاطفية إلا من ذلك المنظور الإلكتروني، لأن كائناته الروائية ليست من لحم ودم، بل من أسلاك وأضواء وألواح معدنية وصفائح بلاستيكية.
من هذا المنطلق يمكن فهم سر الاحتفاء الشبابي بروايات كهذه. فهي تشكل امتداداً عضوياً لطفولة مغادرة. كما تمثل ما يشبه المرجعية السوسيوثقافية لوعي العالم، خصوصاً عند أولئك الذين لم يطّلعوا على شيء من الآداب التي تكسر أفقهم المعتاد. وترفع سقف تعاطيهم للغة والخيال والأسلوب، أي أن النسق الفكري الذي يحركهم على تلك الدرجة من القوة والانغلاق، بحيث يصعب على هذا الفصيل من المستنسبين للكتابة الروائية تصور حالات روائية خارج هذا المدار، أو ربما لا يرون المسارات الكتابية الأخرى ذات معنى. وهو ملمح يمكن ملاحظته في عدد من الروايات التي تتلبس لبوس الخيال العلمي، فيما هي مجرد أصداء لما تم التشبُّع به في حقل «البلاي ستيشن».
إن الكتابة بهذه الطريقه ليس ناتجاً عن المشاهدة فقط، بل بموجب التماس المكثف مع ألعاب تفاعلية ذات بعد سردي، فالألعاب التي تأتي تحت عنوان الآر بي جي RPG تقمصية في جوهرها، إذ تسمح للاعب بتقمص شخصية واستلهام تصرفاتها ثم التحكم فيها، أي سرد أفعالها وتطويرها بما يتماشى مع خط سير اللعبة. تماماً كما يحدث في الرواية الأدبية عند بناء الشخصيات. كما أن تلك الألعاب مبنية على تقنيات سردية كتقنية تصويب البعد الأول والثالث، حيث لا يسمح البعد الأول إلا بظهور جزء من الشخصية بينما تتموضع الكاميرا كسارد في محل تصويب منظور الشخص الثالث.
وهناك ما يُعرف بالرواية المرئية Visual Novel المتأثرة بفن الإنيمي الياباني. وهي تقنية معتمدة أيضاً في ظاهرة الكتابات المستمدة عوالمها من ألعاب الفيديو، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات العاطفية، التي يُصطلح عليها في هذا الحقل بالمواعدات Dating Sim في لعبة تسمح بالتخاطب مع الشخصية واستنطاقها. تماماً كتقنية الحوار العاطفي في الروايات وغيرها من التقنيات التي تتطابق مع عناصر السرد الروائي، حيث لم تعد اللعبة الإلكترونية بمعزل عن الأدب، بل صارت جزءاً من عملية تفاعلية كبرى. حيث تم تحويل مجموعة من الألعاب إلى روايات وأفلام والعكس. ويمكن التمثيل هنا بفيلم «أمير من فارس» الذي تم بناؤه على لعبة مشهورة بالاسم نفسه، وقام ببطولة الفيلم النجم جيك جليهانل والممثل المخضرم بن كنغسلي.
هكذا تمادت سطوة ألعاب الفيديو لتتحول إلى مرجعية روائية وفنية، وهناك قائمة طويلة بالألعاب التي تحولت إلى أفلام والعكس أي الروايات التي تحولت إلى ألعاب. ليس في الولايات المتحدة فقط باعتبارها الرائد في هذا الحقل، بل في اليابان وروسيا وغيرها من البلدان. وبموجب هذه المعادلة التفاعلية يمكن الانتباه إلى حقيقة ذلك الأثر المقلوب للمخيال الإلكتروني. وهذه حقيقة عالمية حيث صارت تلك الألعاب تخضع لمراجعات فنية وعمليات تقويم لمستوى كفاءاتها على كل المستويات، كما تُقدم مقترحات من قبل خُبراء في الثقافة والتوجيه التربوي عما يستحق من الروايات لتحويلها إلى ألعاب، وما يمكن أن يحقق النجاح من الألعاب في ما لو تم إعدادها كأفلام وهكذا. اللعبة الإلكترونية لم تعد مجرد وسيلة للترفيه، بل هي حقل تكنوثقافي لطرح القيم وتداول الأفكار واختبار العواطف وتشكيل المواقف الإنسانية بتقنيات رافلة في المؤثرات البصرية والسمعية والإبهار التقني. وعلى الضفة الأخرى يقف بعض روائيينا الشباب لالتقاط عناوين ذلك التقليد الأدبي للاحتذاء به بدون إلمام بمعنى وأسرار وتقنيات وتداعيات ذلك التحول، حيث باتت معارض الكتب مزدحمة بروايات من هذا النوع الذي تمتزج فيه الإثارة والعاطفة والمغامرة بالطريقة ذاتها التي تؤدى بها فروض كتابة الرواية من منظور كُتّاب الدرجة الثانية، وهو أداء يطرح إشكالية كبيرة على مستوى المرجعية السوسيوثقافية لهذا النوع من الروايات النيئة.
___________
*القدس العربي