(ثقافات)
كيف تصبح كاتباً في خمسة أيام؟
يحيى القيسي *
يبدو أن التسلل ليس مقصوراً على لعبة كرة القدم ، الذي سرعان ما تفضحه صافرة الحكم وهو يراقب الساحة الواسعة للملعب بعين دقيقة ، بل يمكن أن يحدث في عالم الكتاب أيضاً ، وغالباً ما يكون من الصعب إعادة الأمور إلى نصابها ، أي طرد المتسللين ، وذلك بسبب غياب الحكام ، وهم في هذه الحالة من النقاد والأدباء المعروفين ، ناهيك عن طغيان النقد الإخواني والشللي والمصلحي ، وأحيانا كثيرة الإقليمي والطائفي والجندري وما إلى ذلك من التصنيفات التي ترفع وتذل من تشاء ، وهكذا يضيع الأدباء الحقيقيون بين طوابير من أنصاف الكتاب ، وقليلي الموهبة ، والمدّعين،
والغريب أنّ بعض هؤلاء الشباب يقع تحت سطوة الصورة النمطية التي رسختها المسلسلات والأفلام العربية عن الأديب وشكله ، وتورط بعض الكتاب أيضا في التقيد بها ، فالبعض يعتقد أن إطالة الشعر ، وعدم الاستحمام لأسبوعين متواصلين ، والتدخين المتواصل بعصبية ، والذهاب الى حانة مخصوصة يرتادها بعض الكتاب المعروفين ، وشرب القهوة السادة ، وعدم حلق اللحية لأيام متواصلة ، والتشدق بعناوين بعض الكتب ، أو استخدام بعض العبارات لمفكرين معينين ، خلطة سحرية تقود إلى الاعتراف به ، والتماهي مع بعض الكتاب الذين يفعلون ذلك ، ولا مانع طبعا من إظهار الجانب الإلحادي بين الحين والآخر عبر سبّ الذات الإلهية مثلا بمناسبة أو بدونها كدليل على التمرد والجرأة والاختلاف عن الآخرين ، أو القطيع كما يسميهم غالباً..،
من الضروري أيضا حمل كتاب ما أثناء مقابلة الأصدقاء في المقاهي أو زيارة المحرر الأدبي في جريدة ، وأذكر أن كاتبا شابا ، هجر الكتابة إلى الأبد ولم يعد أحد يتذكر اسمه الآن ، كان يحمل معه دائما أينما حل وسار رواية”فئران الأنابيب” ، وهي رواية ضخمة تقارب صفحاتها الخمسمائة ، وكنت ألتقية والروائي الصديق هاشم غرايبة في مختبره أحيانا أو في رابطة الكتاب بإربد بداية التسعينيات ، وكان يحدثنا عن مشاريعه الأدبية المستقبلية ، والتي لم يصدر منها شيء لاحقا ، وكنت أتساءل في داخلي كلّ مرة أراه فيها متى يكمل قراءة هذه الرواية.
على الكاتب الشاب ، كما يبدو ، أن يكون محتاطا على مجموعة من المفردات التي يستخدمها المثقفون والكتاب بين الحين والآخر ليبثها في الجلسات والحوارات ، وأحيانا في كتابته لتدل على عمق تجربته ، مثل: مأفون ، جميل ، بياض ، خطير ، نوارس ، حذاء ، حقير ، تافه ، دهشة ، تمرد ، منحط ، صراع ، تقنيات ، تكتيك ، نزق ، باهظ ، ..الخ ، ويمكن خلطها أحيانا مع جمل أخرى حسب الحاجة بمقادير مختلفة.
عليه ، أيضاً ، أن يكون معارضا “على طول” ، فإن قال أحد في الجلسة إن “فلان” مثلا شاعر كبير ، تكون الفرصة مواتية له بالاعتراض ، وتحويل وجهة الحوار ، بالتدخل مباشرة والقول: “اسمح لي يا عزيزي…” أو “أرجوك” .. وعندها يبدأ حوار الطرشان ، لأنه لا أحد يستمع للآخر ، وكل واحد يجهز الإجابة ليبدو أكثر اطلاعا وثقافة ، دون أن يعطي نفسه الفرصة حتى لفهم ما يريد الآخر قوله.
لا يتحرج من الإدلاء برأيه في أي موضوع يطرح ، حتى يبدو عليما بكلّ شيء ، فإن كان الموضوع المطروق في الفن التشكيلي وهو ينوي أن يصبح شاعرا ، فلا بأس من الخوض فيه ، وان كان في السينما يمكنه أيضا التدخل ، وغالبا ما يبدأ بالقول: “أعتقد أن …” أو “يخيل لي أن…” فهي يمكنها ان تنقذه من الظهور بمظهر الجاهل والبقاء ساكتا ، لا بل هذا ينطبق على الأمور العامة ، فإن أخبره احدهم أن طائرة سقطت في المحيط الهادئ على سبيل المثال ، فلا يستطيع البقاء ساكتا دون الإدلاء بدلوه ، وهنا يستخدم كلمة “يمكن” أو “ربما” و يكون المجال مفتوحا لا سيما اذا كان الحضور لا يعرفون شيئا في هذا الحقل ، فيقول مثلا: “ربما نسوا أن يقوموا بتزييت المراوح قبل الإقلاع…”.
لا ينسى التردد على الأندية الثقافية وتجمعات الكتاب والندوات أيضا ، ولا بأس من التدخل في النقاشات الدائرة أحيانا حول كتاب ما قرأ غلافه ، أو بعد محاضرة ، ومصافحة المشاركين وتقديم نفسه بقوة ، مع الإشادة بما قالوه في الندوة ، بكلمات مثل “رائع” وأنها أضافت إلى حياته قيمة جديدة..” ، حتى لو كانت المحاضرة عن الأدعياء أمثاله ، ويمكن هنا أن يضيف قائلا ، دون أن يرف له جفن: “معك حق في كل ما قلته ، ونحن نشدّ على يديك لكشف مثل هذه الظاهرة…”. أو “تبا لمثل هؤلاء..” وبعدها طبعا ينسل راشداً..،
فتبا للساكتين والراضين والمطبطبين والنافخين والمنفوخين والضالين والمضللين.