*يوسف أبولوز
الكتابة رديف القراءة، وهي فعل تراكمي معرفي، وتبدو أحياناً كل قراءة مشروع كتابة، أي أن القراءة تحرض على الكتابة، وتمهد لها، وتحدب عليها.
سؤال قديم.. يتكرر، أحياناً، من وقت إلى آخر.. متى تكتب؟ كيف، لماذا، أين، وفي أية ظروف؟ في أية طقوس وإلى آخر هذه الأسئلة التي من شأنها أن تضيء على العالم الخفي للكاتب، ولكن في الحقيقة.. هل هو فعلاً عالم خفي؟ لا، الكثير من الكتاب لا يضعون حول أنفسهم هذه الهالة (اللغزية الإسطورية)، البعض يكتب في المقهى، وفي وضح النهار أمام المارة، وكان «فرناندو بيسوا» الذي كتب تحت أكثر من اسم، وأكثر من (قناع) يكتب في كل وقت، ومن سيرته أنه كتب مرة وهو يستند إلى جدار.
يقول «البير قصيري» إنه يكتب عندما يشعر بالضجر، وكان الكاتب التركي «يشار كمال» ينقطع إلى الكتابة متفرغاً إليها كلياً على مدى ستة شهور من السنة بلا توقف، أما الشهور الستة التالية فكان لا يمسك القلم. فقط عيش الحياة والذهاب في هذا العيش إلى أقصى ما فيه من مباهج ومسرات.
عايشت جزءاً من حياة الشاعر عبدالوهاب البياتي في العاصمة الأردنية عندما اختارها مكان إقامته في تسعينات القرن الماضي. كان «أبو علي» يأتي إلى المقهى في نحو الثامنة مساءً بكامل أناقته، ويمضي وقته بين لفيف من الأصدقاء حتى بعد منتصف الليل أحياناً ثم يعود إلى بيته بلا رفقة أحد. لم أره ولا مرة واحدة يكتب في مقهى في النهار.
هذا يعني أن «طقوس» كتابته إما أنها تبدأ بعد منتصف الليل، أو أنه يكتب في الصباح أو في النهار في البيت، والليل فقط للسهر والحياة.
ممن عايشتهم أيضاً الشاعر محمد القيسي. حقيبة كتف لا تفارقه، أوراق وأقلام، وكتاب للقراءة. كان القيسي نهارياً تماماً. كان يكتب في النهار وفي مقهى، وكان له، أيضاً نصيب من الليل.
كان محمود درويش يكتب في كامل أناقته. ومن الشعراء أو من الكتاب من لا يكترث لثيابه أو لأناقته أو (هندامه) أثناء الكتابة، وقد يكتب في قلب الصخب، وكان ماركيز يضع أمامه وردة صفراء، ويشرع بالكتابة، والشاعر اللبناني أنسي الحاج ينام النهار، ويستيقظ الليل كله. الكتابة عنده في هذه الحال كتابة ليل. كتابة هادئة صافية مثل شعره، ومثل شخصيته.
بعض الكتاب لا يستطيع مواصلة الكتابة وثمة من ينظر إليه أو يراقبه. كأن الكتابة فعل توحد مع الذات أو في الذات، والكتابة كما القراءة فعل تطهر، والأغلب أنها فعل (عزلة)، وفي الكتابة نوع من الدفاع عن النفس، والكتابة، أيضاً نوع من الانسحاب.. الانسحاب من الادعاء، والثرثرة، والزيف، والمبالغات. الانسحاب من البهرجة، والكذب، الانسحاب الكلي من عالم السوءات والعورات، والنأي بالنفس إلى ما يشبه (دغل) أو مرفأ، أو جزيرة.
الكتابة عبور آمن إلى شاطئ أو صحراء. وقد يكون أقرب ما توصف به الكتابة أنها صحراء. (ولكن ليست التيه والضياع وفقدان الاتجاه). الكتابة صحراء بوصفها النأي، والابتعاد، والعزلة في مرايا الرمل.. بوصفها الإصغاء إلى الرمل، والإصغاء إلى السراب، والإصغاء إلى (اللامتناهي)، (اللاقريب)، (اللامدنس)، (البكري)، و(البري) و(العفيف)، وهذه الصفات، وغيرها بهذه الروحية الصافية، موجودة في الصحراء.
البعض من الكتاب، يثق بالإلهام، ويعترف به، ولكن ليس على الطريقة الكاريكاتورية (وادي عبقر) أو (شيطان الكتابة). لا يوجد للكتابة وفي الكتابة شيطان الكتابة (ملائكية)، (إلهامية)، (حدوس)، (توقع)، (حذر)، (عطش)، (شغف)، (عشق)، (نبوءات)، (اغتسال)، (تعطر)، (احتفال)، (ولادة)، (غناء)، (حلم)، (اشتياقات)، (حنين)، وهذه أيضاً موجودة في القراءة.
أجمل من القراءة.. البحث عن كتاب للقراءة.
أجمل من الكتابة.. البحث عن بيت للكتابة.
______
*الخليج الثقافي