* د. يسري عبد الغني عبد الله
خاص ( ثقافات )
” أقسم بحق الإله ألا أحنث بهذا القسم بكل ما في وسعي وقدرتي … وأقسم أن أتبع نظام العلاج الذي أؤمن ، تبعًا لقدرتي وملكتي ، أنه في صالح مرضاي ، وأمتنع عن كل ما هو ضار ومؤذ ، وألا أُقدم إذا ما طلب مني دواء قاتلاً ، أو أن أوحي بمثل هذه المشورة .
ومهما دخلت من دور ، فسيكون دخولي إياها لصالح العليل ، ولسوف أمتنع عن أي عمل مؤذِ متعمد .
ومهما رأيت أو سمعت عن حياة الإنسان ، سواء كان ذلك يتعلق بممارستي مهنتي ، أو لا يتعلق بها ، مما يجب كتمانه ، فلن أفشي منه شيئًا .
ولأوهب المتعة في الحياة وممارسة الفن ، وليحترمني جميع الناس ، ويكبرونني في جميع الأزمان ، ما دمت حافظًا لهذا القسم لم أحنث به … أما إذا ما انتهكت هذا القسم أو دنسته فليكن النقيض هو قدري ” .
هذه السطور هي جزء من قسم أبقراط ، ذلك القسم الذي ظل على مدى أكثر من ألفي عام يحمل السلوك المهني والاجتماعي للأطباء ، ومن الغريب ـ إلى حد كبير ـ أنه بالرغم من أن القسم كان يعبر عن آراء أبقراط تعبيرًا صادقًا ، إلا أن أبقراط لم يكتبه على وجه التحقيق في أغلب الظن ، فلا شك أن هناك من الشواهد على أن بعض أجزاء القسم قد انحدرت من ممارسة الطب لدى قدماء المصريين (مصر الفرعونية) .
كما أن هناك شواهد أيضًا على أن أجزاء أخرى من هذا القسم لم تصنف أو تكتب إلا بعد وفاة أبقراط ، ولاشك أن المقصودين بالقسم هم الطلاب من الدارسين للطب ، وخبراء الطب المتمرسين ، لكن مرور أكثر من ألفي عام ، جعل أجزاء من القسم عتيقة عفا عليها الزمان ، واليوم بالرغم من أن الأطباء مازالوا يلتزمون بروح القسم ، إلا أن ثمة حالات تدعو لتجاهل بعض تفاصيله ، ففي ساحات القضاء مثلاً كثيرًا ما يضطر الأطباء إلى البوح بالتفاصيل عن مرضاهم ، تلك التفاصيل التي يعتبرها القسم بلا شك من الأسرار وذكرها يعد نوعًا من انتهاك الخصوصية .
أين كانت حياته ؟ :
وبالرغم من أن أبقراط واحد من الشخصيات العظيمة في التاريخ البشري ، إلا أنه لا مناص من التسليم بأننا لا نكاد نعرف عنه شيئًا ، بيد أننا نعلم بثقة لا بأس بها ، أنه ولد في جزيرة (كوس) الصغيرة في بحر (إيجة) اليوناني ، عام 460 ق . م .
وبعض المؤرخين يحملوننا على الاعتقاد بأنه تلقى فن الطب في بلاد اليونان ، ثم لقنه لتلاميذه بعد ذلك ، وفي الواقع أن شجرة عارية تقع حتى اليوم وسط جزيرة (كوس) يقال إن أبقراط كان يلقي محاضراته تحتها ، حيث يتجمع حوله طلابه ، وهذه الشجرة على خريطة المزارات السياحية .
ويبدو أنه من المرجح أيضًا إن أبقراط تلقى العلم في بلاد اليونان نفسها ، وأنه زار أثينا ، ومات في ( لاريسا ) ، وبالرغم من أننا تعرف أنه آنذاك كان طاعنًا في السن عمره ما بين 85 و 110 عامًا ، إلا أننا نجهل حتى تاريخ موته على التحقيق .
وقد قرأت منذ فترة طويلة أن المتحف البريطاني يحتفظ بتمثال نصفي في حالة جيدة جدًا ، كان يعتقد ذات يوم أنه للطبيب الإغريقي الشهير / أبقراط ، ولكن بعد قيام مجموعة من الباحثين والدارسين بفحص التمثال ، تبين لهم أنه ليس لأبقراط ، وحتى لا نخرج من المسألة بخفي حنين ، قالوا : إنه لأحد تلاميذ أبقراط …!!
المنهج الأبقراطي :
كان الطب الإغريقي قبل أبقراط يعتمد إلى حد كبير على السحر والشعوذة ، وعلى المعتقدات الخرافية ، والطقوس الوثنية ، كانوا يؤمنون في الواقع بأن الأمراض التي تحل بالبشر ما هي إلا عقاب تبتلي به الآلهة القساة التواقة للانتقام ، أو البشر التعساء ، إلا أن الطبيب أبقراط رفض هذه الأفكار رفضًا قاطعًا ، ولقد ظل يبشر طوال حياته ويجادل بأن جميع الأمراض لها مسببات طبيعية يجب معرفتها حتى نحدد لها علاجها الناجع ، ولا ترجع ولا لقوى خارقة للطبيعة ، ولقد أثبت الطب الحديث أنه كان على صواب في هذا الرأي ، وفي الكثير غيره من الآراء .
ومن بين الفوائد التي زود بها أبقراط الخبرة الطبية ، إصراره على وجوب فحص الطبيب بصفة مستمرة لمرضاه بعناية تامة ، وهكذا يتعلم أعراض كل مرض وسيره أو تاريخه ، وبهذه الطريقة أو الوسيلة يستطيع الطبيب أن يتعلم كيف يتفاقم كل مرض ، ويكون في مقدوره التنبؤ بنتيجة الأحوال المماثلة بدقة .
ولم يستخدم الطبيب أبقراط سوى قلة قليلة من العقاقير الطبية ، لأن إيمانه كان ينحصر في قدرة الجسم على شفاء نفسه بنفسه ، وذلك ما أطلق عليه اسم (القدرة الطبيعية على الشفاء ) ، لكن النظام الغذائي الذي كان يأمر به أبقراط ـ بينما الطبيعة تقوم بعلاجها ـ كان صارمًا في نظرنا ، إذ كان لا يزيد عن الثريد أو العصيدة المصنوعة من الشعير ، مع عسل النحل والماء أو عسل النحل والخل كشراب ، وبالطبع قد يعترض معترض على هذا النظام ، ولكننا نذكر لك ما كان يفعله أو يوصي به الطبيب أبقراط .
وبالرغم من أن أبقراط (أشهر أطباء الزمن القديم) كان طبيبًا في المقام الأول ، إلا أنه لم يترفع عن الجراحة أو يرفضها ، فكان يعالج الكسور ، وخلع العظام ، والخراريج الواضحة ، وكان يجري ـ كما رأينا في بعض الصور القديمة ـ الجراحات المعقدة على الجمجمة في حالات إصابة الرأس ، ونشير هنا إلى أنه كثيرًا ما كان الإنسان البدائي يثقب الجمجمة ليخرج الأرواح الشريرة ، التي كان من المعتقد أنها تسبب الأمراض مثل الصرع والجنون ، وفي زمن متأخر استخدمت الجراحة على نطاق واسع في علاج الكسور التي تصيب الجمجمة .
ومازالت بعض نصائح أبقراط للجراحين تطبق حتى يومنا هذا ، مثل : يجب ألا تطول الأظافر أو تقصر على حواف الأصابع ، ويجب على المرء أن يمارس جميع أنواع العمل بكلتا اليدين ، ساعيًا لإجادته بإتقان ، وبسرعة ، وبدقة ، وحزم .
مجموعة أعمال أبقراط :
مما لا شك فيه أن بلاد اليونان القديمة لم تكن هي الجزء الوحيد من العالم الذي ازدهر فيه الطب في الأزمنة الغابرة ، ففي مدينة الإسكندرية بمصر ، نشأت مدرسة طبية جمعت في مكتبتها الضخمة الكثير من الأعمال الطبية العظيمة ، وقد أطلق على بعضها (مجموعة أبقراط) .
وقد بلغت جملة هذه المجموعة بين 70 و 100 عمل (مخطوط) ، وكان الاعتقاد بأنها الأعمال التي حفظت لذلك الطبيب القاطن في جزيرة (كوس) اليونانية ، ولكن الباحثين الأولين الذين قاموا بفحص هذه الكتب ودراستها ، أدركوا أنها نابعة من العديد من المصادر الطبية المختلفة الكثيرة ، ولا ريب أن الشك مازال قائمًا في إمكان انتماء كتاب واحد منها انتماء مؤكدًا للطبيب الإغريقي الشهير / أبقراط .
ومن بين الكتب في مجموعة أبقراط هذه ، واحد من أشهرها ذلك المسمى (المرض المقدس) ، وقد دون هذا الكتاب في الغالب في وقت مبكر ، يرجع إلى عام 400 ق . م ، وهو يعطي لنا وصفًا بالغ الوضوح للمرض الذي نسميه اليوم بالصرع ، وفي ذلك الزمان كان الاعتقاد العام أن هذا المرض هو أحد الأمراض التي ترجع إلى الأرواح الشريرة أو الجان التي تسكن أسفل الأرض أو الآلهة الغضبى ، ولهذا السبب كان تلقيبه بالمقدس ، ومن الواضح أن أبقراط كان على يقين من أنه يرجع إلى أسباب طبيعية منطقية تمامًا حتى يتم العلاج بشكل سليم .
وقد دبج العديد من الكتب في المجموعة ـ التي أشرنا إليها ـ بأسلوب مميز جدًا ، سمي (أسلوب الأقوال المأثورة) ، والقول المأثور جملة قصيرة يسهل تذكرها ، تحتوي على مشاهدة مهمة أو تعليمات مفيدة ، وليست بنا حاجة للقول بأن معظم الأقوال المأثورة بالمجموعة تتعلق بمشاكل التشخيص والعلاج .
__________
*باحث وخبير في التراث الثقافي