أي مكانة للشعر في مجتمع المعرفة؟



*عمر ح الدريسي


خاص ( ثقافات )
ففي مجتمع “تقني برغماتي” وهو الحاصل بالضرورة في مجتمعات العالم حاليا، وكانت بدايته في أمريكا، منذ أوائل القرن العشرين، حيث هجرها الفنان شارلي شابلن، عائدا إلى أوروبا، وهو ساخط، يقول “لو كانت هي الجنة لن أعود إليها”، ليس هو مل يطلق عليه “مجتمع المعرفة”..،؟ ! فـ “مجتمع المعرفة” في جوهره هو “مجتمع الإنسان”، الإنسان الذي تُوفر له كل سُبل المعرفة، عبر توفير العلم له والمعلومات، ليستفيد منها حيث شاء، فالإنسان، حسب برغسون، “صانع أدوات، صانعة بدورها لأدوات”. أو كما عنون الشاعر أدونيس إحدى مقالاته في هذا المعنى: “في حضن أبجدية ثانية” حيث يقول: ” تلك الأبجدية التي تخونني “. 
فالمجتمع البراغماتي، معياره الآراء لا الشكل، والتغيير لا التعبير، والشعر بقي دائما “تعبير عن رؤيا” بواسطة اللغة حيث الشكل لتلك الرؤيا يستوجب ترجمتها على الواقع، لكن كيف؟؟ الشاعر يعرف كيف، ولكن المجتمع يعجز عن فهم هاته الـ “كيف”، تُورد الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايْل Simone Weil، في هذا المنحى العبارة التالية: “يتمثل الانتباه الإبداعي في أن نُولِيَ الانتباه إلى ما لا يوجدُ.”.. !!
أنت أيتها القارئة العزيزة، وأنت أيها القارئ الأعز، وأنت تتصفح نص مطبوع على أحد المواقع الإلكترونية على شبكة الانترنيت، لتقرأ، أو تبحث، أو ترسل أو تستقبل أو تدون أو تخزن..الخ، فأنت فاعل بهذا “فعل” في “مجتمع المعرفة”، لا نقل بالضرورة أنك “منتج” بلغة الهندسة، ولا نقل أنك مبدع بلغة “الأدب”، ولا نقل أنك ناقل لـ “معرفة” بلغة الفكر، وإن شئنا بتأمل الفلسفة، ولكن لا نتسرع في حكم مثل هذا، بل لنكن موضوعيين، وبالتالي نخضع للمنطق الأٍرسطى، فكما أنك تمتلك جهاز إلكتروني، وهو الوسيلة المبرمجة بـ “علم ومعلومات”، لولوج شبكة المعلوميات، فأنت تمتلك مقومات المستعمل وبالتالي، انتـفت عنك، “الجاهلية” المعلوماتية، فأصبحت بلغة الآداب، “متلقيا”، وربما إن شئت أصبحت بذلك الاستعمالات “تافاعليا”، بلغة أهل “الخطاب والتواصل”، وربما تقدمت شيئا ما، وأصبحت دارسا ومحللا وناقدا لـ “خطاب على خطاب”، بلغة الآداب دائما، أما إن شئت بلغة أهل الهندسة فقد أصبحت “منتجا” لمعلومات جديدة، أنت من حيث تدري أو لا تدري “مُستفيد” في حدود قدراتك، وأصبحت في آن معا، من أحد العاملين المجتهدين على شبكة الانترنيت وشبكات المعلوميات.. !! 
وبالمحصلة ، كنت منتجا أو مستهلكا، مبدعا، أو تقنيا، فالشركات الكبرى، تستقوي بك، لحظة بلحظة، أنت استثمار لها، شئت أم أبيت، علمت أم لم تعلم، كلما ضغطت على زر، كتبت به حرفا، رقما أو رمزا، أبدعت و قومت برنامجا، أو أبدعت وقومت نصا، فأنت في قلب “مجتمع المعرفة” .. !! فكيف ستكون للشعر مكانة في قلب مجتمع المعرفة هذا… ؟ !!
لقد استقى الإنسان منذ القديم، أصواته التعبيرية من أصوات الطبيعة، ولاغرو أن علماء اللسانيات المُحدثون قد أثبتوا ذالك بالدليل والبرهان لمن لازال يجادل في ذالك.. !! 
ويأتي الشعر على قمة تلك اللغة، بحيث الشاعر كان ولازال أكبر ناحت للغة، القادر على تصوير أي صورة تخيلها عبر اللغة، لأنه لا يتحكم في مفرداتها وأساليبها وإيقاعاتها وحسب وإنما لديه العمق المعرفي والخيال الواسع والحذق البديع والرؤية الثاقبة التي تعلو، وهذا مما لاشك فيه، على كل من حوله.. !! في كتابه “فن الشعر”، يعرف أرسطو الشعر بكونه محاكاة. ويربط بين الشعر والصورة والخيال؛ فالقول الشعري عند أرسطو إبداع للصور من المخيلة، يستوي في نظام لغوي إيقاعي. 
لذالك، كان للشعراء عالمهم الواسع والكبير، وكان للفلاسفة السؤال عن هذا العالم، وكان لهم السؤال عن ما بعد هذا العالم، كان للشعراء الثقة في النفس وفي الوجود وحب الحياة ولو بحزن، ضدا على الموت، وحب العيش بجمال، دون خوف ولا هول، ضدا عن التهديد والقبح والصلف، وكان للفلاسفة الوقوف عند ماهية النفس، ما هية الذات، ماهية الجسد، ماهية الحياة وما هية المجتمع..؟!
فالفلسفة “علم الإجتماع”، تدقق في الشيء، وتتمحصه أولا، وتسائله ثانيا، لتتأمله جيدا قصد التشخيص والتحليل “علم النفس” والنقاش واستخلاص الخلاصات التي ترمي بذاتها إلى تساؤلات أخرى وهكذا دواليك.. !! 
أما الشعر، فينظر ويجمع ويستجمع ويحفط ذالك في مخزونه العرفاني، لايترك شيئا مشتتا ولا شيئا أقوى على شئ، بل إنما يجعل الإنسان –كل الإنسان- محور الشيء، ومحور كل شيء، لايحيد عن الإنسان أبدا، لكن بشكل يستقرأ عبره هواجسه وعالمه الداخلي ومعاناته ورغباته، واحتياجاته الخارجية، يُسائل ذالك جزءا جزءا، في مختبره الوجداني، ويعرضه على التاريخ الإنساني، وعلى مختلف الأحداث الواقعة عبر الزمن، وعلى تجاربه الحياتية، ويجعله هما في مخيلته، ربما اختلى بنفسه ولو بين أهله، وهجرته اللذات مُرغما بذالك، ولا ينام لثقل الهموم عليه، وهو باق على ذالك الحال، بكتمان وشجاعة وصبر لامثيل له، إلى أن تصدح قريحته بنظم يُفاجئ به كل من سمعه أو وصله عبر الأخبار أو القراءة، نظم يكون أشد ما يكون، انه مُهول ومزلزل لمن له وعي، ومُثير للفضول بالإعجاب، وللدهشة بالتأمل تارة والتساؤل تارة أخرى، وبالإعجاز حد التجاهل مرات عديدة ، بل يكون وفي غالب الأحيان غير مفهوم، وكل واحد يؤول ذالك النظم حسب فهمه وقدراته وربما حسب احتياجاته وفقط.. !! 
لعل الفيلسوف وإن شئت تقول المفكر في عصرنا، أصبح تقنيا في عمله، أكثر مما هو إبداعيا، أي تغليب الملكة المنطقية على ما سواها من ملكات، وهذا يبدو عليه شيء من الصواب إن تحدثنا عن كثرة وتعدد الجوانب الإجرائية، أما ما عداها، فلا بد وأن يحتاج جوانب إبداعية وخلّاقة، أي إلى ملكات فريدة، تكاد تكون المُفتقرة عند البعض، إلا أنها موجودة حتما لدى الشعراء.. !!
ولتبيان أكثر هذه الواقعة، لابد وأن نتأمل المجتمع، وكيف يُبجل كل الأعمال والمهن التي هي إجراءات احترافية تخول صاحبها لقب، من الألقاب ينال عليه مقابل مادي معتبر ومعلوم نظير أجرأته :” لا يهم الاختصاص”، بدءا من، بروفيسور، دكتور، طبيب، موسيقي، مهندس، كاتب، محامي، ، قاضي، محاسب، راقص، تاجر، وسيط.، وكيل، موسيقي ، رياضي، حرفي، صانع، رسام…الخ، إلا لقب شاعر، فلا يعترف به المجتمع، “أنْ أكونَ شاعراً، لَيْسَ مطمحيَ الخاصَّ، إنَّها طريقتي في أنْ أبْقَى وحيداً، كما أوردها الشاعر فرناندو بيسوا، بل ربما اعْتُبِر ذاك اللقب شهادة نزق وخُبل واعتراف ذاتي بـ “التهميش” واختيار بل لجوء وهروب عن مشاكل المجتمع.. !! 
والحقيقة عكس ذالك تماما، بحيث أن الشاعر هو الوحيد الذي يمكن أن يحمل أي لقب آخر وهو ذاته مالكا للقب شاعر، وعليه فإن الشاعر هو الذي لديه القدرة العجيبة، على أن يكون شاعرا، وهو يعيش اليومي بين الناس، ينظر من فوق إلى كل المجتمع، بالرغم من انه فوق الأرض يتمشى معهم بل وينكئون عليه بأجسادهم، وهو الذي يعيش بينهم كل الأحداث، ويتألم لما يتألمون به، ويساهم معهم وكأنه أبسطهم، بل يكون أكثر جدية وصفاءا وتحملا وصبرا، وأكثر تعففا وطيبة وإخلاصا، وهو القادر على نكران الذات دوما وأبدا، المتصالح مع ذاته مهما عانى ومع الآخرين مهما آذوه، والمدافع عنهم وعن آمالهم والمعبر عن طموحاتهم وأحلامهم، مهما تخلوا عنه، وكلما دعت الضرورة إلى ذالك، لأنه يعتبر نفسه أكثر سموا عليهم جميعا، بل العرب قديما، أيام كانوا عرب فعلا، كانوا يحتفلون بزهو وفخر، إن حدث، وإن اندلق شاعر من قبيلتهم، وسُمُوه هذا، ليس إستقواءا أبدا، بل يجعله نعمة على من حوله، وجهد جهيد ومسؤولية عليه اتجاههم، وما الأخطاء إلا لقصور ونُقصان، حتى أنه بصفاته هذه، يشك كل من حوله، في مدى سلامته، ومدى حقيقة عضويته في المجتمع.. ولا غرو، وأن الفيلسوف باشلار يقول ” الشعراء يحلقون عاليا كالطيور بأجنحة الحكمة..”.. !! 
فرانسواز دولتو، عالمة نفس فرنسية، عالجت أطفالا ومراهقين بالكلمة، أعطتهم الكلمة، واستمعت لكلمتهم، واختارت كلمات لتخاطبهم، تقول قبل يوم: “علينا أن نختار الكلام الذي نوجهه لذواتنا وأنفسنا و أبنائنا وأحبتنا، هم أجدر بأجمل ما فينا.. هناك من يبذل جهدا ليدمر الإنسان … وأنا أتعب و كثيرات و كثيرون معي، لنستطيع بناء الإنسان. مشروع متعب ولامادي ويعرف كل الخروقات والتجاوزات والجميع متساهل. الإنسان هو الجوهر وهو الأساس. والكلمة هي المفتاح”. واللغة “سلطة” كما يقول أرسطو و أهل البلاغة العربية. بل أفلاطون في رده على استئثار الفلاسفة بالحكم في أثينا، واستبعاد الشعراء، أكد أن، “الذي لا يتخذ الحب نقطة بداية له، لن يعرف أيضاً ما هي الحقيقة”… !!
في المجتمعات المتخلفة عموما، وفي الثقافة العربية، وهي وريثة أكبر تراث عالمي في الآداب والعلوم لإنسانية، ومع الأسف وبكل حسرة وألم، نقول لماذا المجتمع العربي من أكبر المجتمعات تخلفا.. !!! ، لذالك نجد فجوات علمية كبيرة، مما يتأتى بالمحصلة بروز “الفجوة المعرفية”، بحيث أصبح جليا عدم إدراك “علاقة الحقل الفني بالحقل العلمي”، مما نتج عنه “تخلف الملكات الإبداعية الفنية والأدبية” عن استيعاب ما يحدث من متغيرات ثورية وسريعة على صعيد المعرفة العلمية، وبالتالي الاستفادة منها كطاقة تحليلية وتعبيرية للحياة وذالك استنادا إلى اتفاق الفلاسفة منذ عصر النهضة على أن “الشعر كخلق بالحب، انه من مصادر الفلسفة مثل العلم والفن والرياضيات والسياسة وجاء ذلك في بيان العقل الكوجيتو الديكارتي أنا أفكر، إذن أنا موجود، أنا أشعر، إني أرى”
فالمُبدع غايته التغيير “الشعراء الفلاسفة: نيتشه، كيرجورد، برغسون”، والعلمي التقني غايته التجسيد و”مجتمع المعرفة” يبتغي الاثنين في واحد، أو على الأقل وجود الاثنين معا، جنبا إلى جنبا، وهذان الاثنان ربما تحققا سلفا في الشاعر وذالك ما جعل الحكيم باشلار “..يدعو الفلاسفة إلى قراءة الشعر”، لأن الفيلسوف هو الأقرب لفهم الشاعر وليس –وإن كان عن قصور- الخوف منه والدعوة إلى النأي عنه وعن شعره، عكس الشاعر الذي يعتبر نفسه فيلسوفا وشاعرا في آن، فما بالك بالمجتمع حيث قصور النظرة بانكبابها على التجسيد فقط وليس على الإبداع من حيث هو فكرة وخيال ورؤيا في المقام الأول، أو لنقل حُلم، كان ولازال، لا يراه إلا الشاعر وحده، ولا يؤمن به المجتمع، لأنه فوق طاقة فهمه، وليس لديه الوقت لذالك، مادام لم يجد له جسدا يراه على الأقل، قبل أن يبدأ بالتفكير في استعماله.. 
الشاعر في استباقه وفي رُؤاه، يحكم على نفسه بالعزلة وهو وسط الجمع و هذا الجمع يعتقد انه قد همشه.. وهل الورد سأل يوما عن طيبه وسط الأشواك وهل الشجر طلب يوما بثمره وسط الغابة، ومن قال أن الشمس يوما ستخطف نورها على العالم.. !!
الحياة مبنية على التجاذب، بل وفي أحيان كثيرة على الصراع، وماذا عن “مجتمع صراع المادة”، وما الشعر بالنسبة للبراغماتيين إلا “كلام” وهم أكثر حاجة إلى التقنية، حيث يشترط الشاعر الأمريكي ويتمان “الجمهور العظيم، لكي يكون الشاعر عظيما”، بل على النقيض من وتمان، كان الشعر ومنذ الأزل، من الأمد وإلى الأبد، فالشعر ما يزال، منذ فجر الأبدية كما الأدب عموما، يجدد نفسه مع كل ثورة تقنية. لنأخذ ما مثلته الكتابة في الثقافة العربية والغربية على حد سواء، بوصفها “حدا قاطعا” بين العين والأذن، عندما فصلت بين الصوت والسمع، وانتقلت من الشفوية، إلى الصورة، حيث الكتابة. بين المسموع والمرئي. معتبرا أنها بداية الغربة التي نفت الصوت عن الحرف. وخصوصا مع ظهور الطباعة في القرنين الثامن والتاسع عشر، إلا أنه ومع الإنفجار المعلوماتي الذي يعيشه العالم المعاصر، وانبثاق عصر التدوين والنشر وإتاحته للجميع، لم يعد لغربة الصوت من وجود ولبعد الكلمة من مبرر ولحضور الصورة من واقع.. !! 
أم هو “زمن اللا شعر “، في ظل حياة الاستهلاك، وتأليه كل مظاهر الحياة، ما يجعل وجوده غير عادي، حسب الدكتور رشيد بنحدو، “هذا الذي يتدبر فيه اليوم شعراء العالم بصعوبة، لا شؤون إبداعهم للقصيد فحسب، بل أيضا شؤون حياتهم اليومية..؟؟”.. !! 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *