تقويم أمي بداية التأريخ!


*فراس الهكار


خاص ( ثقافات )
تحصي أمي الأيام جيداً، لم تعد تنتظر آخر الشهر من أجل فتات الراتب التقاعدي الذي تعيش منه، ولا تريد مني إلا أن أكون بخير.
كنت تلميذاً حين كانت تقول لي: هديتي هي نجاحكم، هديتي أن أراكم شباباً وأزوجكم وأحمل أطفالكم.
كبرت وما زالت تحلم بأن امنحها نجاحي هدية، هدية تليق بحبيبة لم أشعر بالبرد إلا حين غادرت حضنها.
أنت سأزوجك امرأة واحدة، أما أخوك سأزوجه امرأتين، أنت لا خلق لك على النساء لديك أمور أهم لك ولمن ستختارها شريكة حياتك، أما أخوك فيحتاج امرأتين ليضبطان طيشه.
أصبح التقويم عند أمي يوم سفري، أو هجرتي أو هربي، وربما في عرفها هو يوم نجاتي وولادتي من جديد، تقويم أمي عمره ثلاث سنوات، لكنه بداية التأريخ عندي.
لم تشترِ ثوباً جديداً منذ ثلاث سنوات، وما نفع الثياب إن كان جمّار القلب منفياً، ولم تضع الحناء بعد وفاة أبي إلا حين نذرت نذرها أنها ستشتري الحناء لكل جاراتنا إن نجحت في الثانوية، وحين نجحت أوفت نذورها أما اليوم فقد عاد شعرها أبيض من فرط الاشتياق. 
أكثر ما يُفزع أمي الغياب، لم تعتد غيابنا عنها تحفظ مواعيد خروجنا وعودتنا أكلنا ونومنا، ماذا نحب وماذا نكره؟
يا ابني صار وقت تنام، برضاي عليك اترك الفاسدين أحسن ما يؤذونك، تفكر حالك تقدر تصلح الكون.
تعشقني أمي وما زالت تحتفظ بمهدي وحبات الثوم التي كانت تزينه لتمنع عني الحسد واليرقان، والحصن الحصين الذي كان معلقاً في كتفي علقته في شجرة الزيتون التي زرعتها، وأنا أعيد ترتيب أرض الحوش من أجل عرسي.
أمي الجميلة تلف ما بقي من صوري في المهد تفرد (البقجة) كل مساء تخرج ضحكاتي تداعبني بكلمات طالما عشقتها.
تسرد قصة كل صورة من الصور، تضحك حين ترى صورة البراد والتلفزيون تلك الصور التقطتها في طفولتي حين وقعت بين يدي كاميرا شمسية، ولم يكن غيري في البيت فصورت كل جماد وقع تحت ناظري، ولم يكتشف أحد جريمتي إلا حين حمضوا الفيلم فوجدوا البراد والتلفزيون ضمن أفراد العائلة.
زارتني في بيروت، كلمتني: سأحضر لك كل الأكلات التي تحبها، حسبت حسابك بالمونة، جبنة وزيتون ومكدوس، أنت وحداني وأنا ما أريد تتكلف سأحضّر الأكل وأجيبه معي.
يا أمي لا يسمحون بدخول الطعام عند الحدود، هم يسمحون بدخول الموت فقط، السلاح فقط الجثث فقط.
أمي، لا تقرأ لكن تسأل أختي أن تقرأ لها حالتي عبر (الوتس آب)، ما هي حالته اقرأيها لي، أنا سأعرف من حروفه إن كان حزيناً متعباً مشتاقاً، أنا أشعر به أكثر من أي أحد في هذا الكون.
أحدثها:
هل تحتاجين الدواء؟
أنت دوائي.
ما الذي يؤلمك؟
شوقي إليك.
سنلتقي قريباً
لا يهمني أن متُّ بعد اللقاء، المهم أن أبقى حية حتى أراك وأشبع منك.
غرفتك مسكرة والمفتاح عندي، شجرة الزيتون تسأل عنك.
يكفي يا أمي حدثيني عنك!
أنا صرت زينة بس سمعت صوتك.
انتبه على حالك وسلم على روحك، وأنا راضية عليك وادعيلك يا ابن قلبي. حتى أخوتك يغارون يقولون: أنتِ لا تدعين لنا بالتساوي.
ما يعرفون غلاتك يا كبيري وحدك تعرف.
أنا أريد أرجع للبيت حبيبي، صار وقت الصلاة، بدهم يسكرون.
أمي يا تفاصيلي المبعثرة، كيف لي أن أنجو بنفسي وأتركك تصارعين الحياة وحيدة على أمل اللقاء، أنا عاقٌ يا أمي حين تركتك أسيرة الغياب، يمزقك الشوق لنبض روحك البعيد.
أنا عاقٌ يا أمي، سامحيني.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *