رحلة حرة كأنها الريح (1)



*لطفية الدليمي



بين أصداء سيرة محفوظ ورحلة جيفارا على دراجة 
القسم الأول 

عندما كنت أقرأ كتاب نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” ، اكتشفت أن محفوظ في هذا الكتاب مختلف تماما فهو ليس الروائي السارد الذي يمزج بين الواقع والمخيلة الشخصية والشعبية بقدرة مبهرة حسب ، بل هو إضافة إلى كل ذلك مهندس أفكار مكثفة وصانع ماهر للخلاصات، اختار أن يسمي كتاب خلاصاته أصداءً لينفي عنها كونها سيرة ذاتية ، وتلك لعبة ذكية من كاتب متمرس يقول: “لن أكتب سيرتي فهناك مئات الحوارات والمقابلات التي تتحدث عني” . يحيلنا هذا القول الى خشية كتّابنا الكبار وابتعادهم عن ميدان السيرة الذاتية الممتع ونأيهم بأنفسهم عن تلك الصيغة الأدبية القائمة على الاعتراف والبوح مما يعرضهم لعواقب اجتماعية وأحكام مفرطة في قسوتها أو سطحيتها. يعمد محفوظ في هذا الكتاب إلى تحويل الرؤى الذاتية والفلسفة الشخصية إلى خوارزميات بليغة ابتعدت عن الإسهاب وتألقت بعدد محدود من الكلمات النابضة . يتقمص الكاتب هنا شخصية الشيخ “عبد ربه التائه” كضمير يقظ له فلسفته ورؤاه وخلاصات فكره التي تغلب على صياغاتها النزعة العرفانية الملغزة وتتحول معها السيرة إلى شذرات وحكايات قصارٍ مكتوبة بدقة محسوبة، فعلى سبيل المثال يقول الشيخ التائه :”جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق : تقدم فلا مفر ، هما الحب والموت” ، ويقول أيضا : “نسمةُ حب ٍ تهب ساعةً، تكفّر عن سيئات رياح العمر كله”. في الوقت ذاته كنتُ أقرأ تجربةً مختلفةً في كتابة اليوميات الحرة المفتوحة على المغامرة والبوح في كتاب “غيفارا –يوميات دراجة نارية، رحلة في أمريكا اللاتينية” وهو كتاب مناقض في نثره الفاتن وانفتاحه لطبيعة كتاب محفوظ ،تتجلى في هذه اليوميات نزعة المغامرة والارتجال والاكتشاف المباغت لمعنى الحياة ووجودنا فيها وتؤكد انفتاح الكاتب وجرأة مجازفاته.
يفتتح غيفارا رحلته مع صديقه البرتو غرينادو على الدراجة النارية عبر أمريكا اللاتينة باتجاه أمريكا الشمالية بهذه العبارة الواثقة 🙁 ليست هذه قصة بطولة خارقة ) يقرر غيفارا مع صديقه البرتو غرينادو سنة 1951 القيام بمغامرة الترحال على دراجة نارية انطلاقا من جنوب أمريكا اللاتينية وبالتحديد من مدينة قرطبة في الأرجنتين حتى أمريكا الشمالية ، كانا في حديقة منزل غرينادو يحتسيان “المتة” – وهي خليط أعشاب تغلى كالشاي – تحت عريشة عنب ظليلة صباح يوم عطلة ، قال غرينادو أنه “سئم عمله كطبيب للجذام في المستشفى النائي”، وقال غيفارا : “أما أنا فأشعر بعدم الراحة أكثر من أي وقت مضى ولأني أمتلك روح حالم ، تعبت جدا من كلية الطب والمستشفيات والامتحانات” ؛ فاقترح البرتو الرحلة المغامرة وهلل غيفارا للفكرة المجنونة ، وضعا مخططا أوليا للرحلة على الدراجة وبدآ العمل الروتيني للحصول على التأشيرات وهي العقبات التي وضعتها الدول العصرية في طريق الرحالة المغامرين كما ينعتها غيفارا، ولحفظ ماء الوجه خشية الفشل أعلنا أمام أسرة غرينادو أنهما سيذهبان إلى تشيلي. 
تعلّق ابنة غيفارا إليدا في مقدمتها لطبعة “رحلة على الدراجة سنة 2003” :”أبي ذلك الشاب اليافع الذي نضحك من لامعقوليته وجنونه ، يصبح أمام انظارنا شخصا بالغ الحساسية وهو يروي لنا في رحلته عن بدائية عالم امريكا اللاتينية المعقد وعن بؤس أهلها والاستغلال الذي يتعرضون له ، نثرُهُ مفعم بالحياة وتتيح لنا كلماته أن نسمع أصواتاً لم نسمعها من قبل ويضعنا في أجواء أدهشت وجوده الرومانسي بجمالها وفجاجتها “
 يتبع
___________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *