متاهات «امرأة من فلسطين»


*مازن معروف


في كتابها «امرأة من فلسطين، متاهة حروب وجبهات» (دار رياض الريس)، تقف ريم رفعت النمر، على الحبل الفاصل بين حياتها وحياة محمد زيدان (أبو العباس)، زوجها والقيادي الفلسطيني، الذي أصبح بنظر الغرب «الإرهابي الأول» بعد خطفه الباخرة الإيطالية أكيلي لاورو وما تسببت به من أزمة دولية، قبل أن يتوفى في السجن، وبظروف غامضة وفجائية، إبان الاحتلال الأميركي للعراق.
الكتاب يستعرض بتوازن لافت وأسلوب بعيد عن شعريات النضال، ساغا فلسطينية، بطلاها رجل وامرأة، ستدُمغ حياتهما الزوجية، لثلاثة عقود تقريباً، بالتنقلات المستمرة والملاحقات، والتهديد بالاغتيال، والمضايقات أحياناً والاستدعاءات. هذا قبل أن يسقط غزو العراق كصخرة ثقيلة بينهما، محدثاً تلك الهوّة الجغرافية المستحيل عبورها. ستبقى ريم في بيروت فيما يعلق أبو العباس في العراق، بعد أن تكون أقفلت في وجهه الحدود السورية والايرانية. يتتبعه الجيش الأميركي، الكيدي النزعة، ويعتقله في نهاية المطاف.
الرجل الذي سعى جاهداً وراء فلسطين، أصبح في مرحلة لاحقة صورة نموذجية لقيادي تمايز بظله الكبير الذي كان غطاءه الوحيد، ونأيِه عن الصفقات السياسية والسلوكيات البراغماتية. ثم وضعه جهاز الموساد نصب أعينه بعد سلسلة عمليات أعد لها في السبعينات. فتعرَّض لأكثر من محاولة اغتيال خلال اجتياح بيروت. وبعد خروج الفلسطينيين من العاصمة اللبنانية، استضافته دمشق وطلب منه الرئيس حافظ الأسد لاحقاً تدريب ابنه باسل. غير أن أبو العباس كان قد انشق في بداياته عن القيادة العامة برئاسة أحمد جبريل، كما اختلف في الرؤية أحياناً مع ياسر عرفات، قبل أن يجد نفسه مضطراً للجوء إلى النظام العراقي طلباً للحماية من التهديد الإسرائيلي وكون علاقته بعرفات لم ترق كثيراً لدمشق.
غير أن أبو العباس بقي الذراع الوحيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي حاولت النيل من إسرائيل عبر عمليات العنف الثوري في الثمانينات، فيما كان عرفات ينعطف باتجاه السياسة مغازلاً هذا النظام أو ذاك. أما ريم، فكانت قد أسست، ورفاقاً لها، المنظمة الشيوعية العربية التي ستنفذ عمليات سطو على عدة مصارف، ثم تقوم بتفجير وزارة الدفاع السورية منتصف السبعينات، قبل أن تتلقى رداً قاسياً من النظام، لتضطر وبشجاعة لافتة إلى الهرب عبر دمشق التي تطاردها استخباراتها، بجواز سفر مزور، ومنها إلى بغداد فأبيدجان صحبة زوجها الاول الذي ستفتر علاقتها به، وقد كان مطارداً مثلها وأعدم السوريون شقيقه الذي كانت ريم صديقته المقربة.
مع ذلك، فإن أياً من ريم النمر أو أبو العباس، لم يرد أن تبقى فلسطين مجرد خاطرة طويلة الأمد. هما الآتيان من خلفيتين اجتماعيتين متناقضتين تماماً، وخطين نضاليين مختلفين في الشكل. فهي البنت الوحيدة لمصرفي ثري، متنفذ وصارم في آن، درست في الجامعة الاميركية وعاشت في أرقى أحياء بيروت، قبل أن تتمرد في مرحلة لاحقة، وتتخذ مساراً حياتياً متواضعاً ومستقلاً. أما أبو العباس، فلم يكن أكثر من شاب فقرُه نموذجي، كما سذاجته في حب فلسطين. تربّى في مخيم النيرب في حلب، يتيم الأم، ثم انتقل في مرحلة لاحقة إلى مخيم اليرموك الدمشقي، وقد عمل في أشغال يدوية عديدة، قبل أن يمتهن التدريس لفترة. وكان يمكن له أن يقضي حياته كأي شاب فلسطيني لم ينخرط في العمل المسلح، لولا أنه آثر حمل البندقية حتى هدده بيريز علانية، ملوّحاً بالوصول إليه أينما كان مخبأه في بغداد، الأمر الذي أعده أبو العباس اعترافاً من العدو بتأثير عملياته العسكرية، رغم أنه لم يُكتب لأي منها تقريباً النجاح.
حكاية أبو العباس وريم النمر، تدلنا مرة أخرى على حقيقة أنه ليس للفلسطيني سيرة ذاتية كفرد. هو ليس مجرد شخص عادي، بل جزء من قضية. مهما كان شكل خياراته، أو أسلوبه في العمل السياسي أو العسكري ومهما اختلفت مقاربته للواقع. لقد ولد بسيرة ذاتية حُدِّدَتْ ملامحها مسبقاً، كنتاج وطن مسروق. وتحتم عليه لاحقاً أن يدفع ثمن الإشكاليات السياسية الكبرى في المنطقة، والصراعات بين الأنظمة العربية، وحروب النفط والجنون والتدخلات الدولية، وخيارات ياسر عرفات غير المفهومة في بعض الأحيان والمتقلبة، التي طبعت شخصه. الكتاب يطوي أكثر من مجرد قصة حب أو ملامح من أسرة فلسطينية. وتستعرض فيه النمر وبكثير من الدقة، والإيجاز أحياناً، الهزّات السياسية التي ضربت الشرق الأوسط، والتي أصبحت داخل بيتها الزوجي مجرد «ظرف اجتماعي» سيحدد أسلوب حياتها وحياة أسرتها الصغيرة مع أبو العباس، لتصبح عمود يومياتهما الفقري.
اللافت في سير رجال منظمة التحرير الأبرز، هو أنهم وجدوا يوماً جميعهم في بقعة صغيرة جداً في بيروت، لا تتعدى البضعة كيلومترات مربعة ضمن ما عرف بـ «جمهورية الفاكهاني»، واجهوا عدواناً إسرائيلياً واحداً، وتورَّطَ جلّهم في الاقتتال اللبناني، إلا أن كل واحد منهم كان يرى فلسطين بلون، لون واحد فقط. لقد اختلفوا في الأيديولوجيا، والرؤية السياسية، وتخاصموا أيضاً عبر علاقاتهم بأنظمة متناحرة، كالليبي والعراقي والسوري. لم يختلفوا على حدود فلسطين، وإنما على طريق الوصول إليها. وفي الأخير وجد بعضهم نفسه مرغماً للجوء إلى بعض الأنظمة العربية سيئة السمعة. كمهرب خلفي. خياراتهم تلك جعلت لهم سيراً ذاتية شديدة التباعد والاختلاف، وقد تكون حكاية أبو العباس، الأكثر مأسوية وعزلة، بعد أن كانت عملياته العسكرية تمنى بالفشل دوماً، ليتحوّل في آخر سنوات حياته إلى رجل لم يعد لديه ما يفعله سوى زراعة قطعة أرض عراقية صغيرة، باسم فلسطين.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *