حيدر علي سلامة*
خاص ( ثقافات )
طرابيشي: من فاجع الموت إلى فاجع العقلانية
استقبلت الأوساط الثقافية والأكاديمية والأدبية إلى جانب الصحفية، خبر رحيل الفيلسوف والمفكر جورج طرابيشي بشكل تخطى إلى حد بعيد تراجيديا فاجع الرحيل، ليتمركز حول تراجيديا فاجع العقلانية في خطابنا الثقافي. وعند الحديث عن ثيمة العقلانية ومدى تلازمها وارتباطها مع فاجع رحيل طرابيشي، فإننا في الواقع نتكلم عن مدى راهنية إعادة “فهم وتأويل” مفهوم فلسفة العقلانية في الثقافة العربية خاصة والادبيات الإسلامية عامة. إذ ينبغي علينا أن نتساءل حول كيفية التعاطي مع هذا المفهوم وشروط تشكله في التاريخ؟ من اجل ان لا يُختزل مفهوم العقلانية عندنا إلى مجرد انتماء إلى سلسلة لامتناهية من المبادئ الأولية المطلقة، التي قد تتحول مع مرور الوقت إلى شعارات وايديولوجيات فحسب.
كل هذه الأسئلة الإشكالية فرضتها لحظة فاجع رحيل المفكر طرابيشي. فمتابعة سريعة لما يُنشر ويُكتب في هذه اللحظة الراهنة، تكشف لنا كيف أن مفهوم العقلانية ما زال مفهوما يشوبه الكثير من الغموض والالتباس جراء التداول الأرثوذكسي له من قبل المختصين عندنا في الشأن الفلسفي والثقافي على حد سواء.
فرغم أن مفهوم العقلانية من أكثر المفاهيم الذي ارتبط ولصق بمشروع طرابيشي/الفلسفي/الثقافي/الإسلامي، فإن ما يُؤخذ على أغلب تلك الكتابات التي ظهرت بعد رحيله، عدم تحديدها لشكل هذه العقلانية وبيان وظائفها التاريخية والنقدية، بل ولم يتم الوقوف عند معانيها المتحولة في مشروع طرابيشي. وذلك لان أكثر تلك الكتابات اقتصرت في تناولها لمفهوم العقلانية في مشروع طرابيشي ضمن مراحله المتأخرة فحسب، خاصة في مؤلفاته التي عالجت قضايا وإشكالات التراث والخطاب الإسلامي. وكأن المفكر طرابيشي لم يؤسس لهذا المفهوم في مؤلفاته وترجماته المبكرة بطريقة تاريخية ونقدية لا سيما في مؤلفاته حول جدل الفلسفات المادية؛ والوجودية؛ والماركسية/التحلينفسية. والسؤال الذي نود طرحه هنا، لماذا التزمت أغلب الكتابات والمقالات التي نُشرت إبان لحظة رحيل طرابيشي، حالة من الصمت تجاه مرحلة “العقلانية المادية المبكرة” لطرابيشي، واستبدالها بـ “أيديولوجيا العقلانية التقليدية” وتحويلها إلى عقيدة ارثوذكسية في مؤلفات طرابيشي المتأخرة؟ ألم يعمل طرابيشي في ترجماته ومؤلفاته الفلسفية والسيكولوجية والمادية “المبكرة” على نقد وتفكيك مفاهيم قدسنة العقل وتصنيم الأيديولوجيا وعبادة الشخصيات في مثل هذه العقلانيات؟ ألم تكن عقلانية طرابيشي المبكرة ضد مفهوم الصلاحية Validity سواء في الأيديولوجيا والفلسفة الماركسية وخطاب المثقف والسلطة؟ ألم يؤسس طرابيشي لمبدأ البحث والتحري والتحقيق inquiry في فلسفته المادية/العقلانية بهدف نقد الانغلاق العقائدي في الفلسفة والسياسية والنقد وخطابات العلم والدين؟ فكيف أصبح طرابيشي أحد رواد العقلانية العربية التقليدية (ذو الاتجاه الواحد)؟ في حين انه من المعروف، أنه شكّل “قطيعة ابستمولوجية” في كتاباته وترجماته المبكرة مع مثل هذه العقلانية الدوغمائية، لينعرج بها نحو “نظرية نقدية عربية” قوض فيها كل من: استبدادية السياسي؛ وسلطوية المثقف؛ وسلفية/ وارثوذكسية المتمركسين العرب.
فلماذا سكت المثقف العربي عن ذكر عقلانية طرابيشي المادية المبكرة، أي عقلانية “دار الطليعة” وسلسلة قضايا السياسة والمجتمع؟ ويصر في الوقت نفسه على اظهار طرابيشي في عقلانية واحدية، هي عقلانية دار الساقي “المتأخرة”؟
حقا، نحن نقف هنا أمام فاجعين: فاجع الرحيل؛ وفاجع العود الابدي للأيديولوجيا في فلسفة طرابيشي، التي لطالما سعى جاهدا إلى ملاحقتها ورصد بؤر تواجدها وتكاثرها وانتشارها بدء من مجتمع المثقفين والانتلجينسيا العربية مرورا بالحياة اليومية والاجتماعية والسياسية للجماهير.
هرطقات طرابيشية في نقد الأيديولوجيا والمثقف
مثلت مرحلة الستينيات والسبعينيات لجورج طرابيشي البداية الحقيقية لتشكيل جينالوجيا “النظرية النقدية العربية” التي يمكن اعتبارها البديل الابستمولوجي والثقافي لسيطرة المشاريع الماركسية الأرثوذكسية والقوموية ذات التوجهات الأحادية والواحدية الضيقة في الفكر والتخطيط وتكوين سيكولوجيا الإنسان حسب مقاييس زعماء الأيديولوجيات المذكورة أعلاه.
لذلك، سعى طرابيشي في هذه المرحلة إلى إعادة النظر بالمشاريع العقلانية التي تكونت في ظل صعود هذه الأيديولوجيات، معيداً إلى اذهاننا الاعمال الفلسفية والسوسيولوجية والمنطقية لمدرسة فرانكفورت التي تشكلت بوادرها بعد صعود الشموليات التوتاليتارية المتمثلة بالنازية والهتلرية والماركسيات الارثوذكسية، حيث عملت هذه المدرسة على إعادة النظر بتاريخ مفهوم العقلانية في الفكر الغربي والبحث في بنيته ومنطقه الداخلي الذي أنتج وافرز مثل هذه الشموليات في الحياة والسياسة والمجتمع. فكانت العودة إلى الرواد الأوائل في نقد وتفكيك تاريخ العقلانية الغربية واشكالها السلطوية والمتمثلة بالفرويدية؛ والماركسية؛ والغرامشوية والوجودية هي اهمّ ما ميز ترجمات طرابيشي في مرحلة الستينيات/والسبعينيات. ففي عام 1974 ترجم طرابيشي اهم مؤلف لعالم التحليل النفسي/الماركسي ويلهلم رايش وهوكراس: (ما الوعي الطبقي؟ نحو علم نفس سياسي للجماهير) والصادر عن دار الطليعة. فإذا كانت حسب طرابيشي: ((نقطة الانطلاق المركزية في هذا الكراس التمييز بين الوعي الطبقي للقادة والوعي (او الشعور) الطبقي للجماهير، فإن نقطة الوصول هي إرساء بعض أسس ما اسماه رايش بعلم نفس الجماهير: فقد استطاع النازيون ان يفرضوا سيطرتهم على الحركة الجماهيرية بالرغم من ظلال نظريتهم وتهافت ايديولوجيتهم، ورجعية مبادئهم، وهذا لأنهم عرفوا كيف يتوجهون إلى بسيكولوجيا الجماهير وكيف يخاطبون فيها نفسيتها. أما الاشتراكيون والماركسيون فإنهم، لجهلهم بعلم النفس الجماهيري ولرفضهم إياه، وجدوا انفسهم مقضيا عليهم بالانعزال عن الجماهير وبخسارة نفوذهم عليها بالرغم من صواب نظريتهم وثورية ايديولوجيتهم. ومن ثم فإن هذا الكراس نداء إلى تأسيس علم نفس للجماهير، ولكن علم نفس تكون الجماهير ذاته لا موضوعه)) (ويلهلم رايش: ما الوعي الطبقي؟ نحو علم نفس سياسي للجماهير، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى،1974 ص-ص5-6).
لقد استمر طرابيشي في مواصلة دوره التنويري في ترجمة اهم الأعمال الفلسفية والسياسية التي تفضح وتفكك عمل الأيديولوجيات، سيما عندما تتحول إلى حقائق ومقولات عقلانية وسايكولوجية تؤمن بها الجماهير وتُسلم بصوابها رغم زيفها وبطلانها. من هنا، جاءت ترجمته لكتاب جان مارك بيوتي (فكر غرامشي السياسي). ثم تأليفه لكتابه الذائع الصيت وهو (الماركسية والايديولوجيا)؛ ثم اعقبها بترجمته لكتاب (الماركسية والوجودية) لجورج لوكاش، إلى جانب ترجماته الأساسية في المادية الجدلية من جهة؛ وترجماته في نظرية نمط الإنتاج الاسيوي. ولا يفتنا الإشارة هنا أيضا إلى أهمية ترجماته لمؤلفات مؤسس التحليل النفسي فرويد وانشغاله في تأويل بعض مفاهيمه المتعلقة بتحليل البنية العصابية للمثقف والثقافة العربية، فقد استأثرت هذه الإشكالية بأهتمام طرابيشي منذ السبعينيات حتى مرحلة صدور مؤلفه (هرطقات) 2006، حيث كان تركيزه منصبا بالدرجة الأولى على إعادة تأويل مفهوم القسوة الذي يتوزع بين كل من الماركسية/والمثقف/والحاكم، حيث لاحظ كيف أن: ((القسوة ..أمست…عنواناً للحكم الماركسي، من حيث هو حكم مثقفين…وما ذلك لأن المثقف بطبيعته قاسٍ، بل لأن الوظيفة التي أنيطت به على مرّ عصور التاريخ هي تمثيل الوجدان البشري والدفاع عن مبادئه وقيمه ومصالحه. ولكن إذا كان المثقف هو، على هذا النحو، وجدان الحاكم، فمن يكون وجدان المثقف عندما يصير هو نفسه حاكماً؟ وبعبارة أخرى، إن الدكتاتورية التي مورست بأسم المثال الماركسي هي، في أحد معيّناتها، نتيجة اجتماع الحاكم والمثقف في شخص واحد، ومن ثم توحّد السلطة والوجدان)). (جورج طرابيشي: المثقف وسقوط الماركسية، موقع الحوار المتمدن -العدد: 1732 – 2006 / 11 / 12 – 09:59)
هكذا تبدو المقاربة بين الماركسية؛ والايديولوجيا؛ والمثقف، من اهم مرتكزات نقد العقلانية العربية التقليدية من جهة؛ ونقد أيديولوجيا المثقف من جهة أخرى. فالمثقف هنا اصبح مماثلا لمفهوم العقلانية المطلقة التي تحلق في سماء المبادئ الكلية وتتعإلى على مفهوم الوجود في العالم: ((فعلى هذا المثقف أن ينزع عن بصره وبصيرته غشاوة الأيديولوجيا، وأن يحرر نفسه من الصيغ الجاهزة والمفاهيم المتآكلة، وأن يضع ذاته من جديد في مدرسة الواقع والحقيقة. وكذلك، وعلى الأخص، في مدرسة المعرفة. فالمسافة المعرفية التي تفصل مثقف الهامش، ممثلاً بالمثقف العربي، عن مثقف المركز، باتت لا تقلّ شساعة عن المسافة الاقتصادية والتكنلوجية التي تفصل البلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة. (المصدر نفسه)
ثم يلجأ طرابيشي إلى معجم المفكر الراحل ياسين الحافظ ليستعير منه بعض المفردات الأساسية في نقد بنية وفكر المثقف: ((الذي طالما طاب له أن يتصوّر نفسه سابقاً مجتمعه، والذي طالما طاب له أن يتصور أن مهمته التاريخية هي على وجه التحديد أن يتقدم مجتمعه لينير له “أقوم المسالك” إلى التقدم، هو اليوم مسبوق ومفوّت في مجال اختصاصه بالذات، أي في الثقافة)). (المصدر نفسه)
من هنا، ان فكر طرابيشي المبكر والمتأخر، ينبهنا إلى ضرورة الانتباه إلى: العقلانية العربية المفوّتة؛ والماركسية المفوّتة؛ والمثقف المفوّت. ومع هذا الثالوث تتشكل بوادر “نظرية نقدية عربية/مابعد العقلانية” خاصة وان طربيشي دعا إلى: ((فكر متحرر من كل اشكال الاستعباد الأيديولوجي لان الأيديولوجيا بالنسبة اليه هي اكبر عدو يمكن ان تواجهه المعرفة وعلى ضوء ذلك صرح ان اليقين ليس في ثبات مقولة ما مهما بدت قوية ومتينة وانما هو كما بيّن ذلك متأثرا بكارل بوبر في عدم الايمان بالاعتقاد)). (ضحى بوعجينة، جورج طرابيشي ودوره في التنوير العربي :البعد الماركسي في فكر جورج طرابيشي، موقع الأوان)
ما حاولنا ان نشير اليه فيما جئنا على طرحه أعلاه، ان جورج طرابيشي قد طرح في مؤلفاته المبكرة البديل الانتقالي من العقلانية العربية التقليدية إلى النظرية النقدية العربية، وما كانت مجمل صور تحولاته الفكرية بين الفلسفات اللاوثوقية ، كالماركسية؛ والوجودية؛ والتحليل النفسي؛ وفلسفة نمط الإنتاج الآسيوي؛ والدراسات الأدبية والجمالية التحلينفسية؛ إلا دليلا على وعي طرابيشي بضرورة تقديم البديل لهذه العقلانية المسؤولة عن انتاج منطق الهزائم والمرائر في تاريخ ثقافتنا العربية.
________
*باحث من العراق-مختص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها