(فراديس مفقودة وأخرى موعودة)


*خيري منصور




للزمن أيضا بوصلته، لكن سهمها محكوم بثنائية الماضي والمستقبل، أما الحاضر فهو الزئبق المراوغ الذي يتعذّر القبض عليه، لأننا ما أن نقول كلمة الآن حتى تتبدل اللحظة، وهذا ما كان يعنيه هيراقليطس بمقولته الخالدة عن النهر الذي لا يُعبر مرّتين .
والفراديس المفقودة، سواء بالمعنى الأرضي أو السّماوي هي ما أنتجت النوستالجيا لدى البشر، الذين يرون في الماضي عصرا ذهبيا، وهو العصر الذي وصفه هزيود الذي قسّم الأزمنة إلى ذهب وفضة ونحاس وحديد، حين قال إن البشر في ذلك العصر كانوا أحرارا ولا يعرفون الشيخوخة ومكابداتها ولم يعانوا من الأمراض، بل كانوا ينعمون بالعافية الكاملة. فهل كان الماضي بالفعل كذلك؟ أم أن النوستالجيا المزمنة حررته من آلامه وحوّلته من جحيم إلى نعيم؟ 
ما قاله هزيود عن الزمن نجد ما يرادفه في عبارة دانتوس وهي، سحقا لمن سبقونا فقد قالوا أقوالنا كلها، ولم يبق أمامنا إلا إعادة الإنتاج والتنويع .
وقد تكون رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» أفضل مثال معاصر يجسّد النوستالجيا، فبطل الرواية ما أن يتذوق قطعة الكعك حتى تضاء ذاكرته إلى أقصاها، ويعود إلى طفولته والزمن الذي فقده، وهو فردوس طفولته، وربما لهذا السبب سخر الناس من موقف نسيم حصناني في رواية «رباعية الإسكندرية» عندما ضاع منه مفتاح ساعة جده القديمة وأعلن عن مكافأة لمن يعثر عليه تعادل في أيامه ما يكفي لشراء بيت في أيامنا، لكن نسيم حصناني ردّ على هؤلاء الساخرين قائلا إنهم يتصورون بمحدودية وعيهم وإحساسهم بالزمن أن ما ضاع مني هو مفتاح ساعة والحقيقة أن ما ضاع هو مفتاح الزمان كله!
وفي ثقافتنا العربية يعج ديوان العرب والحكايات على اختلاف مصادرها بالفراديس المفقودة، لهذا تحوّل البكاء على الأطلال من المعنى المادي إلى تقليد ثقافي، ما دفع ابا نؤاس إلى السخرية من هذا التقليد حين قال عن الباكي على الاطلال واقفا ما ضرّه لو كان جلس.
إن اللحظة الطللية في ثقافتنا من صميم السايكولوجيا الجماعية، وهناك مئات بل آلاف الأغاني الشعبية التي تردد صدى ما قاله هزيود عن الزمن الذهبي، وأكتفي بواحدة منها تقول: يا من يأخذ مال الدنيا ويعيدني إلى صباي كي أكبر على هواي، أو ما عبر عنه الراحل عبد الصبور في ديوانه «أحلام الفارس القديم»، حين عرض على البشر مقايضة هي من يدلّه على الكلمة البريئة والضحكة البريئة سيعطيه ما أعطته الدنيا من المهارة، وذلك لقاء يوم واحد من البكارة، ومقابل الفراديس المفقودة ثمة فراديس موعودة، منها السماوي والأرضي، والفردوس الموعود لا المفقود في الأديان هو الآخرة، أما بالنسبة للفلسفة والأيديولوجيات ذات الجذر المادي فهي تحقيق اليوتوبيا الاشتراكية كما في الماركسية، حين تزول الفوارق بين الطبقات، وتتحقق المساواة .
لقد كانت النوستالجيا بالنسبة لمفكرين وشعراء من الماركسيين هي المقبل وليس ما مضى، وهذا ما يقوله الشاعر ناظم حكمت في إحدى قصائده، وهو أن أجمل الأطفال لم يولد بعد، وكذلك أجمل الأغاني والمدن، إنه حنين إلى المستقبل وليس إلى الماضي، لكن هذا الحنين ليس وقفا على الفلسفة المادية، فهناك مثالان استوقفاني في هذا السياق على ما فيهما من تفاوت في الزمان والمكان، الأول أغنية رحبانية لفيروز تقول فيها: أنا عندي حنين ما بعرف لمين، وهذا الحنين يسرقها كل ليلة من الناس الذين تعيش بينهم إلى مكان مجهول.
والمثال الآخر قصة «البلد البعيد» لجيته، حيث تبكي الصبية المسكونة بالحنين إلى بلد بعيد تجهله، وقد تكون رواية «النداهة» ليوسف إدريس نصا مكرسا للنوستالجيا المعكوسة، بحيث تصاب فتاة من الريف المصري بحنين جارف إلى مكان آخر هو المدينة، وتقترن نوبات هذا الحنين بصفير القطار الذي يمر بالقرب من قريتها باتجاه المدينة. وفي قصيدة الغراب لأدجار ألن بو ثمة لازمة تتكرر وهي أقرب إلى النعيق Never More
التي ترجمها يوسف الخال، «ما مضى لن يعود»، لكن جان روسلو الذي ترجم أدجار ألن بو اعتذر عن ترجمة هذه العبارة لأن الصوت فيها من صميم المعنى، إن لم يكن المعنى ذاته، والفراديس سواء كانت يوتوبيات محررة من الفساد والألم والشرور أو جمهوريات مثالية أو شعارات لثورات راديكالية، فهي في النهاية محاولة إفلات من الراهن، وقسوة الحاضر هي ما يغذي الخيال كي يذهب بعيدا ويحلق عاليا، سواء باتجاه الماضي أو المستقبل، فالإنسان لا يطيق البطالة عن الحلم والتعبير عن اختناقه بالراهن، وهناك حكاية طريفة رواها كولون ويلسون في أحد كتبه عن عجوز لا تكف عن الشكوى، لأنها كما تقول تقيم داخل زجاجة خل، وعندما سمعها الجن أشفق عليها وسألها عمّا تريد فقالت إنها تحلم بمكان أخضر، هواؤه طلق وتمتلئ سماؤه بالعصافير، وحين وجدت نفسها هناك عاودها الضجر والبكاء، فسألها الجن عن السبب، قالت له إنها تريد مكانا هادئا لا تسمع فيه حتى حفيف الشجر، وحين حقق حلمها سمعها مرة أخرى تبكي، فأعادها إلى زجاجة الخل، بالطبع تقبل هذه الحكاية تأويلات لا آخر لها، لكن المغزى منها هو ضيق الإنسان بما يملك وحنينه الدائم إلى هناك، لكنه ما أن يصل إلى هناك حتى يعاوده الحنين إلى مكان آخر.
والسؤال الآن هو ما الذي سيفعله الإنسان بفراديسه، سواء كانت من الماضي أو الحاضر عندما يبلغها؟ هل يمكث فيها أم تتجدد أشواقه إلى سواها؟ ما من إجابة أقرب على الأقل على هذا السؤال كإجابة الشاعر برتولد بريخت حين كتب عن مدينة مُتخيّلة اسمها بيلارس، قيل للناس عنها إنها تشفي المرضى وتعيد الشيخ إلى صباه وتحقق الوصال للمحرومين. وبدأ الناس كلهم يحلمون ببلوغ هذا الفردوس الموعود؟ لكن المفاجأة بل الصّدمة العظمى كانت عندما سمعوا ذات صباح أن تلك المدينة دمّرها الزلزال، فأصبح الفردوس الموعود مفقودا!
____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *