الثكالى


*عباس بيضون

في عيد الأم ذكّرتنا هيفا بيطار بعشرات آلاف الأمهات السوريات الثكالى، عامان مرّا على الثورة السورية. لن نخوض في الاسم، لن نتساءل إذا كنا بصدد ثورة أو انتفاضة، النقاش النظري حول الاسم يزيدنا ارتباكاً، هل يمكن أن نجد حظاً ناظماً وبرنامجاً مستقبلياً وسط هذه العاصفة الدموية، هل ينبغي أن تكون حرب عاقلة لنجد لها اسماً، وما هو الفرق بين الانتفاضة والفورة والثورة. هل يمكن للعنف أن يغدو حقاً عاقلاً، أم انه يقترب أكثر فأكثر من العبث.

حين يكون الدم هو الوقود، من يستطيع أن يزنه وبأي ميزان، من يضع له معياراً. من يملك أن يتعقله، من يملك أن يفرق بين عنف وعنف، من يميّز بين عنف عاقل وعنف مجنون، بين عنف نظيف وآخر ملون، عنف أبيض وآخر أسود أو أحمر. بين العنف والردّ على العنف تضيع أشياء كثيرة ويغدو التمييز صعباً، نكره العنف لكن من يستبدّون ويضعون شعوبهم تحت نير الاستبداد قرابة نصف قرن، هم الأول وهم السابقون. القمع والحكم المخابراتي ليسا سوى عنف أخرس، ليسا سوى عنف منظم، ذلك يستجلب العنف المضاد، وإن طال الزمن، ذلك يستدعي رد الفعل الاعنف النقيض ولا بد، إذا أشبه العنف المضاد العنف الأصلي المزمن فلا يعني ذلك أنهما واحد، واننا لا نستطيع ان نفرق بينهما وان نتخذ منهما موقفاً، إذا استدعى العنف العنف المضاد عقب ذلك بطبيعة الحال نخر لهياكل وأنظمة قائمة، هياكل هي انساق للعنف وأنظمة هي قوالب له، نخر الهياكل قد يؤدي إلى سقوطها وإلى وضع يبدو لأول وهلة انه سائب بلا أنظمة وبلا قوانين.
انها الفوضى وهذه مسألة ليست هينة، أنها الفوضى والفوضى آخر الأمر هي ثمن الاستبداد، انها نتيجة ضغط هائل، انها انفجار هذا الضغط، انها انفجار الاستبداد وأنظمته المرعية المفروضة وهياكله الحديدية الصارمة، ليس العنف بحال صنع المتمردين والثوار، ليس على الأقل خاصاً بهم. انه جريرة الاستبداد، بل هو آخر جناية للاستبداد، الاستبداد في نزعه مؤذ كما هو في حياتي، الاستبداد في مواجهته بلا عقل سوى العنف الأعمى، الاستبداد بلا أخلاق ولا يحترم عرفاً أو قاعدة. إنه يبني أعرافه وقواعده لكنه حين يضطر لا يحترم حتى تلك التي وضعها. لنعد إلى ثكالى دمشق، هذه هي اللحظة الوحيدة التي نكون فيها بعقولنا، لا نرى العنف وانما الحياة التي تسممت بالعنف، لا نرى العنف ولكن الإنسانية المعذبة بالعنف. إنه يوم الأم لثكالى العالم العربي نقول تحية وسلاماً.
_________
* شاعر وأديب من لبنان (السفير)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *