الروائية الغوادلوبية ماريز كوندي.. السعادة في الطبق


*سعيد بوكرامي


1
يمكن قراءة الكتاب الجديد للروائية الغوادلوبية ماريز كوندي على أنه استمرارية لكتابها السابق «الحياة دون مساحيق،» الذي يعتبره النقاد سيرة ذاتية لها، نشرت عام 2012. وفي سيرتها الجديدة «أطعمة وعجائب» الصادرة عن دار ج. س. لاتيس بفرنسا 2015، لا نجد الطبخ، بوصفاته ونكهاته، موضوعا للكتاب، فحسب. ولكن هناك أيضا كتابة عن الأسفار وخبرات الحياة المهنية الغنية. عن التنوع الثقافي والاثنى والواقع الاجتماعي للشعوب، التي زارتها الكاتبة وكتبت عنها. عن أفريقيا، وفرنسا، وجوادلوب، والهند، والولايات المتحدة، واليابان، وكوبا، وجامايكا.. تستدعي من خلالها آمالها وخيباتها، كما في كتابها السابق تتحدث الكاتبة عن القضايا الاجتماعية والأدب والسياسة والتاريخ، بأسلوب أنيق وسهل المنال.
لا نخلط في سرد ماريز بين عالم الطبخ والكتابة، فإن كان هناك تزاوج بين الأواني والأقلام، فإن ماريز كوندي تتدخل ببراعة للفصل بين الأدب والطبخ، لأن مقصدية الروائية كانت أن تجمع بانسجام بين ملذات الطعام ولذة اللغة. هذه التجربة اقترفتها الكاتبة في كتابها «فيكتوار، النكهات والكلمات» الصادر عن (ميركيور دو فرانس، عام 2006)، حيث رسمت بورتريها لجدتها من أمها، التي على الرغم من كونها أمية فقد كانت مبدعة حقيقية في الطبخ، تشبه أعظم الشعراء. حسب تعبيرها فوصفات الجدة تضاهي السوناتات التي كتبها بودلير، تنسجم فيها «العطور والألوان والأصوات» تعترف ماريز كوندي بحبها للطبخ، مستدعية ذكرياتها الحلوة والمرة.
كانت جدة ماريز تمتهن الطبخ لدى أسرة من البيض الكولونياليين، لهذا جعلت الطفلة، في وقت مبكر جدا المطبخ ملجأ لها من ضراوة العالم الخارجي حيث نظام الاسترقاق على أشده. كانت تجد في المطبخ فضاء للعب فكلما سنحت لها الفرصة للاستمتاع بتعديل الوصفات التقليدية التي يعدها الخدم، فهي تفعل ذلك باستمتاع، لكن شغفها بالطبخ، كانت يقابله للأسف، تثبيط من طرف الجدة التي تصدر حكمها النهائي: «الأشخاص الأغبياء فقط من يتحمسون للطهي». هذا الموقف، ما تحاول الساردة فيما بعد أن تستعيد وقعه وتفاصيله كي تعبر عنه بشعور يمزج بين التثبيط، والخجل. وربما هذا ما دفع الصبية إلى نوع من الرغبة في الاختراق، وتحدي الحظر. إذ حولت حبها للطبخ إلى «حلم بالحرية»، الحرية التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من شخصية ماريز كوندي وما زالت اليوم تهاجم بشراسة أشكال الظلم في كل مكان من العالم.
هذا الاهتمام بإعداد أصناف الطعام وسبر أصولها ومرجعياتها الثقافية، رافقها طوال حياتها كروائية اشتهرت في أنحاء العالم كله كروائية فريدة بمتنها وشخصيتها القوية ومن خلال رحلاتها أيضا. بحيث كان الطبخ موضوع بحث متواصل كفن وعنصر ثقافي مهم بل وكان يأخذ أولوية حاسمة للتعرف على الشعوب وتاريخها: «إن الطبخ يعكس في أي بلد شخصية وخاصيات سكانه، كما أنه يثري الخيال»،
في مضان الكتاب جميعها نصادف دعوة صريحة من الكاتبة للقارئ كي يرافقها إلى إنجلترا في جامايكا والهند واليابان وجنوب أفريقيا.. حكايات سفر آسرة الواحدة تلو الأخرى تسردها ماريز كوندي بدون مساحيق. في كوبا، مثلا تعبر عن أسفها لأنها لم تر ما يكفي من معالم المدينة القديمة، «مجموعة معمارية نادرة وثمينة جدا في بلدنا الكاريبي حيث كل شيء يبدو دائما نتيجة السلب والنهب والمقايضة»، لكن ما يهمها في الحقيقة هو ما يقدم إليها من أطباق ساحرة تختزن تاريخ أمريكا اللاتينية خلال سعادتها وأحزانها. أما في الهند، فيثير انتباهها القلق الطافح من وجوه الهنود من العنصرية وخيبة الأمل من الحاضر، تدقق النظر فيما يقدم لها من أطباق الطعام التي تغلب عليها البهارات والألوان وكأنها أطعمة ترتدي أقنعة عن الألم والأمل، كما تتحدث عن خيبة الأمل نفسها التي اصطدمت بها في بلدها الغوادلوب التي عادت إليها بعد سنوات طويلة من المنفى، فكانت الصدمة أن لا أحد يعرفها أو يعرف كتبها. كما تثير الانتباه إلا قضايا أخرى تنطلق من الأطعمة لكنها تظهر أزمات سوسيوثقافية تعاني منها هذه البلدان. فقد انتبهت إلى أنه في كل مكان كانت البيتزا تحل محل الأطعمة التقليدية الأصيلة، التي تحتفظ بنكهات التاريخ والأصول والهوية. كما تعبر عن تخوفها من الانتحال والتهجين الذي يحدث للوجبات التقليدية الأصلية، التي تعرف بها دول دون سواها. فهي في الوقت الراهن تنقل وتعدل فتفقد نكهاتها الأصلية وهويتها الثقافية وفي وقت لاحق ربما ستنقرض بصفة نهائية ومعها عمل متقن ومعرفة فريدة.
كانت هذه الرحلات معينا خصبا للروائية لنسج موضوعات كتبها. مثلا استلهمت من إقامتها في كيب تاون قصتها الشهيرة «المرأة المتوحشة»، المستوحاة من جريمة قتل ارتكبتها امرأة سوداء. وبعد هذه الرحلات، تعيد ماريز كوندي اكتشاف مدينة نيويورك، حيث درست في جامعة كولومبيا لمدة عشر سنوات، ثم باريس، حيث تعيش الآن. هذه الأماكن التي تتباهى بمنابعها غير المحدودة وتحتفي بها من خلال الأطعمة والنكهات وسلسبيل من الكلمات. ثم تستنتج من رحلاتها أن للطبخ كما كان ولا يزال ميزة على الكتابة لأن الكاتبة عندما تتقدم في السن، تعيش تحت «الرعب من أن تكرر الكتاب نفسه» وهو الهاجس المعيق للابتكار والإبداع لدى كتاب كثيرين بينما الطبخ فهو على العكس لأن «التكرار في الطبخ دليل على التميز والإبداع». فكلما كرر الطباخ الوصفة أجادها وازداد مهارة في تنفيذها.
حاولت ماريز كوندي التي كان كتابها «أطعمة وعجائب» أن تعبر عن عالمها الثاني المرتبط بعالم الطبخ والذي توازي أهميته عالمها الأدبي. كما حاولت أن تميط اللثام عن نوع آخر من السعادة. تلك السعادة الفريدة، التي نعيشها مع أطباق الطعام الأصيل، الطعام الذي يدون بمواده ونكهاته تاريخ الشعوب الحقيقي الخالي من مقص الرقيب وزيف التاريخ.
2
تدفق الروائية ماريز كوندي أنهارا من الثراء اللغوي والتخييلي في اللغة الفرنسية بكتاباتها المتميزة. منذ أكثر من أربعين عاما وهي تواصل تلقيح لغة موليير باللغة المتجددة والمتخيل السحري. ولدت في 11 فبراير 1937 في بوانت -بيتري (الغوادلوب)، في عائلة مكونة من ثمانية أطفال. في سن السادسة عشرة غادرت الغوادلوب لمواصلة دراستها بباريس، فحصلت على شهادة الإجازة في الأدب من جامعة السوربون.
في عام 1960، تزوجت مامادو كوندي، الممثل الغيني المعروف الذي لعب دور أرشيبالد في مسرحية جان جينيه «الزنوج». بعد ذلك تركت باريس متوجهة إلى أفريقيا، حيث درست لمدة اثني عشر عاما في المدارس الثانوية بغينيا، وغانا، ونيجيريا، والسنغال.
تعود مرة أخرى إلى فرنسا، لتبدأ نشر كتاباتها في عام 1972 بحيث كتبت عددا من المسرحيات والدراسات عن الأدب الكاريبي. وموازاة ذلك أعدت أطروحة دكتوراه في الأدب المقارن بجامعة السوربون: «الصورة النمطية عن السود في الأدب الكاريبي» ثم اشتغلت مدرسة بجامعة باريس.
في عام 1976 بدأت كتابة الرواية، ونشرت روايتين مستوحاة من تجاربها في أفريقيا «حريماخونون» (1976) و«موسم في ريهاتا». (1981) روايتها الثالثة، كانت هي «سيغو»، وهي عمل من جزءين «أسوار الأرض، عام 1984، والأرض المشتتة، 1985» التي حققت بها نجاجا وانتشارا كبيرا كما ترجمت إلى اثنتي عشرة لغة، وكانت «سيغو» خاتمة أعمالها عن أفريقيا.
دعيت ماريز كوندي للتدريس في الولايات المتحدة في عام 1985، وأسست مركز الدراسات الفرنسية والفرنكوفونية في جامعة كولومبيا. وفي عام 1986 عادت إلى جزيرتها «غوادلوب» التي ألهمتها روايات بديعة مثل «حياة خسيس» (1987) و«عبور القرم» (1989) ومن عام 2004 إلى عام 2008، ترأست لجنة «ذاكرة الرق»، التي أنشئت في يناير2004 لتنفيذ قانون توبيرا الذي يعتبر الرق وتجارة الرقيق جرائم ضد الإنسانية. كما كان كتابها «أطعمة وعجائب» ضمن اللائحة القصيرة للمان بوكر 2015.
حصلت ماريز كوندي على جوائز أدبية كبرى كرمت أدبها الإنساني وعمقها الأدبي والجمالي.
____
*عُكاظ

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *