روايات رصينة وأخرى ملفّقة


*لطفية الدليمي


القسم الثاني
يمتاز الإنسان العاقل Homo Sapiens بقدرته الفريدة على خلق الأفكار ومساءلتها والتلذذ العقلي المنتشي بها ، غير أن تلك القدرة محكومة بالتحفيز المطلوب الذي توفره بيئة الإنسان : نرى مثلاً في البيئات المتخلفة انحداراً في تلك القدرة ومسخاً منتظماً وازدراءً لها واعتبارها غير قادرة على الإيفاء بمتطلبات العيش البيولوجية الأولية ، في حين نرى اهتماماً أكيداً بتلك القدرة في المجتمعات المتطورة لمعرفتها أن القدرة الإنسانية على توليد الأفكار هي ( منجم ذهب لانضوب لثروته) بالمعنى النفعي للعبارة وليس على صعيد الاهتمامات العامة حسب ، فنرى في المجتمعات المتقدمة اهتمام النظم التعليمية بالتركيز على تعليم الكلاسيكيات الأدبية والفلسفية في وقت مبكر من أعمار الطلبة لكون تلك الكلاسيكيات ( ابتداء من المحاورات الأفلاطونية والأساطير الملهمة والملاحم ومختارات من نصوص الروايات الحداثية ومابعد الحداثية ) مما يعزز تحفيز العقول الفتية في التعامل مع الأفكار ومساءلتها واستنباطها . 
وهناك من يتساءل : لماذا نعتبر الانتشاء بالأفكار التجريدية خاصية فريدة للعقل البشري ؟ إنّ الجواب على هذا التساؤل مرتبط بالجواب ذاته للتساؤل الخاص بعظمة الرياضيات وسحرها الأخاذ : فالقدرة التجريدية هنا تعني إمكانية توليد الأفكار بمعزل عن وجود المؤثرات الفيزيائية المحسوسة التي تقع خارج نطاق العقل ؛ مما يعني أسبقية العقل على الموجودات المادية وعلويته عليها وقدرته على إنتاج الأفكار حتى في غيابها ، وفي هذه الجزئية بالذات تكمن قيمة روائية فريدة تساعد الروائي في عمله – تلك هي قدرة العقل البشري على سرد تجارب لم يسبق أن خاض فيها أو رآها ماثلة أمامه – الأمر الذي يوفّر للعقل طاقة تخييلية هائلة الإتساع ويجعل من بعض السرديات الروائية نوعاً من ( تجارب فكرية ) قوامها الأفكار حسب ،
هناك رأي مردود يقول بأن العمل الروائي كائن طفيلي يعتاش على الرؤية المادية المجردة والانغماس الجسدي في خضم المفاعل البشري ؛ والأصح أن العمل الروائي المتصف بالأصالة – شأن كل إبداع آخر – يوظّف الطاقة التخييلية المعززة بالأفكار ويدور في مدارها ، وبدون الأفكار لن تكون الرواية سوى “حدوتة ” مسطحة وملفقة تعتمد اللغة العاطفية السيالة والبوح المجاني والتبسيط لإرضاء فئات محددة من القراء. في حين تمتاز الرواية الرصينة بأنها لعبة ذهنية في المقام الأول وليست سرداً وقائعياً محضاً لحوادث محددة ؛ غير أنها تختلف نوعياً عن الألعاب الذهنية الأخرى بكونها لاتستمدّ مادتها الأولية من مواضعات متفق عليها بل من الواقع الفيزيائي الذي يحيا فيه الإنسان ، ويصحّ هذا الأمر على كافة أجناس الفن الروائي حتى تلك الروايات ذات النزعة الميتافيزيقية لأن الرواية ستفتقد الغرض من كتابتها ( وهو الارتقاء بحياة الإنسان وتوسيع آفاق معرفته ) متى ما افتقدت العناصر الفيزيائية واقتصرت على عناصر عقلية خالصة ، وتأتي الأفكار لتشكّل مادة بنائية لاحمة تجمع المواد الأولية وتحوّلها خبرة منتجة ترتقي بالعمل الروائي والحياة معا. 
ونتساءل : كيف يحصل ضخ المادة المعرفية في الرواية ؟ يحصل الأمر عبر تكثيف الخبرة البشرية بهيئة خلاصات مركزة أو ماندعوه عبارات خوارزمية ما أن يمرّ بها القارئ ذو الحساسية الذهنية حتى يكاد يهمس لنفسه : ما أروع هذه العبارة ! كم هي مهمة وثمينة ، وياليتني عرفتها من قبل ؛ إذن لكانت حياتي حينها اتخذت مساراً مختلفا عمّا مررت به ولكانت بهجتي بالحياة وثرائها قد تسامت لمرتقيات بعيدة ولكنت نأيت بنفسي عن مزالق وخسارات كان بوسعي تجنب نتائجها.
___
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *