*فاروق يوسف
سنرجع. من أجل صحن من البامياء. من أجل هديل يسقط صباحاً على سطوح المنازل الصيفية بارداً. من أجل الغبار الذي يشقّ طريقه إلى خطوط الأيدي. هذا سخام معجون برائحة التفاح. لقد شمّ الأطفال رائحة تفاح طازج قبل أن يشهقوا ويموتوا سعداء. كان ليل الغرباء يمشي بعكاز موسيقي أعمى. وكان الخضر قد مشى يومين على الماء من أجل أن يصل إلى صخرة صارت في ما بعد مأوى لأدعية الهائمين. “لي قمرٌ بالكرخ مطلعُه”. ألا يزال الكلام ممكناً؟ وهو الكلام الذي لا ينفع مثل نصح يضيق به الوقت. مثل سلالة مشّائين سقطت في البئر. كانوا أسرى العذل. أيّ قارورة زرقاء نكسر من أجل أن تصحو الملائكة بين عيونهم؟ في الصيدلية هناك حبة دواء تأخذها الثرثرة إلى عليين وما من عسل يشفي. هناك شفاء ملغوم بالعاطفة من طريق وضع اليد على الرأس. يد صيّاد مباركة، يد لص تقفز من رمش إلى رمش، يد موظفة بنك وهي تلمع باستحياء على خشب المنضدة المستطيلة. بيننا حجر أصمّ من الذهب، قبلة زعفران، صوت أجنحة إسرافيل. لقد حلّت القيامة أم أنها طائرات تحلّق بمزاج فوسفوري؟
كانت صاحبة الحانة تضحك. لقد مضى ليبكي صاحبه فعاد من لبنان بحمامتين من ثغاء مجنون. شجرة أرز وحيدة على العلم، أما الحقول فقد حرثتها الوعول الهاربة بأقدام فزعها. تلك بلاد تقيم على قارب له شكل شفتي عقرب. ألدغك لتحيا. سنعود إلى الكتاتيب من أجل أن نجرح الحرف فتصعد نافورة هي جوقة حوريات زائفات، هنّ في حقيقتهن فقرات من درس نظري، اتفقت الطوائف على تلقّيه مثل جرعة أنسولين. سكّر زائد ولا ملح. بماذا نملّح؟ ولكن مَن يحتاج الملح، عليه أن يشرب من بحر صيدا. فينيقيا سعيد عقل تطلق زفيراً مأهولاً باللحى. لحية على لحية، فيكون لدينا في سامرّاء ملوية أخرى. طوبى للمتوكل. كوبان من القهوة الثقيلة ويرتقي الخليفة العباسي سلّم المئذنة لينام على سرير مطرّز فراشه بالأفاعي. صور سعيدة من الهند تشفق على ميتة الملك في نصفه التركي. لقد جرّت البلاد عربة قيامتها بحصانين من خراسان وتركمانستان. في حانات بغداد كان هناك من يعذل. لقد تمكن ناكر ونكير من عقول الناس، فصارت تمسك بخيال الدودة قبل أن تخرج تلك الدودة من البيضة. كنا نمشي.
مرضى هالكين ويتامى مفجوعين وشعراء بصبيان قيل انهم كانوا مخلدين. كنا نمشي على الورق الصيني فلا ننزلق. قدم على سطر محته يد المايسترو، وقدم أخرى على سطر لم يكتب بعد. هل رأيتِ الركبتين تشتبكان يا بلادي؟ أفتح المخطوطة من أجل صمتٍ لا صمت يشبهه. هو الابن والأب والروح الهائمة. كنا نمشي. لن تكون الوصفة جاهزة. سيقول المتوكل “جلفراي” (الجلفراي، تُلفَظ بالجيم المضخمة، أكلة تركية منتشرة في بغداد خصوصاً تتكوّن من مكعبات بطاطا صغيرة، زائداً قطعاً من لحم الغنم مع بصل وطماطم وفلفل أخضر. طبعاً، البهار الخاص بها يلعب دوراً عظيماً في منحهها هويتها الخاصة). تلتفت الجارية إلى وصيفاتها لتجدهن حائرات. تفكر الجارية القادمة من يثرب بفراش ليلي تزيّنه شموع من همدان وأبخرة من دلهي. وحين يخبرها الخليفة أنه يريد أن يأكل، تلقي نظرة على جسدها وتطمئن إلى أنها لا تزال صالحة للالتهام. طنّ من اللحوم والبقوليات والخضروات والفواكه، ولا يمدّ الخليفة يده. كانت كأسه لا تفرغ حتى تمتلئ إلى أن صار شجرة عنب. حين غفا الخليفة صرخ موجوعاً: “جلفراي”.
أصار عليَّ أن اختصر غربتي كلها في صيحة خليفة، نصفه كان تركيا؟ قالت لي إنعام كجه جي وهي تدافع عن روايتها الجديدة “طشاري”، “إنها ليست رواية عن الحنين” في الوقت الذي كنت أفكر فيه بالجلفراي. أليست شجرة الأرز على العلم اللبناني نوعا من الجلفراي؟ ودّعته وبودّي لو يودّعني/ صفو الحياة وأني لا أودعه. ألا نقيم كلنا في هذا المختبر العاطفي؟ سنغنّي على عجالة “وياك اروحن/ حبيبي وياك أروحن”. لا أحد يسأل إلى أين؟ أرض الله واسعة. كلها لنا ولأولادنا ولأحفادنا، ولكن هناك من يدعو الله أن يعجّل في فرج المهدي. لقد طال انتظار الغائب. ألا يعني ذلك الدعاء رغبة في الفناء؟ “عجّل الله فرجه”، يقولون، وهم يتمنون نهايتنا. يكرهوننا ويكرهون أنفسهم ويضعون الحياة على ميزان مزاجهم المضطرب. لا أحد يفكر في أجيال، صار من حقها أن تعيش حياة أفضل من تلك الحياة التي صار الكثيرون يتمنّون لو أن الإمام المنتظر يخفّ ليسدل الستار عليها. لا ينفع أن نقول “الحياة عزيزة”، مثلما لم ينفع في وقت سابق صراخنا في أن الوطن عزيز. ما معنى الوطن يا بلادي؟
كان الوطن عزيزاً في غرف الدرس، ولم يكن كذلك في الثكن.
وهبتنا الحرب أحذية. بل وهبتنا أقداماً.
جلس موريس إلى جانبي في الطائرة. أخبرني أن اسمه موريس. لم يكن لديَّ اسم. وأن فرنسا هي وطنه. أنا لم يكن لديَّ وطن. وأنه مولود في مرسيليا، فيما كانت المدينة التي ولدتُ فيها لا تعني سوى أرقام الموتى المغادرين على عجل. لذلك حين مدّ موريس يده ليصافحني، خلتُ أني سأصافح عزرائيل. لمستُ يده وكنت أتمنى لو كان نائماً. موريس يذهب إلى بلاده في النوم، فيما تمنعني ذكرى بلادي من النوم.
مثل خصر أزنّرك بالياسمين.
لقد أحببتُ دمشق ذات مرة. سأبقى أحبّها إلى الأبد.
سيكون عليَّ دائما أن أعتذر من بردى. كنت أنظر إليه من شبّاك غرفتي في الفندق من غير أن يذكّرني بدجلة. لم يكن ذلك عدلاً. لقد خُلقتُ نهرياً، لذلك كان من الواجب عليَّ أن أقف إجلالا لكل نهر، مهما يكن ذلك النهر صغيراً. كان نهر الكلب قد ألهمني في وقت سابق خيال فارس روماني. لكنني أحببتُ دمشق من غير أن أفكر في غرام بردى.
اختصرت دمشق فكرة أن تكون للمرء بلاد خاصة به. حينها يحقّ له أن ينادي: “يا بلادي”.
وهي بقايا الاعمة في الصحون، غناء الجنادب العالق بمنقار طاووس.
كنت جالساً على ضفة الدانوب. متى حدث ذلك؟ في الألفية الثانية الزائفة. لم يكن لديَّ ما أفعله. كنت ضائعاً كالعادة. حين اقترب مني رجل يعتمر قبعة من قش. ألقى عليَّ التحية وجلس قريباً مني. ابتسم عن سنٍّ أمامية مكسورة. هناك فراغ مؤثث بالعتمة. قلت لنفسي: “هذا فأل حسن”. أخبرني الرجل أنه مكسيكي أضلّ الطريق إلى مدينته. لم أخبره أننا نجلس معاً في بودابست وهي مدينة تقع في قارة بعيدة عن القارة التي تقع فيها المكسيك. لم يتأخر الرجل عن التوضيح، قال: “كأنني نمت وحين استيقظتُ وجدت نفسي في مدينة أخرى”. شعرتُ بالاطمئنان. الرجل لم يكن مجنوناً. “ولكنها قارة أخرى”، قلت له، فابتسم بحزن وقال: “لا أفهم معنى كلمة قارة. لو كنت ترغب في الإشارة إلى تغيّر طرأ على الزمن، فأنا أوافقك”. نظرتُ إلى عينيه. كانتا عميقتين. لم تكن فيهما أي علامة من علامات الفكاهة. لم يكن الرجل يمزح. قلت له: “أقصد مزاج المكان. إنس التاريخ. ألا ترى من حولك أشجاراً لم تكن جزءاً من مائدتك البصرية؟”. صار الرجل يتلفت من حوله مندهشاً، كما لو أنه اكتشف المكان للمرة الأولى. عاد لينظر إليَّ مذعوراً، وهو يقول بأسى: “كان عليَّ أن لا أكلمك حين رأيتك. لقد أفسدتَ عليَّ حلمي”. هنا، وقف وغادرني بصمت وهو يهزّ رأسه.
قلت لنفسي وأنا أراه يختفي: “سيصل بعد ثانيتين إلى المكسيك”.
__________
*ناقد وشاعر من العراق يقيم في السويد(النهار)