نعامة الشاشة ورمال المشاهدة


نجيب نصير*

( ثقافات )



تبدو ترجمة الأفلام الأجنبية (Subtitle) إلى اللغة العربية، كشرط أساسي من شروط العرض الجاذب للمشاهد، خصوصاً في البلدان العربية التي تفتقر إلى لغة ثانية مقروءة ومسموعة متداولة بن ظهرانيها، وهذا أمر أوقع المحطات العربية الباثة للأفلام الأجنبية في تناقض مرير، أولاً من جهة خضوعها المُذل لأنواع الرقابات (قد تكون هذه المحطات أو بعضها هي نفسها الرقابات) التي قد تذهب إلى حدود الرقابة على النوايا، ما يدفعها دفعاً لتشويه المعرفة الإنسانية، من حيث هي معرفة عمومية كونية، من شاء أخذ منها ومن شاء رفضها، وفي الحالين عليه أن يحتمل نتائج الرفض والقبول.
من جهة ثانية تبدو هذه الترجمة المقروءة (Subtitle) وكأنها تخطّىء وتدين وتؤثّم، ثقافة صناع العمل الخاصة بمجتمعاتهم، فتصحح لهم من خلال الترجمته إلى “العربية” ما وقعوا فيه من “خطايا” في القول والفعل والتمثيل والتصوير إلخ ما يمثل “خطورة” فائقة على المتلقي الجاهز “للإنفساد” والتخلي عن الحياء العام، إذ لا يتوقف هذا التخطيىء عند حدود إلغاء مفردات بعينها، بل يتجاوز ذلك إلى قص اللقطات والمشاهد التي تعتبر “خطرة” وغير مقبولة.
وهنا ترتكب هذه العمليات (الترجمة والقص أيضاً) أخطاء (وربما خطايا) على أكثر من صعيد ثقافي وتربوي، فالعنوان الرئيس الذي تندرج تحته هكذا أفعال هي رفض الآخر، بناء على إعتقاد مضلل برقي ناتج عن خصوصيتين ثقافية وحقوقية، تجيز التلاعب بالمعاني،على الرغم من الحاجة إلى المنتوج الفني (أفلام وغيرها)، كما أنها تخلق آلية عملية لممارسة التعصب والتطرف، فلرفض الآخر هناك مرتسمات وتصرفات على أرض الواقع، قد تكون بعيدة أو قريبة من التصريح بها صراحة، مع وجود ذرائع جاهزة، لتبريرها وتجميلها في حال تم اتهامها بذلك، ولو على سبيل المماحكة، ومهما كان الثمن الثقافي والتربوي الذي سوف يتم دفعه لاحقاً، هذا بالإضافة إلى العماء المعرفي بالبشر والمجتمعات غير الناطقة بالعربية، ذلك العماء الذي يقود إلى الخوف من المجهول، وتثبيت معلومات مختلفة عن الآخرمنقولة عبر ترجمة غير بريئة، تقوم بشيطنة هذا الآخر انطلاقاً من مبدئيات ثقافية تفيد بالقطع معه، بناءً على طاقتنا المعرفية “المميزة”!،عبر مناورة لغوية شفاهية، تنتقل من عدم الإعتراف إلى التكفير والعداوة مباشرة، مستكملة مساراً ثقافياً تراثوياً، يضع الناس على بدايات طرق التطرف.
فمفردة (God) على سبيل المثال ليست الله في أي حال من الأحوال ـ (أيل رب الأرباب ومنه إيلوهيم واللهم) ـ وهي ليست الإله أيضاً ولا الرب في “العربية” الماضية والمعاصرة، بل هي القدير مثلاً أو ذي القدرة العالية أو أية تسمية أخرى، ولكنها ليست مفردة الله مشافهة، فلفظة الله تعني غير ما تعنيه لفظة (God)، في الدلالة اللغوية الشفاهية عند هذه المحطات، لكنها تقود لافظها إلى موقع ثقافي وحقوقي أعلى أو مختلف عن غيره، ربما وبعد تراكم هذه النتيفات الثقافية مع بعضها ككرة ثلج، سوف يحق له محاسبة الآخرين، والقضاء عليهم إذا لزم الأمر(هذه الترجمة التي تسببت بمشكلة طائفية في إحدى دول جنوب شرق آسيا وصلت إلى المطالبة بتضمينها في الدستور)، فالناس ليست متساوية في هكذا ذهنية، ولا يحق لمن تسول له أن يستخدم معان أو ألفاظ لا “يحق” لهم استخدامها، فهي أي اللفظ والمعنى ملك حصري لفئة واحدة من البشر، على الرغم من حاجة هذه الفئة لاستيراد هذه الأفلام، ممن يعتبرونهم أقل استحقاقاً أو شأناً.
وهنا لا تبدو المسألة مجرد موضوع اختلافات لفظية بسيطة عابرة، أو أنها ترجمة مهلهلة ناتجة عن السهو أو قلة العلم، بل هي وبعد ملاحظة المفردات المترجمة في مجموعها، وهي كثيرة جداً من هذه الناحية (الكاهن، القديس، الكنيسة، عيد الميلاد، إلخ إلخ)، وكلّها لها ترجمات تأليبية تأثيمية خاصة، ناتجة عن ذهنية معرفية مؤدلجة، لا تخبُطُ عشواء في هذا المضمار.
على التوازي، وفي ذريعة الحفاظ على الحياء العام، تندرج هذه الترجمات (جملاً ومفردات)، في سياق كوميدي ساخر خاص، حيث يتم تأثيم الآخر عبر لغته المجتمعية المتداولة، فمتابعوا العمل الفني (فيلم أو مسلسل أو برنامج) ممن يتقنون لغة العمل يفهمونه فهماً آخر، ويخرجون منه بنتيجة أخرى، حيث تبدو خيانة الثقة العلمية في أعلى تجلياتها، (ولا ننس في هذا المقام ترجمة الكتب من أدب ودراسات)، ناهيك عن خيانة اللغة العربية نفسها، التي تبدو أنها لا تحتوي على ألفاظ كافية لنقل كلمات بحرفيتها، أو بمعناها المحدد إلى ألفاظ مقابلة موجودة فيها، وكأن على المشاهد واجب إسقاط بعض مفردات من لغته، أو تركه لتخيلها بصور يختارها هو من خلال معلوماته الشخصية، حيث يظهر الفصام الذي تسببه التابويات في أبهى حلله، ويلقى هذا الفصام آليات لممارسته واقعياً، بذرائع توفرها هذه المحطات بوصفها منتجة للثقافة، وهكذا تتحول رواية سلوى النعيمي “برهان العسل” مثالاً، المعنية بهكذا نوع من التعامل مع اللغة إلى تهمة أخلاقية، على الرغم من كونها لم تتعد الحقائق الأولية البسيطة من مقام اللغة العربية.
وهكذا لا نعلم إذا كانت لفظة (Fuck وغيرها) المتداولة بكثافة شديدة في الأفلام الأميركية، تعني ألفاظاً مثل (تباً أو سحقاً أو اللعنة)، كما أننا لا نعلم إذا كان مسموحاً استخدامها في لغتنا اليومية أو في أفلامنا ومسلسلاتنا كما هي، أو كما هي مترجمة ؟! ولا ندر إذا كانت مفردة (Sex) التي تترجم بـ (علاقة) في أفلام هذه المحطات، المقصود منها تطوير اللغة العربية كي لا تقع في إثم خدش الحياء العام؟!، أم أنه فعلاً أن ترجمة كلمة (Sex) إلى العربية هي بالضبط علاقة، وحيثما وجدت هذه المفردة (علاقة) فإنها تعني (Sex) وعلى المتلقي تداولها بهذا المعنى؟!، بغض النظر عن مقاصد اللغة ومنافعها.
ربما المجال لن يتسع لمناقشة الأمثلة الكثيرة في “معضلة” ترجمة الأفلام إلى العربية، كما أن المجال لن يتّسع لنقل كميات السخرية، التي تلقاها هكذا ترجمات، ولكن لنفترض ولو جدلاً (وهذا لم يعد افتراضاً بل أصبح واقعاً ولم تخرب الدنيا) أن هناك محطات تلفزيونية تعرض أفلامها بترجمة دقيقة، ومشاهد كاملة دون مقص وصي على الحياء العام، ودون ذي “علم” يتعالم به على البشر (وهنا نستثني المحطات الإباحية)، ماذا سيحصل من معرفة الناس لحقيقة هذه المفردات بمعناها الطبيعي؟!، أو ماذا سيحصل لو شاهد الناس مشاهد ولقطات سينمائية بمعناها الفني؟! ومن يستطيع منع هذه المحطات من البث؟ هل سينشأ تيارين لغويين مختلفين يتصارعا على الدقة الشرعية للكلمات؟ أم سيلجأ الجمهور إلى معاجم الأنتروبولوجيا، وفقه اللغة لحسم موقفه من هكذا نوع من الترجمة؟ طبعاً لن يحصل شيء من هذا، فالمسألة هنا هي إيجاد واقع إنحيازي إستعدائي تصنعه الإستعمالات المؤدلجة للغة الترجمة، وكأن بها ردّ حانق على المنتوج الفني ليبدو متهماً سلفاً بتجنب الحق والفضيلة.
في الواقع، فإن الذي حصل ويحصل، هو ناتج عن تزوير الترجمات وقص المشاهد واللقطات وليس العكس، بقصد تصحيح ما خطل به صناع المنتوج الفني، وهذا الحاصل هو حاصل سلبي من الناحية المعرفية، وهي الناحية المقصودة من عرض الأفلام وكافة الفنون، فما وصلت إليه العلوم والفنون ليس مجرد قفزة لغوية شفاهية، يمكن وضع خطوط حمراء لمفردات لغتها وتعابيره، فلفظة الله (سبحانه) كصوت ومعنى، ليست ملكاً للغة أرضية بعينها، وهي اللفظة المنتقلة عبر التاريخ والأقوام، معبرة عن معناها الجليل والسامي.
أما بقية الألفاظ والجمل، المترجمة خطأ تارة ومواربة تارة أخرى، فهي من الصيغ الإجتماعية التي ينتجها المجتمع في حياته الواقعية، وربما كانت العربية بعامياتها (وفصحاها) زاخرة بالكثير من هذه الألفاظ، وهي متداولة بشكل طبيعي بلا شك، ويندر من لا يعرف معناها، ويندر كذلك من لا يمارسها وينطقها، كما أنه من غير الواقعي ولا المجدي، محاولة إستئصالها عبر مناصحة تفتقد إلى الكثير من المعرفة وهيبتها، لتتحول العملية (هذه الترجمة) إلى فذلكة ومحاولة تشريف الألفاظ على حساب المعنى، مستثيرة سخرية العامة، على الرغم من مسايرتها لهذا الفصام المعرفي.
هذا ما يقودنا إلى الحاجة لعملية مصالحة بين اللغة ومعانيها، وبين اللغة ومستخدميها، الذين ظنوا ويظنون أنهم يحصلون على الحقيقة، أو على الأقل المعلومة الصالحة، من خلال هكذا نوع من التلاعب بالألفاظ، ولكنهم وفي حقيقة الأمر، يتعرضون لعملية ترويض ومصادرة، تؤدي إلى انحياز ثقافي غير حميد الطوية المعرفية، لتصبح المرحلة التالية من الحوار حول هذا الموضوع، تتلخص في ادعاء أننا أحرار وهذه قناعتنا وهذا من حقنا، إلخ من إسطوانة التعصب المفضية إلى العداء، ما يعيدنا إلى حقل “التنوير” الذي فلحه وبذره الأفغاني ومحمد عبده، وحصدنا نحن ثمراته البائسة، فنحن ما زلنا في المجال الثقافي الذي يؤسس للسلوك بتراكم تخريبي عبر هكذا نوع من المعلومات، وترويض المنتجات الثقافية على هذه الشاكلة أيضاً، مما يقدم لنا سلوكيات كتلك التي نراها بين ظهرانينا هذه الأيام، والتي تقودنا إلى كوارث معرفية، نمارسها بكل أمان النعامة على الرغم من افتقادها للبراءة.
* كاتب من سوريا يقيم في لبنان

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *