حوار مع الكاتب والروائي الصيني ها جن (2)

 

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

 

 

* يرى نقّاد أنّ ثمّة تأثيرات لكلّ من الكتّاب : إيزاك سنكر ، فلاديمير نابوكوف ، جوزيف كونراد عليك . هل ترى أنت أيّة تأثيرات لهم فيما تكتب ؟
– قرأت رواية سنكر المعنونة ( ظلال على نهر الهدسون Shadows on the Hudson ) وهي رواية عظيمة بحق مكتوبة باللغة اليديشية و أستطيع بالتأكيد مشاركته تجربته الروائية ولكنّ نابوكوف وكونراد مسألة أخرى : فهما كتبا بالإنكليزية رغم انّها لم تكن لغتهما الأم ، وانا بكل تأكيد أنتمي إلى التقاليد الأدبية التي ينتمي إليها هؤلاء الكتّاب العظام و لكن رغم كلّ شيء على الكاتب أن يجدّ في نحت طريقه الخاص به .

* قضيت حقبة مهمّة من حياتك وأنت جنديّ في الجيش الصيني . كيف تصف لنا الحياة الثقافية خارج ثكنات الجيش ؟
– لم تكن الحياة الثقافية خارج ثكنات الجيش بأقلّ سوءا من داخلها : كانت ثمّة مهرجانات لحرق الكتب وأغلقت الكليات وأبقيت مغلقة لعشر سنوات ولم أر مكتبة عامّة واحدة حتّى بلغت العشرين من عمري .

* في ظلّ هذه الأجواء المعتمة التي تصفها ، كيف مضيت في تعليم نفسك و إكسابها ثقافة قابلة للنماء والتطوّر ؟
– عملت لفترة ما في حياتي مشغّل تلغراف في السكك الحديدية وكانت لي آنذاك غرفة عملي الخاصّة والمنفردة وحرصت دوماً على استغلال وقت الليل في المطالعة كما كان والداي يحرصان على تزويدي بكتب المقرّرات الدراسيّة التي كنت أقرأها بكل دقّة ومتعة . كان هذا هو حال الكثيرين من أبناء جيلي فقد كان على كلّ منّا أن يعلّم نفسه بنفسه .


* قرأت مرّة أنّك كنت تبغي من وراء تعلّمك الإنكليزيّة قراءة عمل فردريك إنجلز المعنون ( حالة الطبقة العاملة في إنكلترا ) . كيف تعلّق على صحّة هذه المعلومة ؟
– هذا صحيح إذ لم أكن أعرف وقتها كتاباً مكتوباً باللغة الإنكليزيّة غير هذا الكتاب عندما بدأت القراءة الجادّة في الصين ، ولطالما راودتني أحلام بانّني سأتمكّن من قراءته يوماً ما ، والغريب في الأمر أنّني وبعد عدّة سنوات من إقامتي في الولايات المتّحدة اقتنيت الكتاب وركنته في مكتبتي ولم اقرأه ولا أظن أنّني سأقرأه يوماً ما فقد صرت أراه اليوم كتاباً أسطورياً محشوّاً بالخرافة .
* هل ترى في الكتابة الأمر الأكثـر أهمّية في حياتك ؟
– صارت الكتابة بالتدريج الأمر الأكثر أهمّية في حياتي على الرغم من أنّني كنت أتوقّع الفشل في كل مرّة كتبت فيها كتاباً ولهذا أرى انّ من الأفضل للكاتب أن يزاول مهنة نظاميّة بالإضافة إلى عمله الكتابي . لا يحقّق الكتاب الجيّد مبيعات جيّدة أو نجاحاً تجاريّاً دوماً ولكن بسبب أنّني أمتلك عملاً فلا ألقي بالاً لما ينتظر عملي من نجاح أو فشل . أكتب في العادة ما أتوق فعلاً لكتابته وهذه مسألة جوهريّة تماماً لي .* هل الأفضل للكاتب أن يمضي حرّاً في العالم أم أن يعمل في وظيفة أكاديميّة كما تفعل أنت ؟
– المسألة كلّها تعتمد على الفرد ذاته : بعض الأفراد يزدهرون في بيئة العمل الخاص في حين انّ الاخرين لايفعلون . ثمّة استثناء خاص للشاعر الذي أرى انّ مهنة التعليم تشكّل مهنة عظيمة له لأنها قد تكون سبباً في إثارته بطريقة رائعة بوساطة تفاعله مع الاخرين ، أمّا بالنسبة لكاتب الرواية فأظنّ أنّ المسألة شاقة لانّه يبذل الكثير من الوقت والطاقة في عمله وهو ذات الجهد والطاقة التي ينبغي له أن يدّخرها لعمليّة التدريس .


* هل تستمتع بعملك التدريسيّ؟
– أظنّ أنّني أستمتع به الآن : فلعدّة سنوات لم أكن أرغب في مهنة التعليم ولكن شيئاً فشيئاً صار التعليم جزءا من حياتي الشخصيّة والمهنيّة ولا أظنّني كنت سأكتب بعضاً من أعمالي – مثل حياة حرّة – لولا انّني درّست مقرّراً دراسيّاً عن ( أدب المهاجِر Literature of the Migrant ) فقد قرأت الكثير من الموضوعات المرتبطة بالهجرة و إشكاليّاتها وهذا ما أثارني ذهنيّاً وفتح أمامي أفاقاً واعدة للكتابة.

* في روايتك ( حياة حرّة ) نقرأ عن نان Nan : الشخصيّة الطموحة التي تبتغي الارتقاء في كتابة الشعر وتكافح للتكيّف مع متطلّبات ثقافة غير مضيافة للطموح الأدبي . هل كنت تحكي في هذه الرواية ما تراه حالك لو لم تصبح كاتباً ومضيت في طموحك الشعريّ وحسب ؟
– سردت في هذه الرواية الكثير من جوانب تجربتي الشخصيّة لأحافظ على الأجواء الحميميّة في الرواية ولكن لا يمكنني عدّ هذه الرواية سيرة ذاتيّة لانّها تحكي عن حياة غير حياتي رغم انّني تماهيت أحياناً مع ( نان ) على المستويين الروحي والعقلي . يمكن عدّ السيرة الذاتيّة كمثل ( خزّان كبير ) يمكنك أن تغترف منه ما تشاء وأن تروي الكثير من الحكايات القابعة فيه ، وبالرغم من أنّني أتفهّم الكثير من الإحباطات التي أحاطت حياة ( نان ) غير أنّني كنت ، ولا زلت ، أمتلك حياة أفضل بكثير بالمقارنة مع حياة ( نان ) .
* هل انتابك القلق بشأن روايتك ( انتظار ) وإمكانيّة أن تصدم القرّاء الذين يمكن أن يروا فيها رواية قاتلة للأمل ؟
– في مرحلة ما انتابني هذا القلق ولم أعرف كيف ستكون استجابة القرّاء أزاء هذا العمل ولم أعرف بأيّة وسيلة يمكن لهذا العمل أن يكون ذا جدوى، ثمّ حصل أن قرأت يوماً ما محاورة مع زوجة احد ضبّاط البحريّة الأمريكان وكانت تشتكي من متاعب زوجيّة : فعندما سألها المحاور أنّ زوجها يمكن أن تكون له علاقات عاطفيّة مع نساء اخريات ، أجابت : ليته امتلك علاقة كهذه !! فعندها كنت سأتيقّن من انّه يمتلك القدرة على أن يحبّ امرأة ، أيّة امرأة !! . كانت إجابتها صادمة وكاشفة لي كما كانت قادرة على جعلي أستعيد ثقتي بنفسي وأمضي في كتابة روايتي . لو انّ ( لن Lin ) الشخصيّة الرئيسية في روايتي ( انتظار ) كان قد نشأ في بيئة اجتماعيّة متوازنة كان يمكن أن تكون له حياة عاطفية دافئة وقدرة على الحب ولكنّ حياته كانت بالغة القسوة إلى الحدّ الذي قمع نفسه ومارس كبتاً مؤذياً لها حتّى خسر بالتدريج غريزة حبّ الاخرين الكامنة فيه .* إذن هو الكبت وكيف يدمّر حياة الفرد : هذه هي الثيمة الأساسيّة في عملك هذا ؟
– لا أظنّ أنّ الكتّاب يفترض فيهم أن يقدّموا إجابات أو يزيحوا النقاب عن شخصيّات أعمالهم الروائية بالكامل بل يفترض فيهم ، ويتوقّع منهم كذلك أن يصفوا المشكلات ويعرضوها على الملأ وليس عليهم أن يسمّوا تلك المشكلات بل عليهم أن يكتفوا بوصف أثارها المدمّرة وحسب .


* هل تنهض مبكّراً في الصباح لتنصرف إلى الكتابة ؟
– أنهض في السابعة من صباح كلّ يوم وأعمل لساعة أو اثنتين ، وعندما تفرغ زوجتي من إعداد الفطور أتناول فطوري ثمّ أعود للعمل ، وفي وقت متأخّر من بعد الظهر أستطيع القول انّني أنجزت قدراً كافياً ومقبولاً من الكتابة. أتفرّغ في الليل عادةً للقراءة والإجابة على البريد الإلكتروني وأذهب إلى فراشي متاخّراً : ربّما في الساعة الثانية أو الثالثة من بعد منتصف الليل .

* هل تترجم أحياناً أعمالاً ما إلى اللغة الصينيّة ؟

– بدأت مؤخّراً بترجمة أعمالي الشخصيّة إلى الصينيّة وقد تطلّب منّي الأمر وقتاً طويلاً لكي أشرع في ترجمة أعمالي بعد رسوخ قناعتي أنّ من الخطير للغاية قطع جذوري نهائياً مع بيئتي الصينيّة . من الطبيعيّ أنّنا نبتغي احياناً أن نبعد ماضينا ونطرحه بعيداً عنّا : فالحياة رحلة سفر و ليس بمقدورنا أن نحمل كلّ متاعنا فوق كاهلنا إذ تكفي عدّة الرحلة الأساسيّة وحسب ، ولكنّني أدركت في ذات الوقت أنّ انقطاعي النهائي عن جذوري سيثبت أنّه خيار انتحاريّ في المدى البعيد ولابد من موازنة دقيقة بين هذين المطلبين في نهاية المطاف .

* هل ترى فيك كاتباً صينيّاً أم كاتباً صينيّاً – أمريكيّاً ؟
– أراني كاتباً صينيّاً – أمريكيّاً وأرتاح لهذا التوصيف كثيراً ولا أعدّ نفسي منشقّاً dissident ولا منفيّاً بل أنا مهاجر وحسب . المنفيّ لا يستطيع التخلّص من عبء ماضيه ، فهو يعيش دوماً في الماضي ويضطرّ إلى التعريف عن نفسه في إطار لغة سياسيّة ، في حين أنّ المهاجر عليه أن يبدأ حياته الجديدة من الأنقاض بعد أن يطرح ثقل الماضي عنه : بعبارة أخرى فإنّ المهاجر يعيد صياغة الإحداثيّات المرجعيّة التي يبني على أساسها حياته الجديدة في المهجر .
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *