من ذاكرة الأيام / وشم زرقاوي


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
منذ عشرين عاما عبرتُ تلك العتبة للمرة الأخيرة، نحو الرصيف، بعد تسعين صباحا متواصلا من الندى الموسمي الحالم وعبق القاع الأثير المشع من وسط المدينة، تخطيتها واستبدلتُ طريقي بعتبات أخرى، كثيرة، ولم أعد “لطلعة الحايك”… إلا في غمرة الصيف المنصرم.
لا زلت أذكر ذلك المكتب الهندسي العتيق، والذي جمعني بتوفيق ونتالي، شقّه بصالة بنفسجية واسعة في الطابق الثالث، مؤثثة بخزائن حائطية تزدحم فوق أرففها خرائط التصميم الهندسي، وطاولات الرسم المزودة بمساطر شفافة، عريضة، وورق رسم، إلى جانب علب أقلام التحبير العديدة. شرفتها رحبة تطل على بيت عمّاني عريق ومهجور يتربع على السفح المقابل، رحابتها الذهنية أيضا، ترتبط بذكرى “نتالي” الزميلة الرائعة وثرثراتها الركيكة، تُسقطها عمدا فوق رؤوس المّارة، ونحن نضحك في مرح. نافذة المطبخ صغيرة وضيقة، تنقضّ بإطلالة خلفية متربّصه، على سلسلة بيوت طابقية لتطعنها في الظهر، جدران تلك البيوت كانت حجرية لكنها متسخة ترشح بالسواد، هل كانت واجهاتها الأمامية أيضا كذلك؟ وهل كانت تتسلق شارعا مؤديا لمبنى الضمان الاجتماعي؟ لم أعد أذكر.
ما أذكره جيدا، هو تقاسمنا العفوي لتلك النافذة أيضا، حيث سلمتني “نتالي” عندها أغرب هديّة تلقيتها في حياتي، 
سأعاود البحث عن تلك الهدية، حتما، وسوف أستعيدها بكل تأكيد. 
توفيق، المالك الأوحد، أخطبوط العلاقات المتشعبة مع أغلب مكاتب الاستشارات الهندسية الكبرى في عمّان، المنتمي للملكية الأردنية بارتباط لم يفصح عن نوعه، في منتصف عقده الثالث قصير القامة، تغسله بشرة حنطية، وابتسامة مرحة متحفظة، أحيانا. قدّمني في يوميّ الأول لسيّدة ذات ملامح أوروبية شرقية على الأرجح، اسمها “نتالي”، كانت في مطلع عقدها الثالث، تكبرني فقط بسنوات قليلة، جميلة بملامح وقورة، راسخة، تمسك بيد طفلة في عامها المدرسي الأول، على أكثر تقدير.
لم تصافحني السيّدة واكتفت بشحوبها الذي تفشّى في ملامحها لدى رؤيتي، وببعض كلمات عربية ركيكة، جافّه، تدحرجت من حلقها الجاف وهي تبتلع ريقها، وتحتضن وجه الطفلة، بل تدفنه في صدرها، وكأنها تقي الذاكرة البصرية الهشّة للطفلة من تسجيل مشهد لا يحتمل لوحش. 
الصيف الفائت، أي بعد عقديّن كاملين، كنتُ أفتقد لتلك اللافتة المعدنية، المهملة، المعلّقة على خاصرة الطابق الثالث، خطرت ببالي “نتالي” بطيفها القديم المرح، بلكنتها الثقيلة، ولغتها العربية الركيكة، فوق تلك البرندة تحديدا. تذكّرت أشياءً كثيرة بعفوية العابر، حين جذبني الفضول صعودا إلى دوّامة “الدوّار الأول” ماشياً. وإن يكن، فقد فعلتها وصعدت إلى هناك لتسعين مرّة، دون نية أخرى في الوصول إلى ميدان بحد ذاته، وإنما لتلك الصالة البنفسجية، بقصد العمل.
في العاشرة صباحا من كل يوم، يُقبّل توفيق يد الطفلة، مبتسما، يلوّح للسيدة الممتقعة، ثم يؤكد لي قبل خروجه، على عدم عودته، مذكراً إياي بضرورة إغلاق المكتب في الخامسة عصرا، بالمفتاح الذي منحني إياه، كون السيدة تغادر في الواحدة. 
في الأيام الثلاثة الأولى، وما أن يغادر توفيق، حتى تفرّ السيدة بطفلتها، نحو الغرفة الوحيدة، المواجهة للمطبخ، توصد بابها، وتقفله بالمفتاح، لأبقى منكباً على مرسمي في طرف الصالة، وحيدا. أزعجني التصرف، ثم أوقعني في حيرة.
يصلني صوت التلفاز وآلة التسجيل، أصغي إلى ثرثراتها المرحة وهي تلاعب الطفلة، أحيانا. يزاولني ارتياح عميق كلما تبادلن الضحك. أتشجع، أنتهز الفرصة لأستفسر، حول نقطة فنية ما، عالقة، أو مواصفة لها علاقة “بالكود” الأردني في التصميم. أطرق الباب، فيعم الصمت ثم تغرق الغرفة في هدوء يبعث على القلق، بعد وقت قصير تفتح السيدة، محتضنة طفلتها، تطالعني بمحياها المغبر “باصفرار” مباغت يشي بالموت. ولا أدري كيف كان يصعد إلى ذهني مطلع الدرج، وبأنها تفكّر فيه، وحده، وبالهرولة عبره، ثم الفرار.
ها هو مطلع الدرج، ذاته، لم يتبدل، إنما تضاعف امتصاصه للوهج، “الدرابزين” على حاله في استسلامه العبثي، عشرون عاما مضت ولا زال عالقا في الصدأ، يغرز قوائمه المعدنية في البلاط المتسخ، جدرانه الجانبية طُليت حديثا، هذا واضح، وبلون فستقي رخيص، يعشق الغبار وشحار عوادم السيارات من أول نظرة. أطلّ وجه شاب نحيل من ظرفة الباب، بادرته، بأن هذه الشقّة كانت مكتباً هندسياً فيما مضى، فهل ما زالت كذلك؟ رد على الفور هل تقصد “مكتب المهندس توفيق حداد”؟ تشجعت، فأجبت بحماسة، بلى، بلى، هل هو موجود؟ تدارك الشّاب بمرح: لا أبداً، أنا لا أعرفه أصلا، أيضا لستُ متأكداً من هذه الشقّة إن كانت قد تعملقت فعلا على أنقاض مكتب هندسي قديم، أم لا… لكنني قد حفظت الاسم لكثرة السؤال عنه.
بعد ثلاثة أيام عصيبة، كدتُ أفقد فيها ملامحي، وثقتي الراسخة بجذوري البشرية، وأنا أتأمل وجهي، أفزعني التأويل المحتمل لرعب الملامح، والذي من شأنه أن يكون مستترا، لا يراه إلا كل ذي بصيرة نافذة، ربما تلك السيّدة ترى بعين أكثر عمقا، من صاحب المكتب.
قررت التخلي عن فرصتي في العمل، وأفضيت لصاحب العمل، بالدافع الوحيد، والذي يتلخص حول عمق البصيرة لزوجته، وأن عليه أن يأخذ ما تراه على محمل الجد، ربما يكون ما تحمله قلقا مفرطا، هذا صحيح، قلت له، لكنه مبرر، بكل تأكيد. 
كنّا نجلس في غرفة المكتب، حين انفجر توفيق ضاحكا وغاب لبرهة عن وعيه في موجات متتالية أخرى من الضحك الهستيري، ثم تمالك نفسه ليرد: هي ليست زوجتي بالطبع، هي مهندسة كهرباء، ويفترض بها التواجد على المرسم الآخر بجانبك…كزميلة، انتظر لحظة. صاح في تحبب: ناتالي، لحظة من فضلك. طلب منّي راجيا، أن أكشف عن ساعديّ، وعن كتفيّ أيضاً أمامها، ففعلت وفي نيتي الرحيل عن هذا المكتب المجنون بأسرع ما يمكن، إن تمكّنتُ من هذا.
ثم التفتَ توفيق إلى نتالي وقال جاداً: قلتُ لكِ مسبقا، لا وشم “زرقاوي” أو ندبة لديه. الحكم بهذا الشّكل على مدينة بأكملها أمر مجحف وغير منطقي.
مرّت أسابيع كثيرة، كنتُ فيها أنا ونتالي نتقاسم أوقات الفراغ مناصفة في فضاء المكتب المترامي، نردمه بالمزاح والتندر، بلكنتها العربية المجنحة بلغة عامية ركيكة، نتقاسم الشّاي الذي تعدّه في المطبخ، وإطلالة النافذة الصغيرة، الغدّارة، كذلك الشّرفة. نتالي “أوكرانية” متزوجة بأردني كان زميلا لها أثناء الدراسة الجامعية في “كييف” أحبّا بعضهما ثم تزوجا. 
تتنصل في حياء بعد ضحكة عالية وهزّة من رأسها كلما تطرقنا للبدايات، تثب مقطبة وهي تقول مبررة: زوجي مُدان، هو من زرع في رأسي تلك الأفكار السوداء عن الزرقاء.
بعد تسعين يوما، ودّعتهم جميعا، ورحلت، قبل سفري بأيام، تذكّرت الهديّة التي أصّرت نتالي أن أحتفظ بها للذكرى، كانت علبة معدنية مستطيلة، سوداء كتيمة، فتحتها وأخذت أضحك بدوري، كانت عبارة عن مدية أنيقة بمقبض من العظم، كنّا نسميها مجازا، نحن أبناء المدينة، مدينة الزرقاء تحديداً… “موس كبّاس”.
______________
*قاص أردني

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *