*د. أسعد أحمد السعود
أولاً: التعريف بضيف الحوار:
من هو سيزيف؟ تقول الميثولوجيا اليونانية؛ وهي مجموعة الفنون عامة التي اهتمَّت بتأصيل النتاج الإنساني وتدوينه؛ من رواية وشِعر ومسرح، ونَحْت ورسم، وطبٍّ واجتماع وفلسفة، وحتى عِلم الفلك والهندسة والصناعة وما يتبع كلَّ ذلك، اجتمع كله تحت مسمَّى التاريخ العالمي (ميثولوجيا).
ولعلَّ أهم ما فيها هو الأساطير أو الرواية التي أخذَت طابعًا خاصًّا في التاريخ اليوناني القديم؛ حيث اشتهرَت بحَبْكتها الأدبية المقرونة بالفلسفة والممزوجة بالدِّين والأخلاق عامَّة، مستخدِمة القصَص والحكايات الشعبيَّة الخرافية وتعميقها ورَبْط مصائر وحياة الناس بها.
و”سيزيف” بطل إحدى تلك الأساطير، أو هو الأسطورة كلها؛ فقد اشتهرَت وانتشرَت انتشارًا واسعًا (أسطورة سيزيف) في التراث الفكري الإنساني (الحضاري) الحالي، وأصبح يُضرَب به المثل في (عدم الجدوى) للفِعل المتكرِّر؛ إن كان بعِلمِ مَن يقوم به، أو مِن غير علم.
ولأهمية موضوعه أساسًا؛ حيث استُخدم في بناء كثير من التيارات الفكرية وحتى (الدينية) رغم مبدأ (إلحاديَّته) أولاً، وثانيًا لمرجعيَّته الحقيقية في القصص القرآني في الخليقة الأولى، وتشابُهِ كثير من أحداث أسطورة سيزيف ببعضٍ من ذلك الخلق… فلِهَذا – وبعد الاستعانة بالله تبارك وتعالى – ارتأيتُ أن أقدِّم هذه الرؤيا في شكلِ هذا الحوار الافتراضي.
ثانيًا: خطوط عريضة مؤشرة على نقاط التشابه:
• قرأتُ عن أسطورة سيزيف، وقرأت عن التي ﴿ نَقَضَتْ غَزْلَهَا ﴾ [النحل: 92].
• وقرأتُ آيات الله المباركات في سورة النور العظيمة، ومنها: (39 – 40).
• وقرأتُ عن هذا الذي يحمل شقاء الدنيا ووِزر آثامها؛ ليصعد بها إلى قمَّة المجد والتاريخ، ثم لا يلبث أن يجد نفسَه وقد كرَّ إلى حيث ابتدأ؛ إمَّا بعدم توفُّر القوة الكافية، وإمَّا بعدم توفر العافية، وإما بعدم توفُّر الأسباب الناجعة للنجاح؛ ﴿ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴾ [الطارق: 10].
ثالثًا: نص الحوار:
المحاور: أنا إنسان…، من أنت؟
سيزيف: أنا ابن عائلة ملوك قريبة من الآلهة!
المحاور: أين تعيش هذه العائلة أو الآلهة؟
سيزيف: هنا.. بيننا منذ الأزل.
المحاور: هل أنت وَهْم أم حقيقة؟
سيزيف: أنا حقيقة الإنسان منذ الأزل.
المحاور: كيف توصلتَ إلى هذا اليقين وتفردتَ به، ولست بإلَه؟
سيزيف: من أجل أن أمنع الموتَ من نظام الحياة في الخلق.
المحاور: يصبح الإنسان خالدًا! كذلك الآلهة؟
سيزيف: بعدما تغلبتُ على إله الموت (تانتوس)، لم يعد الموت قائمًا، وقد نشبَت حروب ضخمة بعدها لم يمت فيها أحد، ولم يكن فيها نصر أو خسارة.
المحاور: اذًا أين الجدوى من ذلك؟
سيزيف: التمتُّع والسعادة بالحياة أبديًّا.
المحاور: جمعتَ كلَّ التناقضات: غياب الموت، محاربة الفضيلة، والسعادة!
سيزيف: غياب الموت وحده هو السعادة!
المحاور: ولماذا غضب (أريس) (إله الحرب) ورفع شكواه للإله الأكبر (زيوس)، فعاقبك بحَمْل حجارة ضخمة تصعد بها إلى أعلى الجبل، فإذا ما وصلتَ تدحرَجَت الحجارة إلى الأسفل، وتعود تحملها الكرَّة تلو الكرة وهكذا إلى الأبد؟ فأنت لم تمت، والإله تانتوس رجع إلى عمله!
سيزيف: أبقاني زيوس للعبرة، والإنسان العادي يموتُ ولا ينال ثمرةَ أو مكافأة جهده أو عمله.
المحاور: يعلِّق بعض فلاسفة الإنسان على أسطورتك قائلين: لماذا حياة الإنسان إذًا وهو محكوم عليه بالموت والزوال؟ إذًا حياتنا عبثية؟
سيزيف: ذلك لأنَّهم لم يروا أو لم يعتقدوا بالعالم العلوي ولا العالم السفلِي.
المحاور: وهل ترى أن الإنسان يرى العالمين بعد موته، وهو لا يستطيع الرجوعَ إلى الحياة ليخبر الإنسانَ الحيَّ بما يراه، وبالتالي تتوقف عقوبتك؟
سيزيف: كنتُ أريد أن يعيش الإنسان عالَمًا واحدًا كما قلتُ لك، خالدًا فيه مهما كان وضعه، وحدوث الموت في حدِّ ذاته يعني إمَّا تأكيدَ ما كان يعتقدُه أو تفنيدَه!
المحاور: لماذا استعملتَ ذكاءك وحنكتَك إذًا في محاربة (الفضيلة) و(السلم) في حياة الناس، وليس العكس؟
سيزيف: ليس للفضيلة والسلم طعمٌ أو لذَّة، والناس فيها غير معذَّبين ولا مستضعفين!
المحاور: ولهذا عاقبك زيوس بالعذاب والشقاء والضنك أبديًّا؟
سيزيف: وهذه حقيقة وعبرة الإنسان.
المحاور: بعض من الإنسان أخذ هذه العبرة ونسج منها عقيدة فلسفية، وجعلها مذهبًا ودينًا، وأنكر الفضيلةَ والنعمة والسلم في حياته، وأعلن أنه لا يريد شيئًا اسمه (الجنة)! (وهو لم يرها بعد)؛ لأنه ليس فيها تعبٌ ولا شقاء، ويفضِّل عليها (الجحيم)! (ولم يرَه بعدُ كذلك)، مثل حياتك الآن أو مثل عقوبتك، فما قولك؟
سيزيف: كنت أريد الخلودَ للإنسان وليس العذاب والشقاء، فخالفتُ إرادة زيوس، وعاقبني بالخلود في استمرار العذاب، أمَّا الإنسان فعبرته من الموت الذي حُتِّم عليه؛ فإمَّا أن يختار العذاب، أو الفضيلة والسلم.
المحاور: فطنتَ إلى ذكائك ومكانتك، فوظَّفتَهما في محاربة الفضيلة، فهل كنتَ تعرف أنَّ الإنسان كذلك ذكي وقوي، وربَّما يُكثر من الفضيلة، وبالتالي ينجو من العذاب، أم أنَّك كنتَ تعرف غير هذا فكتمتَه؟
سيزيف (صمَت.. لم يُجب).
المحاور: هل ترغب في تغيير نمط الحوار؟
سيزيف: لا أملك القدرة على التغيير؛ فأنا أعيش بنمط واحد، ولا أفكِّر أبدًا.
المحاور: حسنًا، أريد أن أقول شيئًا آخَر، ربَّما يكون مُثارًا لتتمة الحوار…
سيزيف: ليس لي قدرةٌ أن أقول: حسَن أم غير حسن، أكمِل!
المحاور: قرأت في (الكتاب المبارك) – ويعني المحاوِر: القرآن العظيم – قولاً يَصِف مخلوقًا بأعماله ودهائه، يشبهك فيها تمامًا!
سيزيف: لا أعرف أحدًا غيري في الدنيا كلِّها! هل لك أن تقول لي كيف؟
المحاور: يصفه الكتاب الكريم أنَّه ذكيٌّ جدًّا وقوي جدًّا، يحارب الفضيلة، ويَعمل دائمًا على إثارة الفِتَن والحروب، ويشجِّع على مخالفة أوامر الإله الأوحد، ويُغري الإنسان دائمًا بأنَّ له الحياةَ الخالدة ولا عذاب فيها، وأنَّ له الجنة في العالَم العلوي، وكذلك يَصِفه بأنَّه غير سعيد ويعيش في العذاب الدائم في الحياة والعالم السفلي!
سيزيف: هذا يشبهني تمامًا، هل له اسم أو لقب؟
المحاور: الشيطان!
سيزيف: وممَّن هو؟ أقصِد ما هي عائلته؟
المحاور: ليس من الإنسان، وليس من الملائكة، وقد خلقه الإله الأوحد مثل بقيَّة المخلوقات الأخرى!
سيزيف: غريب هذا الذي تقوله! وماذا أيضًا؟
المحاور: أنت لَستَ من الملائكة، ولا تشبه الإنسان! ولكن تشبه الملائكةَ في عالمهم، وتشبه الإنسان في أعمالهم!
سيزيف: كأنك تريد أن تقول شيئًا مهمًّا!
المحاور: نعم أنت ذكيٌّ جدًّا، أنت.. أنت الشيطان ذاته!
سيزيف: كيف؟
المحاور: نحن نتحدَّث عنك ونرى أفعالك ولا نراك! ونضرب بها المثل، ويقول الإله الأوحد في كتابه الكريم: إنَّك ترانا وتشاركنا أفعال الخطيئة كلَّها.
سيزيف: الذي يعرفني في كِلا العالمين العلوي والسفلي هو زيوس!
المحاور: لعلَّ زيوس قيَّدك بتنفيذ العقوبة، وجعل خوفَك كذلك سياجًا أو سورًا، حتى لا تهرب وتعود لتمرُّدك.
سيزيف: وهل هذا الذي تقول عنه: إنَّه هو أنا يخضع لمثل عقوبتي؟
المحاور: إلى حدٍّ بعيد وبإطارها العام تشبهها تمامًا، ولكن هناك إجراءات تفصيلية جعلها الإله الأوحد (الله) متعلِّقة بحياة الإنسان حصريًّا؛ ذلك لكونه يعيش في عالَم الحياة الدنيا من أجل عبادته الدائمة، ويذكِّره خلال حياته وقبل موته ألاَّ يَحيد عنها إلى عبادة غيره أبدًا!
سيزيف: وما هذه العلاقة بين هذا الشيطان والإنسان في الحياة، وقد ذكَرتَ أنَّه معاقَب؟
المحاور: أولاً: يحاول الشيطان أن يرجِع إلى العالَم العلوِي الذي كان فيه باستمرار، فيمنعه حرَس السماء فيرجمونه ويعود أدراجه.
ثانيًا: يحاول الشيطان أن يُغري الإنسانَ بأشياء مخلوقة بشكلٍ دائم، ويَشْغل سلوكه وعمله وتفكيره، وبالتالي ينسى إلهَه فلا يُخلِص له ولا يعبده.
سيزيف: هذا الشيطان، فكيف أنا أشبهه في هذه؟
المحاور: كما تقول سيرةُ حياتك، وكما نرى نحن في زماننا وكل زمان، أنَّ الإنسان هو الذي يحاول باستمرار أن يتَّخذ مِنك جزءًا أو عبرةً من سيرتك – ويعمِّقها في تفكيره وسلوكه، فيَجعل منها بديلاً؛ ليبتعد عن عبادة الإله (الله).
سيزيف: مِن حيث لا أدري؟ وهل أصبح إلهًا بهذه المحاولات من الإنسان؟
المحاور: تقريبًا ومن غير إعلان، ولكن الفعل حقيقة!
سيزيف: إذًا سأنال عقوبة ثانية من الإله (الله)، إضافة لما أنا فيه!
المحاور: سأتلو ممَّا جاء في كتاب الإله الأوحد (القرآن العظيم) بخصوصك وخصوص الشيطان ومَن اتَّبعه واتبعك…
المحاور يقرأ من سورة مريم المباركة: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ﴾ [مريم: 81 – 84].
وهنا تعود الصورة إلى واقعها ويدوِّن المحاور حوارَه الافتراضي، ليقرأه آخَرون؛ علَّ فيه صوابًا ينال مِنه أجرًا، وإذا لم يكن فهي فِكرة يقدِّمها لمن يجد في نفسه الرَّغبة في إضافة شيءٍ ما عليها، وتقديمها بوجهٍ آخر، والله من وراء القصد.
_____
*الألوكة الثقافية