حوار مع أدواردو غاليانو (2)


*ترجمة: لطفية الدليمي
القسم الثاني

ابتدأ غاليانو عهدا جديدا في جهده الأدبي و الثقافي بنشره ثلاثيته المبهرة المعنونة ” ذاكرة النار ” التي نشرتها دار نشر بانثيون بين أعوام 1985 – 1988 و لا يزال يعد العمل الأثير بين أعمال غاليانو . تمثل ” ذاكرة النار ” نوعا من التاريخ السري المسكوت عنه في الأمريكتين ،إذ نلتقي فيها مئات من الأرواح التي أعيد بعثها من شعراء و رؤيويين ودكتاتوريين و رقيق و هي جنس مشتبك من عمل أدبي يجمع بين الرواية و شذرات من الشعر و الفلكلور و كتب الرحلات المنسية و التواريخ الكونية و المذكرات النبوئية و تقارير منظمة العفو الدولية “
(للمزيد من المعلومات عن الكاتب يراجع القسم الأول من الحوار في ثقافية المدى)
× في كتابك المثير ” ذاكرة النار ” كتبت مطولا عن “غابرييل غارسيا ماركيز” و “سيزار فاييخو ” و كذلك عن ” بابلو نيرودا ” بتخصيص أكبر ، مقابل مقطع قصير واحد عن “خورخي لويس بورخس ” جاء في سياق إشارتك إلى عام 1935 تحت مدخل الاسم ” بوينس آيرس ” . كيف تعلق على هذه المسالة ؟
– عندما كان نيرودا يؤدي واجباته كعضو في الحزب الشيوعي و كرجل ميليشيا في التنظيمات الشعبية المسلحة كتب أسوأ قصائده كتلك الطافحة بالولاء إلى ستالين أو أشياء مثل هذه . كتب نيرودا أسوا مقاطع عمله المسمى ” Canto General ” عندما كان واقعا تحت تأثير تلك المؤثرات لكنه بذات الوقت كتب أفضل المقاطع في العمل نفسه عندما تحرر من السطوة الستالينية .و كان ببساطة يغني للسعادة و الرعب و للبهجة و السخرية الكامنة في حقيقة كونه مولودا في أمريكا اللاتينية . بورخس في الجانب الآخر لم يشغل أية مكانة في قلبي أبدا و لا أشعر بتلك الكهربائية الدافقة بالحياة في أعماله . أقدر كثيرا أسلوبه و حذقه و رفقته وهو مثقف كبير قطعا لكني أراه رجلا بمحض رأس و لا شيء غيره ، لا قلب ، لا جنس ، لا معدة ، رأس وحسب ، رأس لامع في غاية الذكاء حسب ، أراه أيضا نخبويا غارقا في نخبويته و عنصريا و نكوصيا يعتاش على حنينه الدائم و الممض للدكتاتوريين العسكريين ،مثل جنرال فيديلا في الأرجنتين و جنرال بينوشيت في شيلي ، حقا لا أشعر بأي قرب تجاهه و هو بالنسبة لي محض مثقف قابع في مكتبة . كان نيرودا مهموما بالعالم من حوله في هيئة مختلفة تماما عن بورخيس و نرى في قصائده احتفاء بالحياة و الفاكهة و البحر و الحب .
× هل تقول إن نيرودا كان كاتبا أفضل من بورخيس بسبب ميوله السياسية اليسارية ؟ لا يبدو المقطع الخاص ببورخيس في ” ذاكرة النار ” سخيا كحال نظيره المكتظ بتوصيفاتك المفرطة في حق نيرودا ؟
_ ربما يكون صحيحا أنني كنت في ذلك الكتاب اكثر كرما مع نيرودا بالقياس لما فعلت مع بورخس ، لكن ليس بسبب أية التزامات سياسية لأي منهما أبدا . في كل مرة قرأت فيها نيرودا أشعر بأن هناك أحدا ما يعيش أهوال الحياة و مباهجها و كان يكبو مرة ويعود ليقف بعدها ثانية و كان أيضا ذا حساسية مفرطة تجاه موضوعات الحب و الزمن و الموت . أشعر دوما بأن كهربائية من نوع ما للحياة تربض دوما في قلب أعمال نيرودا و تفتقدها اغلب أعمال بورخس ، لكن هذا لا يمنع من القول إنني احس أحيانا شيئا من هذه الكهربائية المبهجة في بعض من أعمال بورخس لكنني اشعر بها بطريقة مؤلمة : كشيء حزين يبعث على الأسى الدفين لكنها مفيدة للغاية أيضا .
× جيل كامل من كتاب أمريكا اللاتينية و الكتاب الإيبيريين ” إسبان وبرتغاليون – المترجمة ” قد شاخ الآن : غارسيا ماركيز ، ساراماغو ، كارلوس فوينتس ، مانويل فاسكيز مونتالبان وآخرون غيرهم . هل تتوقع ان الجيل القادم من كتاب أمريكا اللاتينية سيشاطرون هؤلاء الكتاب رؤيتهم السياسية ؟ هل ترى إمكانية أن يتعاطف أحدهم مثلا مع الثورة الكوبية مثلما فعل غارسيا ماركيز؟
– في ما يتعلق بفعل النبوءة فأنا كارثي تماما و لطالما تنبأت بأشياء و سارت الأمور في اتجاهات معكوسة بالكامل ،و لو حصل و أن عملت نبوئيا لانتهيت شحاذا بائسا واقفا بباب كنيسة يتوسل صدقة من دولار واحد لا أكثر، لذا أعترف بأنني لا أعرف كيف سيكون سلوك الجيل القادم من كتاب أمريكا اللاتينية ،لكن ما أعرفه تماما و أثق فيه هو ان هناك حراكا غاية في النشاط لقص أجنحة الأنشطة السياسية و الانزواء بعيدا عن أي حراك سياسي ديناميكي .و تلك هي الحقيقة العارية كما أراها فقد تراجع الوعي السياسي للشعوب – و لا أقصد هنا الكتاب منهم – و لكن التاريخ يتحرك بحلقات كما ترى و القناعات الراسخة تتبدل دوما . الحقيقة كما أراها ليست قدرا بل تحديا و لست أعرف تماما كيف سيكون حال الحراك السياسي مع الجيل الأكثر شبابا من الشعوب اللاتينية . في ما يخص الكتاب بالتحديد فأرى أن عليهم دوما ان يكونوا أشخاصا صادقين لا يستخدمون الأدب وسيلة للمرابحة التجارية بل وسيلة للتعبير عن الكلمات التي يجب ان تقال ،و هذا بالنسبة لي موقف أساسي و حاسم للغاية ، و الكلمات التي تستحق ان تقال هي التي تولد من الحاجة لقول تلك الكلمات تحديدا و هو كل ما أطلب إلى الكتاب ان يفعلوه ،أما ما عدا ذلك فهو شيء أقل أهمية . قابلت كثيرا من كتاب الجناح اليساري ذوي النيات الفضلى في العالم لكني وجدت أنهم لم يخبروني بأي شيء عميق عن الإنسانية و تيقنت لاحقا ان كثرة من الكتاب لا يبدو انهم يدركون صلاحية كل شيء وإمكانية أي شيء لكتابة موضوع : ذبابة تطن في الهواء ، و لاعة سكائر ، نافذة ، صوت وقع خطى على أرضية غرفة ، لكن الأهم من كل هذا و يتقدم عليه هو ان تكون لك وجهة نظر محددة لما تريد الكتابة عنه .
× لكنك عندما كتبت ” الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية ” قبل ثلاثين سنة لم يكن احد ليظن انك كنت تهدف لوصف جمال فراشة قدر ما أردت توثيق الأفعال الإمبريالية للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية ؟
_ نعم هذا كان واقع الحال قبل ثلاثين سنة عندما كنت أصارع أسئلة و أبحث عن إجابات لها . عندما توصف البلدان المتخلفة بأنها بلدان نامية فذلك يحيل فورا إلى صورة الأطفال و كيف ينمون و تلك كذبة خرقاء لأن البلدان المتخلفة ما صارت متخلفة إلا لأن البلدان الأكثر قوة وقدرة تحرز النمو على حسابها . إن تخلف العالم الثالث احد التداعيات الخطرة لنمو العالم الأول و لم يكن أبدا طورا في مرحلة انتقال العالم الثالث ليكون هو عالما أولا أيضا في يوم ما حتى و لو كان ذلك اليوم بعيدا و تلك هي الموضوعة الرئيسية التي اعتمدتها في كتابي ” الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية ” و خلصت فيه إلى أن تاريخ الوفرة و تاريخ الفقر متلازمان و محبوكان معا و جاهدت لبيان ان هذا التخلف هو نتيجة منطقية لخمسة قرون من الإمبريالية الأمريكية ،و لكن هذا أيضا مجرد جزء من القصة و ليست القصة كاملة . كتبت كتابي ” الأوردة المفتوحة ” ليكون كراسا سياسيا و كنت أتوقع لتأثيره المتخيل ان يدوم سنتين أو ثلاثاً لكنه اثبت و على غير توقع مني انه كتاب يدوم اكثر بكثير مما توقعت و أريد ان أقول وبخلاصة محددة : يمكن القول ان كتاب” الأوردة المفتوحة ” هو كتاب بروباغاندا لكنني حاولت في فترات لاحقة له ان اكتب أشياء مختلفة حتى لا أكرر نفسي فكتبت ” انزياح الأعلى إلى الأسفل : Upside Down ” بلغة مختلفة تماما عن لغة ” الأوردة المفتوحة ” لكنني كنت مخلصا للأفكار المبثوثة في الكتابين.
× يعد كتابك ” الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية ” أحد الكلاسيكيات الراسخة في أمريكا اللاتينية . كم نسخة بيعت منه كما تعتقد ؟
– لا أهتم لأي شيء من هذا .
× لكن الكتاب يهتمون في العادة لأرقام مبيعات كتبهم ؟
– يكفيني تماما أنني أحصل على ما يقيم أودي ككاتب . أرى في عملي جهدا صادقا لا أؤديه بقصد ان أكون غنيا بل لان هناك ثمة أشياء أحتاج لقولها من خلال الكتابة و بعد كل هذا لا أهتم لأرقام مبيعات كتبي أو اذا ما كانت ضمن قائمة الكتب الأفضل مبيعا في العالم .
× من هم الكتاب و المثقفون الأمريكان الذين تعجب بهم أكثر من الآخرين ؟
– لا أريد الإجابة عن سؤال كهذا، هناك الكثير ممن اعجب بهم و يمكنني هنا ان أعدد بعضهم حسب : مارك توين ، أمبروز بيرس ، كارسون ماك كولرز ، وليم فوكنر ، جي. دي. سالينجر.
× في مقدمته لكتابه الأول المعنون ” ملاحظات ابن مواطن أصيل Notes of a Native Son ” يعلن جيمس بالدوين : ” أريد ان أكون رجلا صادقا و كاتبا جيدا ” . أي نوع من الرجال ومن الكتاب تطمح لأن تكون ؟
— أطمح لأن أكون رجلا صادقا و كاتبا جيدا بالضبط كما طمح جيمس بالدوين الذي أعجبت به إعجابا عظيما عندما قرأته . ذكرت مرة في الجزء الثالث من كتابي ” ذاكرة النار ” قصة أخذتها عن جيمس بالدوين يروي فيها عندما كان يافعا ذات مرة و هو يتمشى في الشارع مع صديق له يعمل رساما و عندما توقف أمام ضوء أحمر ناداه صديقه ” انظر ” فنظر بالدوين و لم ير أمامه سوى مستنقع من المياه الآسنة و عندماألح عليه صديقه في تدقيق النظر إلى تلك المياه الآسنة رأى بالدوين بقعة صغيرة تتخبط وسط تلك المياه و في وسط البقعة يتلألأ قوس قزح و رأى في تلك البقعة انعكاس المارة بكل ألوانهم وأصنافهم يمرقون في تلك البقعة الآسنة . في ذلك اليوم يقول بالدوين انه تعلم كيف يرى العالم . بالنسبة لي أرى في هذا درسا عظيم الأهمية : أحاول دوما أن أرى الكون بأكمله من خلال أشياء صغيرة تتخبط في الطرقات.
_________
*المدى

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *