حوار مع ايتالو كالفينو/ق2


*ترجمة: لطفية الدليمي

لمعلومات أوسع عن ايتالو كالفينو – يرجى مراجعة موضوع 

“ساحر المدن اللامرئية ومخترق التخوم القصية للسرد : بورتريت لإيتالو كالفينو”
الحوار
× متى تخليت عن الكتابة للمسرح؟
– بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن في المسرح الايطالي نماذج واعدة في وقت كانت الرواية تشهد فيه انطلاقة متفجرة لذا عكفت على كتابة القصة ثم بدأت بعدها بكتابة الرواية و تلك محض اليات عقلية في كيفية التعبير عن ذاتك و املك طريقتي في كتابة النثر و هي أقرب لما يفعله الشاعر عندما يكتب قصيدة و لست من ذلك النوع الذي يكتب روايات طويلة بل اضغط فكرة او تجربة ما في نص تركيبي قصير يقف في النهاية مع غيره من النصوص القصيرة لتكون في النهاية سلسلة .
أعير اهتماما كبيرا جدا للتعابير و الكلمات معا و أدقق في ايقاعاتها و اصواتها و الصور التي تحفزها في القارئ . أرى مثلا ان كتاب ( مدن لا مرئية ) يقع في منزلة بين الشعر و الرواية .
× هل ترى ان شباب اليوم يمتلك سمات ٍ مختلفة عن تلك التي كانت لجيلكم ؟
_ يحصل بين الحين و الآخر ان اغضب لدرجة الجنون بشأن الجيل الشاب و لكن لم يحصل ان القيت مواعظ في أي محفل شبابي لأنني لا أطيق الوعظ كما ان أحدا لن يستمع لي . لا بد ان شيئا ما قد حصل بين جيلي و جيل الشباب محدثا انقطاعا في استمرارية التجربة و ربما كان هذا بسبب افتقادنا الى نقاط التقاء مرجعية و لكن علي القول انني عندما كنت شابا لم القِ بالا أبدا لأي نقد او توبيخ لذا لا أجدني املك الحق في نقد او توبيخ الشباب اليوم .
× هل الروائيون ملفقو أكاذيب ؟ و اذا لم تكن تراهم هكذا فعن أي نوع من الحقيقة يكتبون ؟
– الروائيون يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في أعماق كل كذبة ، و بالنسبة للروائي كما للمحلل النفسي ليس بالأمر المهم النظر فيما اذا كنت تقول صدقا او كذبا لان الأكاذيب يمكن لها ان تكون ممتعة و بليغة و كاشفة ، شأنها شأن أية حقيقة ندعي قولها بصدق. لدي شكوكي الكبيرة تجاه الكتاب الذين يدعون قول الحقيقة الكاملة عن أنفسهم و عن الحياة و العالم بأسره و أفضل البقاء في جانب الكتاب الذين يحكون عن الحقيقة و هم يكشفون عن ذواتهم باعتبارهم اعظم الكذابين في العالم ، ففي عملي ( لو أن مسافرا في ليلة شتاء ) على سبيل المثال ، و هي رواية مؤسسة بالكامل على الفانتازيا ، كان هدفي ان أتحدث عن حقيقة لم يكن بوسعي أن أرويها بأية طريقة أخرى .
× هل ترى ان الكتاب يكتبون ما يتمكنون من كتابته ام ما ينبغي لهم كتابته ؟
– الكتاب يكتبون في العادة ما يستطيعون ، لأن لفعل الكتابة وظيفة تكون مؤثرة متى ما اتاح لها المرء أن تعبر عن عالمه الداخلي . يعاني الكاتب غالبا من محددات عديدة : محددات أدبية مثل عدد السطور في السوناتا الغنائية او قواعد التراجيديا الكلاسيكية و ثمة محددات اجتماعية تستوجبها انشغالات دينية او اخلاقية او فلسفية أو سياسية و مع أن هذه المحددات لا يمكن فرضها مباشرة على الكاتب لكن لابد له من ( فلترتها ) عبر ذاته الجوانية .
× هل كان لـ ( جويس ) أو غيره من الكتاب المحدثين من تأثير ما عليك ؟
– المؤلف المفضل لي بين المحدثين هو كافكا و الرواية المعاصرة المفضلة لي هي ( اميركا ) .
× تبدو اقرب الى الكتاب الذين يكتبون بالانكليزية : كونراد و جيمس و ستيفنسون اكثر من الكتاب الذين يكتبون النثر الايطالي التقليدي . هل ترى الامر هكذا ؟
– لطالما رأيت نفسي مشدودا الى ( جياكومو ليوباردي ) فإضافة إلى أنه شاعر لامع فهو كاتب ممتاز و يكتب نثرا عظيما مفعما بالفكاهة و الخيال و العمق .
× كيف رأيت العمل مع ناشرك الايطالي (اينودي Einaudi)؟ هل عطل شيئا من قدرتك الابداعية ؟
– إينودي ناشر متخصص في التاريخ و الفلسفة و اللغة و العلم و السوسيولوجيا و الكلاسيكيات و تحتل الرواية مؤخرة قائمة منشوراته لذا فان العمل لدى اينودي كان بمثابة العيش في عالم موسوعي.
× يبدو صراع الانسان مع العالم حوله وهو ويحاول ان يرى النظام وسط الفوضى ، ثيمة رئيسية في الكثير من اعمالك ، أذكر هنا خاصة ما ورد في كتابك ( لو ان مسافرا في ليلة شتاء ) الذي يحاول قارئه ان يفكك أسرار الفصل الذي يلي كل فصل يقرؤه؟
– الصراع بين الخيارات التي يفرضها العالم مع نزوع الانسان المتواصل و المسكون بفكرة ايجاد معنى ما في هذه الخيارات هو نموذج لما يتردد غالبا في كل ما اكتب.
× تتقلب في كتاباتك بين نمطي الكتابة الواقعية و الفنتازيا . هل تهوى الاثنين بنفس القدر ؟
– عندما اكتب كتابا هو نتاج اشتغال كامل للكشف الشخصي اجد في نفسي لهفة و توقا عظيمين لاستخدام لغة الحياة اليومية جنبا الى جنب مع نشاطاتي و افكاري و لكن عندما اكتب شيئا يميل الى الجانب السيري Autobiographical و أرى نفسي مقيدا الى الخصوصيات الدقيقة للحياة اليومية حينها تكون لهفتي الى لغة ليست لها روابط واضحة مع جوانب كينونتي الذاتية وتكون اكثر قدرة في اداء الغرض المطلوب .
× كيف استقبلت اعمالك في امريكا؟
– مدن لامرئية ” هو عملي الذي حظي بأكثر المعجبين هناك رغم انه و لدهشتي ليس واحدا من كتبي السهلة فهو ليس رواية بل مجموعة قصائد في قالب نثري . كتابي الاخر ” حكايات فلكلورية ايطالية ” كان قصة نجاح اخرى في امريكا بعد ان ظهرت ترجمته الانكليزية الكاملة عقب خمس و عشرين سنة من نشره بالايطالية . كان نجاح ” مدن لامرئية ” نخبويا أذ امتدحه محبو الادب و الطبقة المثقفة بينما كان نجاح الحكايات اكثر جماهيرية . في الولايات المتحدة تبدو صورتي كاتبا للفنتازيا و الحكايات .
× هل ترى ان أوروبا قد تسيدتها الثقافتان البريطانية و الامريكية؟
– لا ليست لدي أية ردود أفعال شوفينية بخصوص هذه المسألة . ان معرفة الثقافات الاجنبية عنصر حيوي في أية ثقافة وارى أننا لا يمكن ان نرتوي من هذه المعرفة يوما ما ، و ينبغي لكل حضارة ان تبقي أبوابها مفتوحة لكل التأثيرات الثقافية اذا ما ارادت ان تحافظ على توقد شعلتها الابداعية . في ايطاليا كان المركب الحضاري الفاعل في الأغلب هو الأدب الفرنسي مع ان الأدب الامريكي ترك بصمته علي طوال حياتي . ( ادغارالان بو ) كان واحدا من اهتماماتي المبكرة و علمني ما هي الرواية ثم اكتشفت لاحقا أن ( هوثورن ) أعظم منه، و في سنوات ارتقائي الادبي مبكرا في الاربعينات كان الادباء المهيمنون هم : همنغواي و فوكنر و فيتزجيرالد و كان لنا في ايطاليا على الدوام ولع شديد بالأدب الأمريكي حتى ان مؤلفين أقل قامة من السابقين ( من أمثال سارويان و كالدويل ) كان ينظر لهم على انهم نماذج تصلح للاقتداء في الاسلوب رغم ظهور نابوكوف لاحقا الذي أكن له – و لا أزال – قدرا كبيرا من الاعجاب .
× في الايام الحرجة الاولى بعد الحرب العالمية الثانية مكثت بشكل متواصل في ايطاليا و لم نر انعكاسا للأوضاع السياسية في رواياتك باستثناء روايتك القصيرة ( المراقب The Watcher ) مع أنك كنت شخصا منغمسا في السياسة . ما تقول في هذا ؟
– كنت في السنوات اللاحقة للحرب أرمي الى استيعاب معاني المعاناة و الجروح البليغة التي احدثتها في نفسي سنوات الحرب و بخاصة بعد الاحتلال الالماني لايطاليا لذا انغمرت كشاب في العمل السياسي و انضممت الى الحزب الشيوعي الايطالي و الذي أراه مختلفا عن كل الاحزاب الشيوعية في بلدان أخرى، ثم ادركت لاحقا و بصورة متعاظمة صعوبة تحقيق فكرة إقامة ديمقراطية حقيقية في ايطاليا باستخدام النموذج – او لنقل الاسطورة – السوفيتي و قد نمت القطيعة داخلي حتى وجدتني اقطع كل صلاتي مع الشيوعية و من بعدها السياسة و كان هذا لحسن حظي فانا ارى اليوم اننا نرتكب خطا جسيما بوضع الأدب في مقام بعد السياسة لان الاخيرة تفشل دوما في انجاز اهدافها في حين ان الأدب ينجح على الاقل في أنجاز شيء ما و يمكن ان يكون له في المدى البعيد شيء من تاثير عملي.
بت ادرك الآن ان الأهداف الثمينة في الحياة لا يمكن إنجازها الا عبر صيرورات بطيئة للغاية .
× تنتمي لبلد كتب كل من كتابه الكبار للسينما أو حتى قام بإخراج فلم سينمائي بينما تبدو انت مقاوما لغواية السينما . لماذا و كيف هذا ؟
– في صباي كنت احد المولعين الكبار بالسينما و لكنني حرصت ان اكون متفرجا على الدوام و لم انجذب ابدا يوما ما لفكرة ان أغادر موقعي كمتفرج و انتقل الى الجانب الاخر من الشاشة . أن معرفة دقائق عمل السينما ستقتل حتما في داخلي ذلك الانبهار الطفولي الذي لطالما شعرت به تجاه السينما .
× هل اثقل الضجر حياتك و خيم عليها يوما ما ؟
– نعم في طفولتي و هنا لا بد ان اشير الى أن الضجر الطفولي هو من طراز خاص لأنه ضجر مليء بالأحلام و هو في حقيقته عملية إسقاط Projection لتبني مكان اخر او فكرة اخرى . في الطفولة يتأسس الضجر على فعل التكرار و ينطلق من استمرارية حال لا نتوقع معها اية دهشة . أعاني اليوم شيئا مختلفا عن الضجر : أنه الخوف من تكرار نفسي في عملي الأدبي و هذا يمثل لي على الدوام تحديا متواصلا كل يوم لذا ينبغي لي ان اجد شيئا يبدو جديدا تماما و يكون في ذات الوقت ابعد قليلا من المدى الذي تبلغه قدراتي التي اعرفها .
_______
*المدى 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *