أحمد طالب
عندما كان صبيا لم يكن بإمكانه التوقف لحظة من أجل الإنصات لبوح الطبيعة..كان شغله الشاغل تعكيرَ مزاج الآخرين والتطفل على هدوئهم بضجيجه المزعج..وعندما بلغ سن المراهقة كانت أصوات الضجيج بداخله تمنعه من الإنصات.
يعرف جيدا انه سليل الطبقة الأخرى..سليل المجالدين من أجل لقمة العيش وأبناء العبيد..لا يستطيع أن ينسى أبدا فكل شيء من حوله يدعوه للتذكر. مكانته الاجتماعية في القبيلة لم تتغير رغم كومة الشهادات وأسفار طلب العلم في أصقاع الدنيا..مازال والده يستشير سادته السابقين في كل صغيرة وكبيرة..أما رفاق طفولته فقد انتهى المطاف بهم بعد رحلة تعليم قصيرة بين حمالين في الميناء وباعة متجولون في سوق العاصمة..أحسنهم حظا تعلم العزف على قيثارة كهربائية وأسس فرقة موسيقية لإحياء الأعراس الشعبية..صحيح أن مستواه الفني لا يؤهله لتحقيق نجاح باهر في عالم الموسيقى المحصن أصلا بنظام إقطاعي يمنح أسرار الطرب لطبقة خاصة لكنه ربما يمارس في فنه البسيط نوعا من التوزيع العادل للموسيقى.
يواصل مراقبة حبات الرمل وهي تستقر تدريجيا فوق قمة الكثيب في ثقة عمياء..حبات الرمل الصهباء تستقر أولا مشكِّلة حزاما أرجوانيا غير متماسك على شفا المنحدر.. تذكر أن ابن سادته عاطل عن العمل هو الآخر رغم محاولات تلميعهم له في آخر انتخابات محلية..ربما يدخرون له وظيفة أكثر قيمة من مشاريع التشغيل التي يسمع عنها هذه الأيام..”عربات الدكتوراه” كما يتندر صديقه المزعج “عالي”..حيث لا يفرقون في توزيعها بين حامل الشهادة الإعدادية وشهادة الدكتوراه..رغم أن “عالي” ينتمي للحزام المستقر على قمة الكثيب..لونه -في الأصل- أرجواني مثل السادة لكن سنوات الصفيح جعلته يستريح متعبا في أسفله. تقاسم معه غرفته الحقيرة وضيق يد الطلاب المغتربين..تعرف على قصته وأصبح يعرف الكثير من تفاصيل حياته الدقيقة..أسماء أفراد عائلته..وجوههم..أصبح يعرف قصة والده صاحب العربة الذي يفني سحابة نهاره في الكد من أجل إطعام عائلته والإنفاق على مخلصهم المغترب..هناك بعيدا حيث يعتبر تأخر وصول الحوالة الشهرية محاولة قتل مكتملة الأركان. قبل أن يبتعد أكثر في ذكرياته كانت الشمس قد بدأت تودع مدينة الصفيح ملقية على صفحة الرمل خيوطا ذهبية خجولة..عاد من شروده..تلمس الحبات الأرجوانية التي تغطي قمة الكثيب ليجد أنها شكلت طبقة من الرمل..طبقة غير سميكة لكنها أخشن وقطر حباتها أكبر أيضا من البقية. طبقة أرجوانية خشنة الملمس تعتلي طبقة ملساء ناصعة البياض..