*إبراهيم قعدوني
لا نعرفُ ما السر الذي جعل موضوعاً كالموت يستحوذ بشكلٍ لافت على الموضوع الشعري لنتاج الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون حتى أنّه يكاد يكون الموضوع الأبرز في قصيدتها، إلى جانب هواجس على اتصال بالموت كالفناء والأبديّة.
وإنْ لم تكن الوحيدة من بين شعراء عصرها، حيث نلحظُ حضوراً أساسياً لموضوع الموت لدى شعراء معاصرين لديكنسون مثل، جون كيتس ووالت ويتمان، إلاّ أنّ نسبة حضوره لديها تفوقهما بلا شك، وفي حين يعزو بعض النقاد هذا الانجذاب نحو الموت في قصيدة ديكنسون إلى نشأتها وحياتها المتديّنة، والمعدّل المرتفع للوفيّات، حيث كانت تعيش في نيو إنكلند، إذْ كانت الجنازات مشهداً يومياً مألوفاً بالنسبة لها، يرى آخرون بأنّ لنمط الحياة الذي اختارته لنفسها أثراً جوهريّاً في هذا الأمر، حيث اختارت العزلة التي عكستها نصوصها وحياتها، فقد لازمت ديكنسون بيتها ولم تخرج منه إلاّ للضرورة القصوى، طيلة عقود من حياتها التي انتهت سنة 1886عن عمر ناهز ستة وخمسين عاماً، كما لم يُعرَف عنها أبداً أن دخلت في علاقة غراميةٍ طيلة حياتها، إلاّ أنّ الرمزية التي اتّسمت بها قصائد ديكنسون تجعل من الركون إلى سببٍ أو تفسيرٍ بعينه مسألةً شبه مستحيلة. لمْ تحظَ تجربة ديكنسون بالشهرة أو الاهتمام في حياتها، إلاّ أنّها وبعد رحيلها صارت تُعتبَر من أبرز روّاد الحداثة في الشعر الأمريكي.
في النّص القصير كما معظم نصوصها، ترصُد ديكنسون بأسلوبها مشهداً للموتى في عالمهم الخاص، وقَد نُشِرَت النسخة الأولى من هذه القصيدة بعنوان مختلف عن عنوانها الحالي الوارد «بمَأمنٍ في حجراتهم المرمرية» وذلك في شهر آذار/مارس 1862، في صحيفة «سبرينغ فيلد دايلي ريبابليكان» في مدينة ماساشوتس في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث جاءت بعنوان «النّيام» وقد تضمّنت مقطوعتين شعريتين اثنتين فقط (هما الأولى والثانية في هذه الترجمة)، بينما نُشِرت نسخة أخرى من القصيدة نفسها احتوت على المقطوعة الأولى والثالثة فقط.
أمّا النسخة الأخيرة التي تبدو مكتملة بمقطوعاتها الثلاث، فقد ظهرت في كتاب «قصائد لإيميلي ديكنسون» الذي حرّره كل من مابل لوميس تود- و- تي. دبليو هيغينسون، يقع في أربعة مجلدات مطبوعة سنة 1912م عن دار Little, Brown, and Company of Boston and New York
تُعتَبَر هذه القصيدة المشبعة بالرمزيّة من ضمن قصائد محدودة العدد نُشِرت في حياة ديكنسون وقبل وفاتها، حيث أنّ معظم أعمالها نُشِرت بعد رحيلها، وقد جاء نشر هذه القصيدة قبل شهر ونصف الشهر من رسالة ديكنسون الشهيرة للناقد المعروف توماس وينتوورث هيغنسون، التي ضمّنتها أربع قصائد من قصائدها البالغ عددها أربعمئة قصيدة في حينه، وقد كانت ما تزال في سنّ الواحدة والثلاثين، ويُعتَقد أنّ مجموع القصائد التي حملت توقيعها حتى وفاتها بلغت 1700 قصيدة، علماً بأنّ بعض الدراسات تحدّثت عن عدد أكبر، ويعود هذا الالتباس للطريقة الخاصة التي اتبعتها ديكنسون في كتابة نصوصها، التي تمّ جمعها بعد وفاتها بجهود بارزة للمحرّر والناقد الأدبي رالف فرانكلين، حيث اعتمد تقنيات خاصّة بواسطة الأدلة الفيزيائية في المخطوط الأصلي ومقارنة النصوص وطريقة الكتابة، وذلك لمحاولة ترتيب القصائد وفقَ تسلسلها.
في رسالتها تلك طلبت ديكنسون رأياً نقدياً من الناقد المعروف هيغينسن وتساءلت عن رأيه في ما لو كان يرى شعرها «حيّاً» أم لا، وقد فتحت هذه الرسالة الباب أمام مراسلات طويلة بينهما.هنالك سبعون رسالة من تلك الرسائل، بالإضافة إلى مئة قصيدة محفوظة في متحف إيميلي ديكنسون، وقد زارَ هيغينسن إيميلي مرتين وَحضَر جنازتها في ربيع عام 1886، حيث قام بقراءة قصيدة لإيميلي برونتي عنوانها «ليست بالروح الجبانة روحي». كما قدّمَ هيغينسن المساعدة لِمابل لوميس تودّ في تحرير أعمال ديكنسون وطباعتها.
________
*القدس العربي