مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
إنها عودة درامية شيقة لنمط أفلام الجاسوسية التي أبدع “جون لي كاريه” بكتابة قصصها، هكذا يقدم لنا الثلاثي “شبيلبيرغ” كمخرج و”توم هانكس” كمحام مستقل و”مارك رايلنس” بدور جاسوس روسي شهير. هذا الفيلم يلقي ظلالاً من الواقعية والتفاؤل والتكافؤ الأخلاقي واللياقة الديبلوماسية، في سيناريو محكم كتبه الكاتب المسرحي البريطاني مات شارمان والأخوان جويل وإيثان كوان (أصحاب لا بلد للرجال العجائز)، قدم فريق العمل المتجانس هنا عملاً سينمائياً متماسكاً وتفاعلياً بلمسات شيقة لحالات إنسانية وطرافة ساخرة، كما غاص بنا في اللحظات المحفوفة بالمخاطر وجنون العظمة والنفاق الخفي.
اشتق اسم الفيلم من عملية تبادل الجواسيس على جسر “جلينكي” الشهير الذي يربط برلين الشرقية بالغربية، مع وجود القناصة على كلا جانبي الجسر جاهزين للقتل ولسحب رجلهم باللحظة الأخيرة إذا ما ظهرت بوادر التراجع والخيانة!
تظهر براعة المحامي “توم هانكس” بقدرته الفائقة على المناورة، واحتساب المكاسب ومراجعتها مع كل يوم، متسائلاً بصمت: “ما مدى انهيار رجل تحت الاستجواب وتخليه عن الأسرار، وبالتالي تصبح لا قيمة لمبادلته”! ويبدو مهتماً بأحداث صفقة “اثنين مقابل واحد” (الطيار وطالب أمريكي يدعى “فريدريك بريور حبس ظلماً ببرلين الشرقية أثناء محاولته تجاوز الحدود بين البرلينتين)، تبدو هذه الصفقة مجزية للمحامي البارع… يلعب كل من “أوستين ستوويل” دور الطيار جاري باورز، ويلعب “مارك رايلنس” دور الجاسوس السوفييتي المتمرس آبيل، و”توم هانكس” بدور المحامي القدير “دونوفان”، الذي يتمكن ببراعته من كسر كل قواعد المبادلة بعناد ودهاء، ويصر على إطلاق الطالب “بريور” باللحظات الأخيرة لصفقة التبادل، حيث تحقق له هذه المبادلة التاريخية شهرة كبيرة فتوكل له لاحقاً مهمة إطلاق سراح عدد كبير من الجواسيس المعتقلين بكوبا كنتيجة لفشل عملية “خليج الخنازير” الشهيرة بستينيات القرن الماضي… أما براعته وقدرته على استبصار المستقبل فتظهر بموافقته على الدفاع كمحام مستقل عن العميل السوفييتي “آبيل”، وتحمله لعدوانية المجتمع والمؤسسات الأمريكية ذات العلاقة، وببراعته بإقناع القاضي المتطرف العنيد بضرورة المحافظة على حياة آبيل لمبادلته عند الضرورة!
يؤدي هانكس كعادته دوراً مؤثراً ومقنعاً ولافتاً، ويتحدى قدراته “كمحامٍ” بذهابه “لبرلين الحرب الباردة” في مغامرة خطيرة وغامضة، متسلحاً باستقامته وحرفيته الرفيعة، ونسمعه يسأل “آبيل” دائماً “ألست قلقاً”؟ فيما يجيبه هذا الأخير بثقة وبصوت رقيق وحازم “وهل يساعد القلق”؟ والغريب أن “آبيل” هذا لا ينكر ذنبه ويصر على “عمالته وجاسوسيته”… يضطر المحامي للتعامل مع المنسق بالسفارة الأمريكية البيروقراطي الصعب المراس هوفمان (جون سكوت شيفيرد) فارضا أجندته وأسلوبه، كما يواجه “دونوفان” ببرلين الشرقية “حقل ألغام خطيراً” أثناء تعامله القسري مع خصوم عنيدين ومراوغين حازمين من شخصيات ما كان يسمى “الستار الحديدي”، حيث تتباين مصالح كل من السوفييت والألمان الشرقيين الساعين لإثبات استقلالية قرارهم، كما يبدو أن لكلا الطرفين طريقته ومزاجه ونوبات غضبه ودبلوماسيته الخاصة، حيث يجبر “دونوفان” على مفاوضة شخصيات صعبة كفوغل (سيبستيان كوخ) ومسؤول الستازي “بورجارت كلاوسنر”.
يطرح الفيلم تساؤلات ولا يجيب علها: لماذا امتنع باورز عن تناول سيانيد البوتاسيوم بواسطة إبرة السم المغروسة بعملة معدنية بعد أن تم أسره من قبل السوفييت، وبالمقابل لماذا نرى آبيل (ببداية الشريط) وهو يستخلص بارار معلومات سرية من عملة زائفة؟ كما يتركنا الفيلم نشاهد مشدوهين طريقة قنص الهاربين الشرقيين عند الجدار المبني حديثاً وبلا رحمة وبدون سابق انذار، كما أن “دونوفان” ينظر مذهولاً من خلال نافذة القطار لمجموعة من الشباب وهم يتجاوزون جداراً بنفس الطريقة في قلب مانهاتن…نلاحظ بالفيلم درجة التحريض والتعبئة الجماهيرية، متمثلة بنشر مخاوف مبالغ بها لآثار هجوم نووي سوفيتي محتمل فوق نيويورك، حتى أن “ابن دونوفان” الصبي الذي لم يتجاوز ربما الـ12 عاما يقوم باجراء تجارب مائية للاحتياط بالمنزل، فيما يؤكد له أبيه عدم صحة هذه المزاعم، كما يبدو ذلك جليا بطريقة تعامل المجتمع مع المحامي وعائلته، ابتداء من النظرات العدائية السافرة داخل قطار العمل وانتهاء بمحاولة اخافته وعائلته باطلاق النار على منزله (كما بأفلام العصابات)، كما يبدو ذلك جلياً بعصبية وأقوال ونظرات ضباط الشرطة المحققين.
“شيطنة” الشرق و”أنسنة” الغرب!
من الصعب حقاً تصديق بعض مشاهد هذا الفيلم، ومنها تصوير برلين الشرقية على أنها كانت “خرابة” في ستينيات القرن الماضي، وبحجة أن الروس تركوها هكذا لسبب مجهول بالرغم من الفيلم أصرعلى استقلالية القرار بألمانيا الديموقراطية (كما كانت تدعى)، كما أن ظهور شخصيات الستازي بهذا الشكل الساخر الكوميدي بدا مبالغا به، كما لم يفهم سبب التعاطف الزائد الذي ابداه المحامي الأمريكي تجاه العميل السوفييتي “الأسير”، مما حدا بالأخير لكي يرسم له صورة شخصية ويهديها له بآخر الفيلم… أما قصة الشاب الأمريكي “دارس الاقتصاد” فبدت سطحية بل ومجانية بطريقة عرضها، من حيث وقوع ابنة استاذ الجامعة بحبه، ومحاولاته الساذجة لتهريبها نحو الصوب الغربي من المدينة، كما بدت مناظر بناء الجدار عشوائية وربما “مفبركة”، وكذلك حادثة سرقة معطفه “الثمين” من قبل شبيبة شرقيين “زعران”… ولاحظنا كيف استقبل الأمريكان أسيرهم الطيار بلهفة، فيما استقبل العميل السوفييتي بفظاظة مهينة تقريبا وكأنه “شخص مشبوه”…أما لحظات سقوط طائرة التجسس فقد كانت مذهلة وواقعية وتكشف عن قدرات “شبيلبيرغ” الاخراجية المعهودة… كما يحتوي الفيلم على لقطات معبرة وشيقة، منها طريقة تعقب المحامي تحت المطرالغزير من قبل عميل “السي آي إيه”، وعندما أنهى “دونوفان” اللقاء بالتأكيد على غلبة القانون والدستور بأمريكا قائلاً له: “أنت ألماني الأصل وأنا أيرلندي الأصل، وما يجمعنا ويحكمنا هو احترامنا المشترك للقانون والدستور الأمريكي، ولا شيء غير ذلك”!… ثم قصة “الرجل الواقف” التي سردها آبيل من ذكريات طفولته، ويعني الرجل الصامد المقاوم الذي لا يهزم، حيث شبه عناد وعزم المحامي بالرجل الواقف. كما نلاحظ أن طريقة معاملة الأسير الطيار من قبل سجانيه السوفييت كانت مهينة (تعريضه المستمر للماء البارد ولقلة النوم والاستجواب)، فيما عومل العميل السوفييتي بكرامة، بالرغم من أن مدة حكم “طيار اليو 2” كانت عشر سنوات مقارنة مع الثلاثين سنة التي حكم بها “أدولف آبيل” كبديل لحكم الشنق، كما أظهر الشريط سلوكيات زوجة وابنة العميل السوفييتي بشكل “ساذج ومتهافت” عكس شخصية “آبيل” الهادئة والمتماسكة… لكن الفيلم نجح بالتعبير بمصداقية عن حالة التوتر والقلق وانعدام الثقة التي كانت تسود أجواء الحدود بين شطري المدينة التاريخية المقسمة، وربما ينبهنا ذلك ويذكرنا مجازا بعودة “أجواء الحرب الباردة” التي بدت أشباحها الداكنة تهيمن “بقوة” على العلاقات الدولية الراهنة!