عودة مبدعة


*زُلَيْخَة أبوريشة

كان هذا المكان الذي نحنُ فيه الآن النَّهرَ الذي وقفتُ على شاطئه الرَّحبِ أنهل ما نهلتُ، ودونما أن أرتوي. فليسَ للعلمِ وللمعرفةِ من شاطئٍ آخر نلوذ به، وليس له من قاع. فكلَّما أوغلنا تكشَّفتْ لنا عوالمُ ودُنىً لا حدودَ لبهجتها ودهشتها وجمالها الآسر ولربما لآلامِها أيضاً. ولقد قادني في رحلةِ المتعة الفكريَّةِ هذه أساتذةٌ علماء، ما أزالُ أرفعُ في كلِّ يومٍ غلالةً عن معنىً من المعاني التي ساعدوني على فتح أغلاقها، ووثقوا بقدرتي على المغامرةِ. فبينَ شيخِ الاتّباعِ الذي لا يُجارَى في تمسِّكه الحرفيّ الظاهريّ بما قاله الأجداد بصرامةٍ غير قابلةٍ للنقاش (ناصر الدين الأسد)، إلى شيخِ الثورة على السائد والتَّقليد (عبد الرحمن ياغي)، إلى شيخِ التنوير والحداثة (محمود السمرة)، إلى شيخِ الإخلاصِ في البحثِ والتنقيب والتساؤل (هاشم ياغي)، إلى شيخِ الأخلاق (عبد الكريم خليفة).

كنتُ في الليسانس أتراوح بين التمسُك بالثقاليد والثورة عليها، وكانت “الثورةُ عليها” قد أتتني من جانب تنشئتي الصوفية، حيثُ يشكِّلُ المنهجُ الصوفيُّ ثورةً في تناول النصِّ، ورفضاً للسائدِ القارّ في حياة الناس. ومثلَ أيِّ تغييرٍ يبدأ بالظاهر والشَّكل لسهولته وعدم نضجه، ارتديتُ الأسود ) الذي ظلَّ أفضل ألواني) أعلنُ به تقشُّفاً عن متاعِ الحياةِ والشباب، واحتجاجاً صامتاً على العادات التي لم أتشرَّب في بيتي لها كبيرَ احترامٍ. ومضيتُ في رحلةِ العلمِ وتجربة التتلمذ إلى الحدِّ الأقصى الذي قدرتُ عليه من الإخلاص. وكان تأثيرُ أساتذتي عليَّ لا يكادُ يدانيه تأثيرٌ آخر، إلا والدي وفناؤه في الحبَّ ووالدتي وورعُها. وللتاريخ، كان نصيبُ الأسد للأسد، الذي دلتني صرامته إلى منابع علوم العربيّة وأمهات كتبها. وكان لكتابه المرجع “مصادر الشعر الجاهليّ وقيمتها التاريخيّة” أثرُه الكبير في ضبطِ هواجس البحثِ العلميّ لدي وإيقاعه وصحيحِ أدواته. وظللتُ أتعلَّمُ منه حتى بعد أن غادرتُ الجامعة وانخرطتُ في الحياة العامة ككاتبةٍ وشاعرةٍ وباحثة. ولكنَّ تعلَّم أدواتِ البحثِ شيئٌ والخضوعَ لمدرسة التَّفكير شيئٌ آخر، إذ ما لبثتُ أن نفضتُ عني أثر الأسد بما فيه من ركونٍ للماضي وتلميعه، وتقديسِ ما ليسَ بمقدَّس، والبحثِ في مناطقَ من التجربة الإنسانيّة لم يكن حتى اللحظة ليُكنَّ لها الأسدُ أيَّ احترام أقصد موضوع حرية المرأة..
ومع أنَّ رحلتي بعد الجامعة بدأت بتعثُّرٍ في اختيار الشريك، وما يصاحب ذلك من آلامٍ وخيبات، إلا أنَّ انخراطي في المعترَك الإسلامي الذي صاحب الاقترانَ به أطلعني على ثروةٍ من المعرفة تتعلَّقُ بأسرار البنيةِ الثقافية لهذه المجموعة السياسيَّة، حيثُ أخذتُ على نفسي أن أكشفَ الانتهازيَّة والوصوليَّة التي تمترضُ بهما وتشكلان منهجَ عملٍ وعقيدة. وهذا سرٌّ من أسرارِ مقالاتي التي تدور في أفقِ الإسلام السياسيّ الذي نشكو من تفاقم سطوته وتوحُّشه اليوم.
كان أن عدتُ ثانيةً بعد زمنٍ غير قصيرٍ لاستكمال الماجستير فالدكتوراه. وكان حظي الذهبيّ أن رجعتُ إلى التتلمذ على الأساتذة أنفسهم مضافاً إليهم أستاذان كبيران هما الدكتور إحسان عباس، والدكتور نهاد الموسى. ولكنَّ مياهاً كثيرةً كانت قد مرَّت من تحت الجسر، كما يُقال. ولم أعد تلك البنتَ الخامَ التي تستقبلُ مناهج التفكير دون نقاشٍ مهمٍّ. وكنتُ قد قطعتُ شوطاً في استنفار قدرتي على التَّمحيصِ والنَّقدِ الحرّ، إذ يبدو لي أن تأثيرَ المنهجِ الحرفيّ الظاهريّ في تناول التراث والمعرفة (في الجامعة والبيت الزوجيّ) كان آنيّاً فيَّ، وانتصرَ عليه المنهجُ النَّقديُّ والواقعيُّ الجديد، فلم أبدأ الماجستير إلا وقد كنتُ منحازةً إلى منهج السمرة في النقد التكامليّ الذي لا يبخسُ أيَّ منهجٍ قدره. أي منحازةً إلى العقل المفكر والمتأمّل لا إلى تلك المشاعر الفياضة في عشقِ التراث التي تُخفي الحقيقةَ، وتُلَوِّنها بالأهواء. فتركتُ ورائي غيرَ آسفةٍ مدرسةً في علومِ العربيّة تتجافى عن التَّغييرِ وتتَّهمه بتُهمٍ ليس أقلَّها التآمرُ والتَّخوين، الذي يأتي بعده التكفير.
كان انحيازي بعدئذٍ للحريَّة الفكريَّةِ دون أدنى قيدٍ أو شرط، وللتجريبِ الذي لا يهمُّه إرضاءُ الذائقة السائدة، وليس من حُرمةٍ خاصَّةٍ للتراثِ لديه، أياً كان شكلُه ونوعُه. فكثُرت السكاكينُ الموجَّهةُ إليَّ والتي تختبئُ وراء المقدَّس تحتمي به، بينما هي تمارسُ دعارةً فكريَّةً وثقافيَّةً، وتجتاحُ بها لا المرأةَ “كضلعٍ ناقصٍ” فحسب، بل بذرةَ الحريّة والحداثة والاختلاف أينما كانت!
________
*من كلمة ألقيت في الجامعة الأردنية في برنامج “عودة مبدع”./ الغد

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *