” السماء قريبة جدا”.. هل تحتمل البلاد/ القضية كل هذا الجنون والبطولات الفردية؟



*نداء يونس


خاص ( ثقافات )



تنحى رواية السماء قريبة جدا للروائي الفلسطيني مشهور البطران إلى السردية المباشرة، تحكي حياتنا كفلسطينيين في ظل الاحتلال، كما تقولها قبل وبعد أوسلو. وبقدر ما هي طويلة أيامنا في انتظار أفق ما، وبقد ما تجنح نحو اعتياد كل ما هو غير مألوف من ممارسات احتلالية وعنصرية، ومنظومة اجتماعية مخترقة و/أو يسهل اختراقها، وبقدر ما تبدو بطولاتنا الفردية حالة عامة، من منطلق أنه يمكن اعتبار كل فلسطيني جزءاً من هذا الحراك البطولي في العصر الحديث، والممتد لما يزيد على 200 عام، متمثلا بمقاومة أولى محاولات الصهاينة تمرير مشروعهم الإستيطاني في فلسطين، وأقصد بذلك، الحملة الفرنسية لنابليون بونابرت، التي استباحت المكان لهدفها الذي لم يكن معلنا، متخذة من مصر طريقاً، ولم تنجح، فان هذه قد الرواية تبدو لقارئ غير فلسطيني حكاية بطولة، أما بالنسبة لنا، تبدو هذه الحكاية “روايتنا” العادية.
” أينا العاقل؟”، هو السؤال الأساس الذي تتكئ عليه الرواية. هل أحاول بقراءتي هذه أن أجذر مفهوم الجنون في أدبنا الفلسطيني، قطعا لا، لكنه الوهم يطغى في حالتنا الماسخة، ويأتلف مع الجنون ليكتب قصة هذه الفلسطين. فهل الثائر الحالم الفرد الذي يحلم بسُلَّم يقوده إلى سماء قريبة كزيدون المناضل عاقل؟ وهل وصل؟ هل نبيلة التي تبيع عمرها كله لوهم انتظار أسير عاقلة؟ هل الجاسوس الذي يخترق بيته وأهله ويعمل لصالح عدوه عاقل؟ هل خطيب المسجد الذي يعتمد الحماسة، ويبيع الوهم عاقل؟ هل الثورة التي تعتمد على اجتراح الحلول وقت الأزمات فقط، ودون تخطيط عاقلة؟ هل قتل شاب دون محاكمة بتهمة الجاسوسية من العقل في شيء؟ هل الشباب المهووسون بفكرة الانتقام دون أدوات، ثم يعودون نعوشاً، عقلاء؟ هل الذين يعملون على علاج إفرازات الحالة، مثل الضجر على حاجز وليس على إزالة الحاجز، من الأوروبيين، وغيرهم ممن شرعنوا نهب وطن لشعب يحلم، عقلاء؟ الجنون هو العقل كاملا في مواجهة جنون التاريخ، والحاجة إلى إعادة قراءته، ولاجتياز المرحلة الطويلة.
أسئلة الثورة وما يرتبط بها من مظاهر القبلية ومن يسير في ركبها من سفهاء ومناضلين وجواسيس وحراكات فكرية وثقافية شكلانية وتأريخية ووجودية تختلف أو تتفق على إجابات واضحة لسؤالي التطبيع والتضامن والثورة، ودور الأحزاب الفلسطينية الفاشلة في أسوأ صور تحالفاتها مع العشائرية، تسير هنا، في هذا العمل، جنبا إلى جنب مع حالة البطولة الفردية والتمزق بين شكلها الواقعي في المسافة بين المنفى الداخلي والزنزانة، ورغبة الفلسطيني بالعيش بسلام، والتي تبدو حلما مستحيلا تجره إلى نقيضه كل محاور الرواية. 
تنكشف هذه الرواية على عيوبنا وعيوب في نضالنا، وتدور في فلك تشخيص الحالة، ولا حلول، كما أنه لا حلول في الواقع أيضاً. فهل تحتمل البلاد/القضية كل هذا الجنون والبطولات الفردية؟، وتحرض، أيضا، على وجوب تعريف الجنون. فوضع قائمة بأفعال العقل والجنون كأولوية وجودية ووطنية، ثم تأتي بقية المعالجات تباعاً.
بشكل واع، تطرح الرواية أسئلة في الدين والمجتمع بقوة تحسب لها “ما فائدة إيماننا إذا لم يتعرض لخضات عنيفة” و”ما قيمتنا دون أخطائنا”، لكنها تتجنب طروحات مغايرة للتقاليد السائدة باعتبارها مسلمات لا يمكن مناقشتها، فكل نساء الرواية محجبات مثلا، كأن حجاب الرأس أحد أركان الاسلام أو الايمان، مثلا، أو أحد الوصايا العشر. إن استدعاء نموذج الحبيبة المحجبة من الداخل المحتل – والتي أعتبرها شخصية مركزية -رغم أن الكاتب لم يقدمها كذلك- بسبب الصراع السيكولوجي للشخصية في محاولاتها للتوفيق بين الداخل والخارج، والمكان الجديد والهوية، والفكر الحر والآخر التقليدي، والعام والخاص، والتي تتجلى في السؤال حول نشاطها كناشطة في فرقة بينما هي محجبة!- وبقدر ما له من دلالات على استمرار التواصل لأفراد شعب مستلب، إلا أن هذا النموذج هو عرض محصور وتوفيقي وغير تمثيلي لمكونات المجتمع الفلسطيني المقاوم المتنوع هناك، ما يطرح سؤالاً حول انتقائية العرض والتداول في الرواية الفلسطينية، ودورها في تكريس العادات المجتمعية الموروثة أو الوافدة من ثقافات وأديان أخرى، وعدم استعدادها للخوض في مسائل إشكالية أخرى، مثل الحب، الذي تكتفي هذه الرواية وعامة المنتج الثقافي الفلسطيني في أرض 1967، بالدوران حوله دون معالجة طبيعية أو متوقعة أو جريئة، كما في أدب دول عربية أخرى، ولا أقول عالمية. العيب والخوف لا يزالان يسيطران على الجو الثقافي في الضفة وغزة عموما، والضحية روايات تفقد انسيابها الطبيعي حين تصطدم بحاجز الموروث الذي نمارس قناعاتنا المغايرة له سراً، وبفردية عالية، ونريد من يحكي عنا في سياقاتنا الجديدة، ولا نجد.
في هذه الرواية، كما في الواقع، تتضح التراتبية المتفق عليها مجتمعيا، وبشكل مسبق، لموضوع القيم التي يمكن المساس بها فكرياً: يمكن إلى حد كبير شكلياً الخوض بالسياسة، ويحدث الأمر وإن بشكل موجه أحيانا، كما يمكن استدراج موضوعات مثل الدين أو دور المؤسسة الدينية على المشرحة الفكرية، وإن كان الأمر على نحو أضيق كثيرا وبشكل انتقائي وموسمي يهدف إلى رفع الصوت ولا يطمح حتى الآن إلى تغيير جدي، وحدها العادات والتقاليد وما انطوى تحت لوائها من تفسيرات وممارسات مجتمعية باسم الدين أو “العيب”، تبدو محصنة ضد التناول والنقد، كما ينعكس في معظم الأدب الفلسطيني في الداخل، ويطفو على السطح سؤال حول الأدب والثقافة الفلسطينية ما بين الدور التنويري، من جهة، ومسألة التوثيق للمرحلة، من جهة أخرى.
قام هذا العمل على السرد المباشر. هل الأمر مقصود ليتماهى مع عدم وجود آليات في العمل النضالي والثوري والحياتي للفلسطينيين، والذي يرتهن غالبا إلى الإرتجالية وغياب التخطيط؟ ربما، لكن المقاربة بين قصة الرقصات على صوت الطيور تحيل الرواية إلى واقعين بمساحتين مختلفتين: الواقع الشاسع تحت الاحتلال والحرية المشتهاة كحلم لم يمسه طائف من شر. وهذه التقنية، المتمثلة في الرواية داخل الرواية، لافتة للنظر، حيث تجاوز الكاتب البطران قصته أو نحن باخفاقاتنا إلى قصته الأخرى أو الأنا بنجاحاتها، وبنى بشكل يقبل التأويل على قدرة الحلم على التحقق بشرط، فيما يوقع القارئ في مشكلة فردية الجهد المبذول، مقابل غياب المأسسة لصناعة أفق أفضل، وعندما حاول الكاتب اجتراح نهاية مختلفة ومفاجئة، كنهاية زيدون على يد ابن جاسوس، وليس على يد محتليه الذين وصلوا إليه، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من اعتقاله، ظهرت النهاية مفاجئة لكنها مقحمة، إذ يغيب توضيح حول لزوم اختفاء ابن الهلالي 13 سنة في الكهوف منتظراً أن يأخذ بثأره العتيق، علما بأن زيدون كان متاحا في أكثر من مناسبة للقتل. كما ارتكز هذا العمل إلى لغة شعرية، يحتملها النص إلى حد ما وتحتمله. كما يحتمل النص وجوباً أيضاً تدقيقا لغويا أكثر احترافاً. 
هل تعلو مشهدنا الفلسطيني سماء واحدة، هذا الهاجس الروائي يحيل مباشرة إلى قلق أصيل حول مرجعياتنا ومنطلقاتنا المختلفة كشعب، ما يعطي انطباعا بأن العنوان ربما قصد حالة بعينها لبطل الرواية، وربما كان عنواناً ساخراً يحيل إلى تعدد مشهدية سقوفنا الواطئة، ونهاياتنا الجمعية التي مهما بدت غريبة، فإنها مشاهد مكررة.
التجربة الأدبية الفلسطينية ما بعد أوسلو ما زالت طور التشكل، وتتمثل بإشكالية “نحن” مقابل “الأنا”، والمسافة المرتبكة بينهما، حيث فقدنا اتصالنا المتواصل بالكل الفكري والثوري والتنظيمي ولم نستطع التأسيس جيدا لفكر النضال السلمي، انقسمنا أكثر، وما زلنا نواجه في كتاباتنا كل يوم معضلة تعريف الأنا في واقع يبنى على نشر الفلسطيني عن كينونته الناجزة الممتدة، سماء وأرضا، آلاف السنوات، وعلى مسافة تاريخ احتمل كل الغزاة ووقف أمام الاحتلال الاسرائيلي، بمشروعه الإحلالي والإستيطاني والفكري، على قدم واحدة. 
هذه الرواية تثير “كومة” أسئلة، ويبقى كل عمل أدبي فلسطيني إضافة ما لمشهد ناقص.
______
*شاعرة وإعلامية فلسطينية.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *