هل هذا وجه المسيح؟


*أمجد ناصر


نحن في فترة عيد ميلاد السيد المسيح، وفق التقليد الكنسي الغربي، فيما هو بعد ذلك بنحو ثلاثة عشر يوماً وفق التقليد الكنسي الشرقي. أياً يكن الأمر، المناسبة تفرض نفسها، حتى على اللادينيين وأتباع الديانات الأخرى، بسبب تحولها مناسبة “إمبراطورية”، وعندما تكون كذلك، تصبح مناسبة عالمية. وهذا في أصل الأديان (المسيحية، الإسلام، البوذية مثلاً) التي لم تتحول عالمية، إلا بعدما حملت لواءها الإمبراطورية وفتوحاتها.

 أينما كنت في الشرق، أم في الغرب، تدركك زينة أعياد الميلاد ومفردات الصناعة، واسعة النطاق، القائمة عليه، أكثر، ربما من معنى المناسبة، في ذاتها، باعتبارها لحظة فارقة في الوجدان العالمي.
هذا هو دأب الرأسمالية القادرة على تسليع كل شيء، بما في ذلك “حاجات الروح”. وليس بعيداً عن ذلك، إعادة منابر صحافية غربية بعث “صورة” للمسيح، نشرت قبل نحو عشرة أعوام في إطار برنامج وثائقي تلفزيوني عن السيد المسيح.

 فعلت ذلك، أولاً، “بي بي سي”، ثم تلتها “سي إن إن”، مستخدمتين تصوراً جديداً لإنتاج صورة للمسيح من معطيات زمنه. نفَّذ هذا التصور فنان التشريح البريطاني ريتشارد نيف. إنها ليست صورة، ولا رسمة. بل بناء جمجمة ووجه وملامح، انطلاقاً من تقنيات التشريح التي يلجأ إليها البوليس، أحياناً، لوضع ملامح على وجوه فقدت، لسبب أو آخر، ملامحها. كان على ريتشارد نيف أن يبني الجمجمة انطلاقاً من ثلاث جماجم، تعود للفترة التي عاش فيها المسيح والمنطقة التي يفترض أنه ينتمي إليها (الجليل الفلسطيني)، مستعيناً بالقليل جداً من وصفه الوارد في الإنجيل.

ولكن، أيضاً بما كان عليه رجال تلك المنطقة. كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس، ومفارقة، بالكامل، لصورة المسيح المستقرة في اللوحات الكنسية، وغير الكنسية، الغربية، بل وحتى الشرقية. إنه ليس طويل القامة، نحيفها، ولا أبيض الوجه، شاحبه، ولا أشقر الشعر، طويله، وليس ذا عينين زرقاوين. الوجه “الجديد” للمسيح عكس ذلك تماماً: داكن السمرة، ذو عينين بنيتين، بشعر رأس ولحية قصير وأجعد، وله أنف ضخم بعض الشيء. إنه وجه رجلٍ يعمل تحت الشمس، ولعمله طبيعة يدوية شاقة. الكدح العملي واضح عليه.

لا أدري من وصفه (من المعلقين الغربيين) بأنه يشبه سائق تاكسي في نيويورك! طبعاً، سائقو التاكسي في نيويورك من شرق المتوسط، وما بعد شرق المتوسط! هذا مسيح مغاير. صادم في سمته عن الذي يراه رواد الكنائس آيام الآحاد. لا شيء من الرجل الطويل، النحيل، الشاحب، المتخلص من عبء الدنيا وشقائها اليوميين، بل الذي لا تبدو عليه علائم الشقاء البشري، حتى وهو على الصليب. قد لا تكون “صورة” نيف هي ما كان عليه المسيح. ولا أقرب تصور له. مستحيل أن نصل إلى صورة حقيقية لما كان عليه في الشكل. فلم تترك أناجيل رسله وصفاً لشخصه الفيزيقي يشفي الغليل، ولا توجد شهاداتٌ تاريخية لمعاصريه من الرومان الذين كانوا يؤرخون كل شيء، فما بالك بسيرة نبي، سيغيّر، بعد قليل، دين الإمبراطورية كله؟ على الرغم من أن هناك منحوتات ونقوشا للأباطرة الرومان ورجالات من زمنهم، إلا أنه لا يوجد رسم أو نقش للمسيح في أثناء حياته، ولا بعد فترة قصيرة من موته. 
أول رسمة له تصل إلينا هي على إيقونة مصرية، تعود إلى القرن السادس الميلادي، موجودة في دير سانت كاترين في سيناء. وهو ليس فيها أبيض البشرة، أشقر الشعر، أزرق العينين، بل حنطي اللون، بشعر رأس طويل، ولحية ناعمة وعينين سوداوين عميقتين، يرتدي زياً رهبانياً، ويحمل بيده كتابا (قد يكون الإنجيل). على الرغم من أن هذه الرسمة الأيقونية القبطية (الشرقية) لا تشبه التصوّر الغربي للمسيح، إلا أنها أرست المعالم الرئيسة لصورته: الشعر الطويل، الوجه الشاحب، العينان الواسعتان، الوسامة الشاعّة. سيتغير لون بشرته، لون شعره وطوله، بيد أن شحوبه سيكون ملازماً، وجماله الشكلي لا بدَّ منه. إذ كيف يمكن أن يكون “ابن الله” غير صورة من جمال الله؟! وكيف يمكن لمن سيخلص البشر من خطاياهم أن يكون على صورتهم ومثالهم؟ 
_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *