ثورة تقودها مقصلة



*د. يسري عبد الغني عبد الله

خاص ( ثقافات )


انفجرت الثورة الفرنسية في أوربا مع صيف عام 1789 م، فكانت أهم الأحداث المؤثرة في ذلك الوقت، إذ لم تتأثر فرنسا فحسب، بل تأثر بها العالم كله، فكانت علامة على بداية لعهد جديد في التاريخ الإنساني، عهد يعترف بحق المساواة والحرية لكل فرد .

كانت ثمة أسباب كثيرة لقيام الثورة في فرنسا، فلقد كان الظلم والارتباك والبؤس متفشيًا في أرجاء البلاد، وكانت الحكومة تتصف بانعدام الكفاءة والرجعية، بينما الملك يملك السلطة العليا، ولم يدع ممثلو الشعب للاجتماع منذ 175 سنة، وعلاوة على ذلك فقد كانت ثمة فوارق كبيرة بين الطبقات، وكان من الصعب على الطبقات العادية المتوسطة أو الدنيا التأثير على حكومة البلاد .
أما العدالة فكانت قليلة، فكان في استطاعة الحكومة حبس أي شخص بدون محاكمة ولأي مدة كانت، وكان الفقراء في عذاب شديد، إذ كانوا يتحملون عبء الضرائب، وهم معرضون للسخرة، أو العمل في المليشيات، أو في فرق عمال الأعمال الشاقة في الطرق والمناجم، أما السادة النبلاء وكبار رجال الدين معفوين من الضرائب أو أي شيء ينغص حياتهم الناعمة المترفة، كل ذلك أدى إلى شيوع الغضب والاستياء في كل مكان، مما سهل الطريق إلى انفجار العنف .
وعند حلول عام 1789 م، أصبحت الحالة في فرنسا ميؤسًا منها، فأفلست البلاد وضعفت نتيجة لاشتباكها في حروب أجنبية فاشلة باهظة التكاليف، هذا بخلاف قلة المحاصيل الزراعية، فتفشى الجوع بين الفقراء والمهمشين أكثر من أي وقت آخر، وكان الملك لويس السادس عشر، رجلاً خيرًا طيبًا، يتوق إلى إيجاد حل لوقف هذه الآلام، ولكنه كان أيضًا ضعيفًا جدًا، رضخ لقوة التأثير الجارفة التي كانت لزوجته الشابة الجميلة والمتكبرة الحمقاء ماري أنطوانيت .

اقتحام الباستيل :
قرر لويس السادس من يأسه، دعوة البرلمان الفرنسي للانعقاد في : 5 مايو 1789 م، وقد تسبب هذا في إحداث إثارة كبيرة للشعب الفرنسي، لاعتقاده أن الإصلاحات على وشك التنفيذ، ولكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة مع مرور الوقت، وعدم حدوث أي تغيير يذكر، فأقسمت الطبقة الوسطى والدنيا، وكانتا تسميان الطبقة الثالثة، في 20 يونيه 1789 م، ألا تغادر مقر الاجتماع بدون الحصول على وعد بإصلاح الأوضاع .
وكان رد الملك على ذلك أن أمرهم بترك قاعة الاجتماع على الفور، كما أعفى نيكر، الذي كان أكثر وزرائه تحررًا، من منصبه، وإزاء ذلك التصرف، قام شعب باريس بضجة كبيرة، واستولى على أسلحة من إحدى الثكنات العسكرية، وتقدم نحو الباستيل، ذلك السجن البشع المكروه، حيث كان الاعتقاد سائدًا بأن بين جدرانه مسجونين كثيرين أبرياء .
وبعد ساعات قليلة أجبر المحافظ على التسليم، وتدفقت حشود من الناس المتحمسة في حالة ثورة وجنون، فقتلوا الحراس، وأطلقوا سراح المسجونين، وكان عددهم قليلاً، ثم حطموا البناء حتى تساوى مع الأرض .
إن اقتحام سجن الباستيل الفرنسي أثار أوربا عامة إثارة كبيرة، وتشجعت الشعوب المضطهدة في كل مكان، واستوحت من ذلك قوة في كفاحها المستميت ضد الظلم والاستبداد و الاستعباد .
السنوات الأولى : 
سلمت الثورة الفرنسية أخيرًا السلطة إلى الطبقة الثالثة، وفي البداية كانت الأمور تسير نسبيًا بنظام وهدوء، ولم يكن الملك الطيب الوديع رغم كل الظروف مكروهًا من الناس بأي حال، أو لا يتمتع بشعبية، فقد قبل ارتداء شارة الثوار الثلاثية الألوان، واستمر البرلمان، الذي أطلق عليه (الجمعية الوطنية)، في عقد اجتماعاته، تحت نفوذ وسلطة الكونت/ ميرابو الحكيم، العاقل، المعتدل، فأقرت الجمعية الوطنية عدة إصلاحات حققت للشعب الفرنسي كل مطالبه من الثورة، إلا أن جماعات الدهماء والغوغاء وأصحاب الأهواء من الحاقدين والموتورين والمتشددين والمتطرفين والدمويين والعملاء، وهؤلاء إذا ركبوا أية ثورة أفسدوها وبأفعالهم يخربون البلاد ويحبطون العباد، كانوا يقومون بأعمال عنف من وقت لآخر، لكن الحرس الوطني تحت قيادة الجنرال / لافاييت كان يحبطها .

وبعد مرور شهر من اقتحام سجن الباستيل، ألغت الجمعية الوطنية جميع حقوق وامتيازات الإقطاع التي كان يتمتع بها النبلاء، وما لبثت أن أصدرت بعد ذلك مباشرة إعلان حقوق الإنسان، الذي أوضح ضمن نصوصه أن كل الأفراد بطبيعتهم متساوون، وأن إرادة الشعب هي الإرادة العليا، ولو أن الثورة الفرنسية توقفت عند هذا الحد لحققت الكثير، ولكن لسوء الحظ فإن أوقات عصيبة كانت في انتظارها ,
ففي أكتوبر سنة 1789 م، انطلقت مرة أخرى غوغاء باريس، يحركها الجوع والشائعات، حيث سار حشد من النساء إلى قصر فرساي، وقبل أن يتمكن القائد / لافاييت من وقفهن، كن قد اقتحمن القصر، واستولين على ما فيه بمساعدة حشود من الرجال لحقت بهن، ولم يهدأ الجميع إلا بعد الحصول على وعد بأخذ الملك والملكة والرجوع بهما إلى باريس، وقد تم ذلك فعلاً، وكانت مع الغوغاء لافتات تهكمية تسخر من الملك وزوجته، و تطالب بالانتقام منهما . 

وانشغلت الجمعية الوطنية في السنوات التالية بإعداد الدستور الجديد، ثم بدأت الحالة تسوء كثيرًا في صيف عام 1791، إذ بدأت المتاعب بوفاة ميرابو العظيم، وقيام الملك بمحاولة الرعناء في الهروب من البلاد، ثم إعلان إمبراطور النمسا، شقيق ماري أنطوانيت، عزمه على التدخل في الشئون الفرنسية .
الملك يحاول الهروب : 
أغري الملك لويس في عام 1791 م، على أن يقوم بمحاولة للهروب من فرنسا إلى النمسا، فرسمت خططت هروبه بعناية وإتقان، وتم الحصول على جوازات سفر مزورة، وتم اختيار الطريق الذي سيتم السير فيه، كما جهزت محطات للخيل في نقاط مختلفة في الطريق، وكان تنفيذ كل ذلك تحت ستار من السرية التامة، وفر لويس وأسرته في منتصف الليل، ولكن قابلتهم في الطريق عقبات كثيرة أدت إلى تعطيلهم، وبعد مدة قصيرة تنبه الناس إلى فرارهم، وتعرفوا على لويس وهو يطل من نافذة العربة التي كان يركبها، وفي مدينة فارين أوقفوا العربة، وأجبروا الملك ومن معه على العودة إلى باريس، بين صيحات السخرية والاستهزاء من الدهماء، ويقال إنه خلال 24 ساعة فقط، تحول لون شعر ماري أنطوانيت فأصبح أبيض تمامًا !! .
عندما يحكم الارهاب: 
في أواخر عام 1791 م بدأت السلطة تنساب من أيدي الثوار المعتدلين إلى المتطرفين والإرهابيين، وكانت أشهرهم مجموعة عرفت باسم اليعاقبة، وحلت الجمعية الدستورية مكان الجمعية الوطنية بعد حلها، كما أعلنت الحرب على النمسا في إبريل عام 1792 م بقرار غبي طائش يفتقد الحكمة والروية، وأصبح موقف الملك مع زوجته النمساوية على جانب كبير من الصعوبة، إذ كان الناس يساورهم الشك أكثر فأكثر في أنه يتآمر مع أعداء فرنسا، حتى تدخل لويس منفذًا اقتراحات الجمعية الدستورية .
وفي شهر أغسطس من نفس العام اقتحمت جماعة من الغوغاء الغاضبة قصر التويلري، وبعد نهبه عن آخره، ألقت القبض على الملك وأسرته، وفي سبتمبر 1792 م، سقط التاج الملكي وأعلنت الجمهورية، وفي هذا الجو المشحون بالهستريا والفوضى والانفلات الأمني، انفجرت المذابح المرعبة، وسفك دماء الملكيين، وبدأ الحكم الإرهابي الدموي يأخذ طابعه .
كان اليعاقبة يلحون طالبين إعدام الملك، وبالرغم من الجهود التي بذلها حزب الجيرونديين المعتدل، فقد تم إعدام لويس بالمقصلة (الجيلوتين) في 21 يناير 1793 م .
ثم أنشأ اليعاقبة بعد ذلك لجنة الأمن العام، وتحت سيطرتهم، وفي شهر يونيه ألقوا القبض على زعماء الجيرونديين وأعدموهم وسط الشوارع بالمقصلة، أما زعماء اليعاقبة فكانوا : دانتون المحامي الجهير الصوت، و روبسبيير الرجل المتعلم المنظم المجرد من الرحمة، ثم مارا الذي كان متعطشًا لسفك الدماء، والمتحجر القلب، إذ كان لا يرى حلاً للمشاكل إلا بإهدار الدماء .
في هذه الفترة تم اعتقال مئات من الناس دون ذنب، وسجنهم ثم إعدامهم، وكان ذلك يتم في غالبية الأحوال بدون محاكمة، ولمجرد شبهات طفيفة تحوم حولهم، نحو ميلهم للملكية، أي من الفلول !!، .
وقد تخلل هذا العهد، الذي أريقت فيه الدماء، واستشرى فيه الجزع والفزع، عملاً بطولي واحد، صدر من فتاة شابة نورماندية تسمى / شارلوت كورداي، وهذا العمل هو اغتيال مارا السفاح، لقد أحست شارلوت، شأنها شأن البطلة / جان دارك، التي ظهرت قبل عدة قرون، أنه تقع على عاتقها مسئولية سماوية هي إنقاذ فرنسا من ذلك الوحش الدموي .
وسرعان ما أخذ زعماء اليعاقبة أنفسهم يتشاجرون ويقتلون بعضهم البعض، فكان دانتون يريد وضع حد للمذابح التي تحدث في باريس، في حين كان روبسبيير يريدها أن تستمر وتستمر، وكان نتيجة ذلك أن ذهب دانتون إلى المقصلة، ولكن روبسبيير تبعه ولقي حتفه بنفس المصير بعد مضي بضعة أشهر .
وبعد ذلك هدأت وطأت هذه الحمى، إذ تم سقوط روبسبيير الطاغية، عن أن الشعب بدأ يمل سفك الدماء، ومع ذلك أعد دستور جديد ليس على درجة من الديمقراطية كسابقه، وفي هذا الدستور وضعت مقاليد السلطة بين أيدي خمسة رجال أطلق عليهم المديرين، وظلت هذه الحكومة تحكم لمدة أربع سنوات، حتى أطاح بها نابليون .
وأخيرًا وصلت الثورة الفرنسية إلى نهايتها، بالرغم من أن حروبها مع باقي أوربا ظلت مستمرة مشتعلة تارة، ومتوقفة تارة أخرى حتى عام 1815 م، وفي النهاية هزمت فرنسا، لكن لم تكن هذه نهاية الأفكار الثورية، فإن الثورة كانت من أهم الأحداث في تاريخ فرنسا، وبقيت آثارها ملموسة حتى اليوم، فالثورة في صميمها مبادئ وأفكار وفلسفة وآليات لتحقيق الأفضل والأحسن لجموع الشعوب، الثورة لها قادة واعون فاهمون مخلصون لا يريدون المناصب أو المغانم يعتمدون على أنفسهم في تحقيق الخير لشعوبهم، أما غير ذلك فقل إنها هوجة أو فوضى أو خراب مستعجل … !! 
________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *