*إبراهيم السواعير
عالج الشاعر جريس سماوي الراهن السياسيّ بقصائد مثقّفةٍ حملت تساؤلاته وحواراته في عالمٍ يغيب فيه العقل؛ معايناً هذا السيل من الدّماء الذي جعل كثيراً من الأشياء الجميلة يغيب.
واستثمر سماوي موحيات عازفة القانون رولا البرغوثي؛ مشتغلاً على ثيم قديمة وحديثةٍ لتخدم غرضه المسبق في الأمسيّة التي استضافته فيها مكتبة ريدرز بكوزمو أوّل من أمس، وأدارها المسرحيّ الأديب هزاع البراري.
واستنسخ الشاعر حوادث التاريخ في مقارناتٍ شائقةٍ غير ثقيلة، بدا فيها حزن سماوي في كلّ تفاصيلها، مثلما تنوّرت أعين الإعلاميين والفنانين والكتاب وحضوره النخبويّ تلك الحوادث وهي تتردّى بالرداء الأسود العبثيّ ذاته بين الأمس واليوم.
استعار سماوي أحزان النبيِّ يوحنا المعمدان الذي عمّد المسيح في نهر الأردن وأهدى الملك اليهوديّ هيرودوس رأسه الراقصة اليهودية سالومي، وفي ذلك حضرت قلعة (مكاور) شاهدةً على عنصريّ المؤامرة والتنفيذ؛ إذ تماهى الشاعر مع الضحيّة حدّ التطابق في الروح والصفات: (أرى الأرض أصغر مما يرى الآخرون/ أرى الكون أصغر مما يكون/ ساجداً وحزيناً/ ومستغرقاً في الظنون/ ما رأيتُ السيوف/ ولكنْ رأيت الدماء تسيل…).
كما عبّر الشاعر عن شيءٍ من الكشف الذي بلغ الذروة في قلقه المستمر: ( ما رأيتُ البنادق/ لكنْ رأيتُ الجنون/ ورأيتُ الدماء تسيل/ الدماءُ تلوّن باحاتنا/ وساحاتنا وقرانا/ والمدينة يهزمها الغجر العابثون/ البرابرة اقتسموا إرثها.. غنموها/ علّقوا في المدائن راياتهم السود واقتسموها/ قاتلوا واقتتلوا/ صنعوا صنم التمر/ صلوا له.. عبدوه/ ثمّ في ليلةٍ أكلوه!).
وأعرب سماوي عن أسفه لسقوط كلّ موازين الحكمة والعقل والمنطق في زمنٍ لا يُسمح فيه بالسؤال: (ما رأيتُ البنادق/ لكنْ رأيتُ البيارق غارقةً بالدماء/ الدّماء!/ إنّي أرى في الطرقات الدّماء/ وأرى (أيدٍ) ملطّخةً وسيوفاً/ أنحنُ تماثيل صمتٍ من الثلج في متحف المرحلة؟!/ أم شهودٌ على المقصلة؟!/ قتلة؟!!/ أم ضحايا؟!!).
كما اختلطت على الشاعر المعايير في حواريِّةٍ تنافذت على عالمٍ أوسع، واستدعت من شواهد الراهن وانكسار الأحلام والتصبّر بالبطولات الكثير: ( نحنُ ضحايا، قلتُ/ من القاتلُ يا صاحبيَّ إذن؟!/ ادنُ منّي، قال لي عسكريٌّ غريبٌ/ فدنوتُ/ لا تسل، قال لي،/ وامكث ببيتك لا تغادره قطّ/ مكثتُ.. ولم أرفع الأسئلة!).
وتابع سماوي: (..من زمان/ والحرائق مشتعلة/ والمكان/ ليس لنا/ من زمان/ منذ نجمٍ معنّىً بنبوءته الكاذبة/ منذ قرنٍ من السّنوات/ ومنذ مدىً خادعٍ/ وخيول أبي لا تنام/ من زمان/ وهي ملجمةٌ في اسطبلاتها/ وسائسها خائرٌ وكسيح!….).
كما تلبّس في قصيدة (المزمور المتعب) الشاعر الجاهلي الشنفرى الذي هجر قومه صعلوكاً وألف الذئاب، ومن رسائل سماوي في ذلك قوله: (على من يلقي الفتى مراثيه؟!/ وكيف يؤبّن أحلامه في البعيد؟!/ لمن يقرأ الحزن/ والناس مستغرقون بأشلائهم/ يسرعون الخطى باتجاه السفاسف/ والأمنيات اللعوبة؟!). ومرر سماوي الرسالة الأهمّ في اعتزاله، وهو الشاعر الذي ظلّت أحلامه عريضةً وبعيدةً، في حين ظلّت الناس نشازاً، وضلّت عنه عيون صانع القرار؛ فلم يكن أمامه غير الرحيل: (فرسي مطهمٌ/ سرجه من حكايا مذهّبةٍ/ وصهوته بيتُ شعرٍ صاغه الجنُّ/ سأرحل كالشنفرى/ فأقيموا صدور المطايا/ لأني إلى غيركم راحلُ/ إلى غيركم.. حيث أجبل بالشعر/ طين الحكايات/ أصنع من حجر الجرد/ كهفاً لروحي/ وأبني على طرف النهر ديراً/ لأتباعي الطير والشجرات/ راهبات البراري الخجولات/ يخفضن أغصانهنّ ويسجدن/ للشعر والبوح/ وأتلو عليهنّ أسفاري المتعبة!).
واستطاب الشاعر الأحزان التي استمرأها حضوره وهو يستدعي (ياسمين الشّام)، القصيدة التي رسم فيها مشهد المدينة والنهر والشاعر الذي ناب عن كثيرين في ذلك العطش: (من على رأس»قاسيون»/ أُطلُّ على نقط الضّوء:/ المدينة في سفحه امرأةٌ/ تتزيّن بالضوء/ كم من بيوتاتها تشعل عبر النوافذ أحلامها!/ كم تطلُّ البنات على غبش الليل منها/ وتنتظر العابرين!/ عابرون على الشّام مرّوا/ وهي الأميرة/ كلٌّ رمى عند أقدامها سيفه وهداياه/ كلٌّ رآها على عرشها/ لم تبارحه منذ تفتّقت الأرض عن بردى/ بردى مذ جرى وأفاض على الزرع،/ والياسمين يوزّع أنسامه في فضاءٍ من الشرفات/ شرفاتٌ من الياسمين يهيّئن للعاشقات/ الحييات تشكيلة الشعر/ والياسمين نساءٌ تفوح أنوثتهنّ على الماء/ يا بردى، عد قليلاً إلى الجريان، قليلاً/ كي تمرّ العذارى،/ العذارى بناتك يا نهر/ يا بردى يا أبي، ارجع الدفقان قليلاً،/ قليلاً ونعبر جسر الحكايات/ ندنو من الماء/ عطشى بناتك يا نهرُ/ وابنك عطشان لم يرتو الابنُ/ من فيض والده/ لم يرتو الابن بعدُ من الشمِّ يا ياسمين الشآم!).
كما حاور سماوي الجبل قاسيون معتزّاً بحوران والغور وبانياس: (ابنُ من أنتَ؟! يسألني قاسيون/ ابن نهرٍ قريبٍ جنوب الشآم/ أبي جاء من بانياس/ وسار جنوباً إلى الغور/ يحرسه العشب والماء،/ أمّي حفيدة حوران،/ عائلتي القمح والدّالية!).
وقرر العودة، على أنغام (يا مال الشّام)، حاثّاً الخطى إلى هناك: (يا بنات الجنوب،/ هيّئن لي فرسي ومتاعي/ أنا راجعٌ عند أهلي/ وأهلي قبائل عطرٍ من الياسمين/ أنا ابنهم، أنا/ ولم يرتو الابن بعدُ من الشّمِّ/ لم يرتو الابن من فيض والده النهرِ/ يا بردى.. آه يا بردى!).
واستطاع سماوي أن يخرج، قليلاً، من أحزانه مع أنّها ظلّت تتخلل حنينه حينما طلّت من بين سطوره وهو يتعلّم الرقص كالظبي في قصيدةٍ أسماها (في الفالانتاين أدعوها إلى الرقص)، وفي نهاية القصيدة كسر الشاعر التوقع حينما أدرك أنّ كلاً منهما إنّما كان يعلّم صاحبه الرقص، بل إنّهما لم يكونا يرقصان؛ إذكانا يحبّان.
وتابع الشاعر في قصيدةٍ قريبةٍ الرقص، محترفاً بالتقاط الحوافّ والزوايا وكلّ تلك الطقوس: (الليلُ مبلولٌ بماء الله/ والدنيا حريرٌ هابطٌ/ وأنا مُضاءٌ بالمكان/ غيماته الأولى معلّقةٌ على شمعٍ خفيف/ والحاضرون يمسّهم خدرٌ شفيف/ قرع الكؤوس يطوف بين الطاولات/ والوقت موسيقى وخمرٌ في أكفّ النادلات/ والضوء يسمو مثل صوفيٍّ بعيد/ الليل ماء/ والضوء ماء/ وأنا مُضاءْ/ باللامكان).
وختم سماوي بمنوّعات: (عازفة القيثار)، و(قبليني)، و(عدتُ إلى بيتي الصغير)، ليوقّع ديوانه اليتيم (زلة أخرى للحكمة)، وهو الديوان الذي كان أصدره منذ مدّة تحت ضغط أصدقائه ومعجبيه، وحمل لطائف ما عاش وسمع ورأى وجرّب، وما استشرفه من قبل.
وكان البراري قدّم الشاعر بقراءة مكنوناته وما تتوافر عليه روحه الشفيفة من همٍّ إنسانيٍّ والتقاطاتٍ وقّادة، مارّاً على مواضيعه الذّكيّة واشتغالاته على التأويل والإدهاش وكسر التوقع، واحتفائه بالمكان والزمان، وحضور الأنثى في شعره، وخبرته الإبداعيّة في إدارته مهرجان جرش للثقافة والفنون، واشتغاله أميناً عاماً لوزارة الثقافة فوزيراً لها، فعضواً في اللجنة العليا لمهرجان الفجيرة الدوليّ للفنون.
_________
*الرأي الأردنية