أعشاش العصافير


*فكري داود


عن ظهر قلب، نحفظ خريطة أشجار قريتنا، لنا فيها ما ليس لأصحابها، لهم الخشب والحطب، ولدوابهم وكلابهم الظل، ولنا الأعشاش المكورة فوق أغصانها، صوصوة العصافير الصغيرة غريرة، رقيقة تشجي آذاننا المدربة، مع حلول الربيع تهل، من شرق القرية إلى غربها نروح، صيتنا معروف؛ عفاريت العصافير أهم، هذا ما يقوله صغار الحارات الأخرى، إذا ما وقعت عيونهم علينا، وعلى (شِل) الخيط الأبيض بأيدينا.
للأشجار في أذهاننا خريطة زمنية، فأيام لأشجار (الخلايجة) شرق البلد، وأيام لأشجار البحر، وأخرى للترعة، أما أشجار القناية القريبة، التي تشق كتلة البيوت شقين، فلها آخر الأيام، نبدأ بالبعيد، وننتهي بالقريب، اتفاق غير معلن، لكنه يُنفذ بدون ثرثرة.
بكيس من القماش أو البلاستيك، يضع كلٌّ منا رغيفه، ونصف الباذنجانة المخللة، أو الخيارة، أو حبة البصل، وسط النهار سوف نفترش أية بقعة عشبية، أوأية مصطبة تلوح، تفرغ أكياسنا ما في بطونها، تسارع أيادينا وأفواهنا، بنقل كومة الطعام، إلى بطوننا الخاوية.
وفوق أبدان الأشجار، لابد أن يزحف بدني، كقط مدرب أنا، قليلُ من التسلخات يصيب وركيَّ، اللذين تتعريان كثيراً، أثناء الزحف صعوداً أو هبوطاً، فوق الجذوع الملساء حينا، والخشنة أحيانا، وفوق الأفرع الرفيعة، التي يأخذها التأرجح، احتجاجاً أو احتفاءً، كلما استقر فوقها بدني، تمتد يدي، إلى ما يقع في مراميها من أعشاش، تعس، تفتش، تترك ما بداخلها من بيض لم يفقس بعد، وما بداخلها أفراخ لم تزل لحماً دون ريش، تقول أمي إنه لا يجوز أكلها هكذا…
أما الأعشاش العامرة بأفراخ كثيفة الريش، فأقوم بنزعها بهوادة، ثم سد فتحتها من ذات القش، قبل الإلقاء بها إلى الرفاق المنتظرين، والمرفوعة وجوههم متعلقة بحركتي، مرسلين بين الحين والحين، ملحوظة أو إشارة، أو كلمة تشجيع، يلقف أحمد بالعش، كحارس مرمى همام، يربت جانبة بحرص، دافعا به إلى حجر الولد مسعد، المفتوح لا إرادياً، ينزع سدَّة فتحة العش، مادا يده إلى الداخل، متحسساً وحاصياً الرزق، ثم يعيد وضع السِّدَّة، وهو يقول:
ستة، أوخمسة.
أويصيح عالياً:
هيه… عشرة.
ومن حوله يصيح الرفاق، ومن تجمع من نساء، أو صغار أغوتهم رغبة المشاهدة.
فإذا جاء محتوى العش عصفورا واحدا أو اثنين، أوحتى ثلاثة، أمسك لسانه عن ذكر العدد.
أما شارد العصافير، فعلى الولد حامد ربطها من أرجلها بالخيط، لتبقى معلقة بيده، أبوازها إلى الأرض وذيولها إلى السماء.
أكسر غصنا رفيعاً من ذات الشجرة، أمده ليطال الأعشاش، التي لا تقع في مرمى يدي، ألف الغصن عدة لفات في اتجاه واحد، فيعلق به العش، ويصبح في حًوذتي بعد سحبه سحبات لطيفة، لئلا ينفرط من فتحته، بيضه أوعصافيره اللحم، فيكون مصيرهم الهلاك، عند الاصطدام بالأرض، وكذلك حتى لا تنفلت العصافير المريشة، فنخسر زيادة أكيدة في الحصيدة.
إلى شجر كل ناحية تأخذنا أيام، تتوقف زيادتها أو قلتها، على كثافة الأعشاش وكمية العصافير، نبيع للعيال بالقروش، أو نستبدل بعضها بلعب، لم تكن في حوذتنا؛ كعجلة جريد، أو نحلة خشبية، أو خابور من حديد.
نلمح البِشْر فوق وجوه الأمهات، فعشاء الليلة أو فطور الغد بات مضمونا، لكن غضبهن سرعان ما يحل، لمرأى ملابسنا المتسخة، والممزقة أحياناً، إلى آذانهن نرسل كلمات الاستعطاف، فوق رؤوسهن نطبع القبلات، ترق قلوبهن متغاضيات، يتعهدن العصافير بالذبح والتنظيف، قبل إلقائها بالزيت، يمصمصن شفاههن مبتسمات، وهن يوزعن على الأشقاء، حبات العصافير الخارجة لتوها، من الطاسات الملتهبة.
_________
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *