كيلو الشرف.. بحفنة دم


*أنوار الأنوار


خاص ( ثقافات )
أن تسجَّل في عام واحد ستّ عشرة جريمة قتل لنساء على أيدي أقاربهنّ في مجتمع صغير كفلسطينيي 48، وبزيادة بنسبة 60 بالمئة عن العام السابق، ليفوق عدد المقتولات في العقد الأخير مئةَ أنثى، فإنّ هذه كارثةٌ بيّنة. أمّا أن يكشفَ بحثٌ ميدانيّ أنّ أكثر من 55 بالمئة من شريحة الشبيبة (جيل المستقبل)، يؤيدون هذه الجرائم ويحمّلون ضحيتها المسؤوليةَ ويُرجعونها إلى مفهوم الدفاع عن الشرف فهنا النكبة والنكسة وكلّ المعاني الفاجعة.
لم يمضِ عام 2015 إلا غارقًا بدماء مَن قُتلن ، ولم يكد 2016 يأتي إلا حاملًا أرقامًا لضحايا جديدة يمرّ عنها المعظم كما يمرّون عن بديهيات لا تستدعي الانتباه، فلا نجد إلا الصمت المطلق! 
وبغضّ النظر عن حتمية رفضنا المبدئيّ لأية جريمة، وضرورة إنكارنا لكلّ أشكال العنف الذي بات يستشري في مجتمعنا بتوحّش ، إلا أنّ قتل النساء تحديدًا لم ينَل بعدُ ولو بعضًا ضئيلًا من حقّ رفضه ونبذه اجتماعيًّا، وما زالت التسمية الوحشية ب”خلفية شرف العائلة” هي السائدة، والسؤال الأول الذي يثِب من المعلّقين/ات على خبر مقتل امرأة :”ليش قتلوها”؟ أو “شو عملت”؟ في تجاهُل لطبيعة المجرم المفتقرة لأدنى معايير الأخلاق والإنسانية، وفي تعميقٍ لذبح الضحية مجدّدًا بالإدانة المسبَقة ليتكامل القتل الجسديّ بالمعنويّ.. لذا قد يبدو مفهومًا والحال كهذه، أن يدافع شبيبتنا عن الجاني ويعتبروا الجريمة دفاعًا عن الشرف، وأن يصمت الكبار عن فظاعة نتائج البحث، بل إنّ رجفة القلق الحقيقيّ ترسل من النتيجة سؤالًا مرعبًا يعود ويصرخ مع كلّ جريمةٍ جديدة وصمتٍ يتكرر: إذا كان هذا ما نمنحه لأبنائنا من قيَم، فما لون المستقبل الذي ينتظرنا؟! 
“شرف العيلة”؟
عبر عقود وفّر مجتمعنا ، ذريعة جاهزةً لكل من ينتهك حياةَ أنثى، في عملية قتل مزدوجة لا تكتفي بانتزاع حقّ الحياة من الضحية، إنما تؤكد تحميلها وزر الجريمة وإدانتها بها، وتنزيهَ القاتل بل وتتويجه بإكليل الدفاع عن “الشرف الجماعيّ”. ومع التحول الاجتماعي في كثير من المفاهيم التي ألزمتنا التعاطي مع ديناميكية هائلة في البيئة الحياتية، اتّسعت الظاهرة لنموذج القتل على يد الزوج أو الطليق المفجوع من نجاح غريمته، أو حتى العاشق المرفوض منها، ليبدو القتل في سمةٍ بارزةٍ مرتبطًا بمحاولة المرأة العيش ككائنٍ كامل، واستقلاليتها عن التبعية لرجلٍ يتمسّك من دوره النمطيّ بحقّ السيطرة على الأنثى لتحقيق كيانه (بعد أن ذوّتت فيه تنشئته أنّ الأنثى أهمّ ممتلكاته وأن حريتها توازي عبوديته).
مع كلّ لثغةٍ ورضعة، يذوّت الفلسطيني قمعه من الاحتلال ومن القضية على حدّ سواء، من المجتمع ومن تجار الدين أو السياسة، قمعًا يلاحقه في كلّ مناحي الحياة، لكنه يرتشف مع ترويضه وهمَ الرجولة المحققة بسيادته على أنثاه تعويضًا عن كل ما يقمعه، ويتعلم أن تلك السيادة لا تستلزم أية محاولةٍ للارتقاء، فهي مضمونة منذ لحظة ولادته ذكرًا. بذا لن يضطرّ لأيّ سعي للارتفاع بنفسه من أيّ انحدار ما دامت أنثاه تقبع أسفله بدرجات، وما دام رغم كلّ هوانه “سيّدًا” عليها. فإذا هو مع أول محاولة للأنثى أن ترتقي نحو إنسانيتها وتستقلّ، يخشى مرآةَ حقيقته، أو انسحاب بساط “عرشه” المغشوش من تحت قدميه. يبدو القتل لذاك التهديد سبيلاً يسيرًا يعيد إليه مكانتَه والاعترافَ به. هي غاية الاحتلال لضمان مشروعه، ولكن شرائحَ هائلةً من مجتمعنا ودون إدراكٍ لهَول الخطورة تتماهى معها حد الاعتناق.
هل نبثّ لأبنائنا إذن أن بإمكان المرء أن يكون سارقًا أو مغتصبًا، تاجرًا للمخدرات ومرتشيًا ،مجرمًا أو عميلًا، ثم أن يتطهر بقتل أنثى لينال وسامَ “الشرف”؟، وأنّ الأنثى يكفي أن تخالف معتقَدات القبيلة أو تتمرّد على دونيّتها ليكون الثمن قتلها الجسديّ والمعنويّ؟!
لسنا بريئاتٍ من دمنا:
إذا تناسينا كم من النساء تعيش حياةً أشبه بالموت لا تفي أدنى أساسيات الكرامة الإنسانية، فإننا لا نملك أن نتناسى أننا هنا إزاء أحدّ وأشدّ صور الاغتيال الذي تبدو فيه المرأة ضحيّةً وجانيةً أيضًا، فيما تتبنّاه كثيراتٌ وتنشئن الأبناءَ عليه، لتتجلى أبشع انعكاساته في الفكر الذي تجذّر في المرأة قبل سواها، إذ كيف لأنثى أن تطالِب بإنسانيتها ما دامت مؤمنةً أنّ الإله يفرض دونيّتها، وأنّ “صلاحها” وعدم “نشوزها” مشروط برضى الذكور؟ وأنّ اغتصابها حقّ شرعيّ، وأنها عورةٌ مسؤولةٌ عن شهوة من لا يمتلك مقاومة الفتنة؟ وكيف يمكن أن تمنح هذه الأنثى أبناءً مختلفين وهي غارقة في فكرٍ ذكوريّ لا تسبح إلا في مياهه؟
إنه تزاوُج بين تشويه الفكر الديني والاجتماعيّ بما يحارب الهزائم بالانتحار المبطّن ، يؤججه صمت من يختزل “النضال الوطنيّ” بمعاداة الاحتلال الخارجيّ ويتعامى عن أشكال احتلال داخليّ يكبّل الإنسان وينحدر به إلى هاوية أخلاقية، في ظلّ دعم المؤسسة لسيادة هذا لاحتلال ذهنيتنا، وتقاعس الشرطة في التعاطي مع استفحال الجريمة الداخلية وتغذية ما يشذّب أيّ ارتقاء للمجتمع. 
هكذا تنحسر الأصوات الصارخة مبحوحةً ولا يرتقي ردّ الفعل إلى خطورة ما يفترسنا، لا سيّما إذ نغفل أنّ القضية ليست قضية المرأة وحدها، وأنّ المعركة ليست بين المرأة والرجل إنما بين المجتمع بكافة أفراده وبين فكرٍ يسلب الأفراد إنسانيتهم ويؤسّس لأحد أبنائه قاتلاً ولإحداهنّ قتيلة.
هل ثمة أمل؟ 
في ظلّ قتامة الصورة ووسط غليان نسبة العنف المجتمعيّ بشكلٍ عام، وارتفاع صخب الساعين إلى إلغاء كلّ مختلف باسم العرف أو الدين أو حتى الوطنية، وتناسُل مَن يعتبرون أنفسهم حُرّاس أخلاق سواهم ولو خلَت أنفسهم من كلّ معاني الأخلاق، ووسط خفوت وشُحّ الجهات المولية اهتمامًا موضوعيًّا للقضية (عدا التنظيمات النسوية وقليل جدًّا من الجمعيات الثقافية)، فإننا نبدو في دوّامةٍ سحيقةٍ لا يبدو الأمل فيها مبلغًا يسيرًا، ولكننا نملك حق الحلم بأن يتآزرَ المؤمنون ببناء الإنسان أوّلًا، لندرك أنّ الوطنية الحقيقية تتطلب استنهاضَ كافة القوى لمحاربة أشكال الاحتلال الفكريّ الذي يحول دون ارتقاءٍ إنسانيّ ، فلن يحرر الأوطان من كان وعيه مستعبَدًا . ولن يسعفنَا أن نحدّق في تجليات المرض وننسى منابعَه. الحلم بتضافر القوى بين جميع الأطراف الثقافية والنسوية / السياسية والوطنية ولجنة المتابعة التي آن لها أن تنظر لهذه القضايا بعينٍ مفتوحة ، للانطلاق نحو مشروع نضاليّ ثقافيّ حقيقيّ ممنهَج، تكون عتبة التغيير فيه دعمَ برامج مكثفة لرفع الوعي وتثقيف الشبيبة الناشئة نحو مجتمعٍ مدنيّ إنسانُه حرّ حقًّا، مؤمن بذاته ساعٍ للارتقاء بأخلاقياته ووعيه، متقبّل للاختلاف، طامح إلى السيادة على ذاته لا على سواه . تلحّ حاجتنا إلى ثورةٍ عميقةٍ على الذات أوّلًا كي نملك أن نثور على ما هو خارجنا، كي يعيَ أبناؤنا أنّ المرأة والرجل في خندقٍ واحد ضدّ فكرٍ ينتهك إنسانية كليهما، فكرٍ يدفع بالمجتمع إلى غياهب العنف وجحيمه ويؤسّس لشقّيه مجرمًا وضحية. لنا أن ندّعيَ أنّ عودة المكانة للنضال الثقافيّ خطوةٌ أولى في سبيلنا الوحيد الممكن لمحاربة ذهنٍ تشرّب السموم ببثّه وعيًا بديلًا ، وإلا فإنّ أبناءنا سيتوارثون أنّ كلّ الدناءات لا تعيب شرف أحدهم ، ما دام قادرًا أن يقتل امرأةً، وأنّ الشرف رخيصٌ جدًّا جدًّا، لا يعدو ثمنه حفنة دم.
**ملاحظة: الإشارة إلى البحث الذي أجرته جمعية بلدنا وتنظيم كيان في اوساط الشبيبة.
____________
*كاتبة فلسطينية 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *