كفاح الغصين
خاص ( ثقافات )
لقائي مع الراحل الكبير سميح القاسم، جاء في الثالث من ديسمبر 2012، بعد غياب طويل بيني وبينه، وهو الصديق الذي كم تفقدني، بعد مشاركتي إياه أمسية في القدس من سنوات طويلة، وللحديث هذا قصة، كنت أدرس ماجستير صحافة بالجامعة الإسلامية، ويومها طلب منا مدرس التحرير الصحفي تكليفاً يتعلق بإجراء مقابلات مع أشخاص في المجتمع، قلت له يومها بعفوية هل أجري حديثاً مع سميح القاسم؟ صمت ثم قال هل بإمكانك؟ ثم استطرد أنت تستطيعين ذلك يا شاعرتنا الرائعة، عدت للبيت وطلبته على تليفون بيته، جاءني صوت زوجته التي أخبرتني أنه مريض ولكنه سيكلمني، فرحت عندما سمعت صوته الهادئ، وشق صدري ألم لسعاله المفاجئ، قلت له أريد أن أتحدث معك في لقاء، قال لي متعب، أجبته ولكني مصممة يا صديقي، فقال لي إذن نتحدث في الصباح غداً، وكان ذلك، أمسكت دفاتري وأخذت أسجل ما يقوله، قال لي يومها صدقيني أنا متعب، ولكني سأدير حواري معك، قال لي الكثير، وربما عدت في بعض أسئلتي للقاء سابق معه أجراه صحفي كبير، ولكني أضفت عليه بعض نكهة غزة الخاصة بمواجعها، ومضى الوقت على وعد التواصل، وأخذت حديثي لمدرسي ونلت علامة المادة، كنت على رغبة تامة في نشر اللقاء ولكن رحيله سربلني طويلاً، لم أعتقد أنه سيموت يوماً، ذلك الرجل الذي لا يخاف الموت ولكن يكرهه، وضعت اللقاء طَي أدراجي الخاصة حتى آنت الفرصة ليرى النور عبر “ثقافات”.
كان من الصعب جداً عليّ أن يأتيني صوته الساعل عبر الهاتف ليوقظني من غفلة سنوات عدة لم أحادثه فيها
ويضعني على قارعة البهجة لسماع ذاك الصوت الذي لطالما هز جنبات الأماكن بـ:
تقدموا.. تقدموا.. تقدموا.. تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
وأنا التي شرفت ذات سنة بمشاركته في إحياء أمسية في جمعية الشبان المسيحية بالقدس وقت أن قدمني كمبدعة شابة، وقتها ما زلت أذكر صوته المدوي كرعدٍ جاء بين جنبات غيمة محاولاً إيقاظ المدينة من سبات
قاطنيها مزمجراً كنمر في حلبةِ ظلمٍ رومانية..
جاءني صوته هذا المساء بحلةٍ ليلكية موشحة بفقد شق برتقالته الآخر، مكابراً كعادته، متشحاً بعباءة عنفوان مقاومته الوطنية الراسخة، متكئاً على زند الإعياء، مفرطاً في احتساء الوجع والكبرياء.
بعد شيءٍ من اعتذاري الصادق عن الغياب طلبت منه أن يكون حواري معه أشبه بالدردشة فرحب بذلك قائلاً لك ما تشائين..
في تشرين الثاني من العام 2011، أصدرت كتاب سيرة أسميته “(إ نها مجرّد منفضة) تحت العنوان الرئيسي كتب بشكل غير عاديّ وغير مُتبع: لأبي محمد سميح بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسين بن محمد بن على بن الحسين بن سعيد بن خير بن محمد بن سلمان بن الحسين بن على بن خير بن محمد بن الحسين”. وكأنه يؤرخ لشجرة عائلة لأجيال تتعاقب بنفس الأسماء، حاملة معها نواة الاستمرار والتعاقب والديمومة…
* ماذا تعني لك تلك الشجرة..؟
أنا لم أقصد أن أكتبها عن شجرة عائلة، هي بالنسبة لي نقاط انطلاق بمراحل التاريخ، لو كان فيها خائن أو سمسار يبيع أرضه للعدو أو عميل لأهملتها بالكامل، لقد كان جدّ جدّي من فرسان صلاح الدين الأيوبي وقاتل في حطين وغيرها- لذلك أنا أحبّه. أعتزّ بدوره قطعاً. أنا أتعامل مع الأشخاص والأفراد من خلال تاريخهم وأتعامل مع سيرة جدي كسيرة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي أتخيله بموقعه في شجرة العائلة. ليس المقصود هنا البيولوجيا، المهم الإطار الوطني والاجتماعي والبعد التاريخي بغض النظر عن الموقع العائلي أو العرقي أو الطائفي..
* وماذا عن الطائفة الدرزية..؟
الطائفة العربية الدرزية ليس فيها أيّ تناقض، أو ضبابية، عندما تجلس مع المُسنين والختيارية والمشايخ الدروز يقولون لك إننا عرب ومسلمون وروحنا فلسطينية، هذه قناعات لها احترامها.
* أنت أول شعراء المقاومة، وحتى الآن، وبعد تعاقب الأجيال، بقيت شاعر المقاومة الأخير. هناك من يقول إنّ شعر المقاومة انتهى ولا وجود له؟
أنا أعتز برأي بعض النقاد الذين يرونني مؤسس شعر المقاومة وأتمنى أن تكون قصيدتي قد قامت بواجبها تحت هذا الشعار ولكن الذين يقولون إن شعر المقاومة انتهى لا يفقهون ما يقولون، لأن المقاومة تنتج عن وجود الاحتلال والقهر والقمع والطاغوت، فهل تحررت بلادنا؟ هل عادت القدس عاصمة لحريتنا؟ هل تحرر الوطن العربي؟ في آخر زيارة للمغرب أخذوني لسبتة ومليلية في شمال المغرب هناك. انهرتُ. انفجرت بالبكاء. قلت لهم لا أريد أن أذهب. كان الوضع هناك مثل حواجز غزة وحاجز قلنديا. هل تحرّرت؟ هل انتهت “سايكس بيكو”؟ هل لدينا دولة عربية محترمة علمانية متنورة حضارية تعددية؟ ”لنقول إن زمن المقاومة انتهى، هذا الكلام سطحي، ضحل وغير مسئول وقائله لا يفهم معنى الشعر ولا يفهم المعنى الأكيد للمقاومة.
* هل تعتقد بأننا في فلسطين نفتقد لمشروع ثقافي واضح المعالم في مواجهة حرب التهويد الممنهجة؟
هو ليس مشروعاً أو برمجة، هو مسألة إحساس بالمسؤولية، المثقف الملتزم يفعل ما عليه بأمانة وبعد فعل المثقف وبعد النتاج الثقافي يتحقق المشروع.
* حدثني عن السنة التي أمضيتها في الجيش الإسرائيلي مسجوناً ومدرّساً خاصة أنك كنت من أوائل الذين رفضوا التجنيد الإسرائيلي لفلسطيني 48؟
لقد كنت معتقلاً وقتها لدى الجيش الإسرائيلي وفُرض عليَّ أن أعلم الجنود الذين كان بينهم مجندون من كل الطوائف من السنة والمسيحيين، لقد رفضت قانون الخدمة العسكرية رفضاً باتاً فأنا لا ألعب لعبة الطائفية
والتجنيد كان مؤامرة قوامها (فرق تسد) وفي يوم الأرض المجندون العرب الذين أجبروا على التجنيد وقفوا بأسلحتهم الإسرائيلية يدافعون عن أرضهم الفلسطينية ضد الاحتلال الغاصب.
* محمود درويش شق البرتقالة الآخر.. كيف كان الحضور وكيف كان الغياب؟؟
محمود أنا أكبر منه سناً، كان طفلاً طيباً وبريئاً ووديعاً جداً. عشنا عمراً مديداً في ثنائية نادرة بتاريخ الأدب بشكل عام، لذلك رحيله كان كمن يفتقد الأخ الأصغر الذي يعتبره توأمه، ففي كل ليلة رأس سنة كان محمود يسهر معي، إما في البيت عند أهلي أو في نادٍ ليليّ. وحتى بعد خروجه وبعد أن اختلفنا ثم اصطلحنا، ظللنا نلتقي ونسهر في عيد ميلاده وعيد ميلادي. وفي ليلة رأس السنة بعد وفاته فتحت التليفون وطلبت رقمه. كان لديّ إحساس بأنه سيردّ. حتى زوجتي تفاجأت، سألتني بمن تتصل، قلت: بمحمود. لكنه لم يردّ.
عشنا عمراً مديداً بدون أي مسلكية أو أنانية أو حسد أو غيرة، لأن لكل منا عمارته الخاصة به. كان يأتي في الليل ويسألني: ماذا كتبتَ؟ ما الجديد لديك؟ أقرأ له. أسأله عن جديده، يقرأ لي. ونتناقش.” أنا مثلا عُرفت على مستوى الشعر قبله. ومجموعتي صدرت في 1958 أي قبل أن يصدر محمود ديوانه الأول بسنوات، ولكن أيضاً نحن بشر نختلف من حيث التكوين البيولوجي وفي المواقف السياسية والفكرية والاجتماعية، نختلف في السفر والترحال ولكن يبقى بيننا الصدق الإنساني.
* ولكن هناك كان خلاف بينكما وكان واضحاً ذلك في الرسائل بين شقي البرتقالة
خلافي مع أخي رحمه الله محمود درويش. خلافي معه معروف، ليس سراً. فنحن اختلفنا بشكل جديّ. وفي “الرسائل” كتب “أنا نادم على خروجي”. اعترافه كان شجاعاً ينم عن وفاء ومسئولية. كنت أقول عليه: “على وين رايح؟” ما تكتبه ليس أنت. ليس شعرك. وفي فترة معينة كنت أصرخ عليه وأقول له: “والله أتبرأ منك! هذا ليس أنتَ”.
* هل شعرت بخيانة محمود درويش لك عند مغادرته البلد؟
طبعاً. غضبتُ جداً وصُدمت. لم أتخيل أن يذهب، وكتبت وردّ عليّ وتدخل وقتها أبو عمار، كيف يغادر ونحن سائران في طريق مع بعضنا البعض، نتقاسم يومنا سوية، نجوع سوية، نعيش سوية، نقرأ سوية، نعمل سوية، نتظاهر سوية ونُسجن سوية، ولا يوجد مبرّر. لم يقنعني حتى اليوم. رحل دون أن يقنعني رحمه الله.
* كيف ترى جيل الكتاب الفلسطينيين الشباب اليوم؟ ومن تتابع؟
أنا أتابع الجميع، شعراً ونثراً. لدينا طاقات جميلة جداً وموهوبة وأنا أرفض أي إيحاء بأن شعراء المقاومة يشكلون سقفاً لا يخترقها أحد، المواهب رائعة وكبيرة وقوية وجميلة، ولكن اللافت أنه لا يوجد عمل جماعيّ. وبما أنّ كتابة القصيدة عمل فردي جداً، يجب من أجل التوازن أن يكون احتكاكاً جماعيّاً.
* والأدب النسوي؟
القلم النسوي كان موجوداً في تاريخ فلسطين دائماً وحاضراً، هناك أسماء رسخت أكثر من غيرها مثل فدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي، وأنتِ بحق أخذت موقعاً متميزاً (يقول لي.. فأعتبرها بحق شهادة) وهناك أسماء جديدة واعدة.
* فدوى طوقان ثالوثكم الجميل أنت ومحمود.. كيف عاصرتها..؟
فدوى إنسانة رائعة على المستوى الشخصي وملتزمة وبحكم علاقتنا بها خرجت من المناخ العاطفي للمناخ الأكثر حدة في التعبير الوطني، كتابتها اختلفت حين اقترنت بعلاقتها الأخوية مع محمود ومعي، وطبعاً مع معين بسيسو وراشد حسين وغيره.
* هل وجودك أيضاً انتزع محمود درويش من عباءة نزار؟
أنا أخرجتُ محمود من نزار قباني. في مجموعته الأولى “عصافير بلا أجنحة” كان مفتوناً بنزار قباني. كنت أقول له: يا محمود نزار فنان عظيم ولكنه ليس نحن. ليس لنا. شعرنا لا يمكن أن يكون مثل شعر نزار. نحن حياتنا شيء آخر، واقعنا شيء آخر. يجب على شعرنا أن يمثلنا نحن وواقعنا نحن لا أن يمثل نزار أو المتنبي أو أحمد شوقي. نحن نكتب قصيدتنا التي تشبهنا. وعندما بدأ العالم العربي يقول “شعراء المقاومة” فوجئت وصرنا نضحك. قلت له: خذ خذ انظر ماذا كتبوا… لم نفكر بالموضوع ولو لمرة واحدة بأننا شعراء مقاومة وشعراء وطن وخلافه. كانت معركتنا أن نعيش يوماً آخر، وأن نعطي للناس شيئاً من الأمل والفرح.. كانت معركتنا أن نفعل واجبنا الوطني الأخلاقي والإنساني.
* صحيح ما هي حكاية المقالة التي كتبتها ضد برامج الطبخ في الفضائيات العربية؟؟
يضحك.. لقد كتبت مقالة فعلاً ضد برامج الطبخ المستفزة التي يبثونها على الفضائيات العربية. وكتبت بغضب وحرقة، مالنا ومال المطبخ الفرنسي والمطبخ الإيطالي والشيف رمزي والشيف فلان وغيرهم، نحن أمّة جائعة! بالكاد تحصل على رغيف الخبز والطعمية؛ فلماذا هذه البرامج؟ وما جدواها، إن الشعوب الفقيرة بحاجة للكفاف لا لشهي الطعام في المطابخ العالمية، تلك البرامج كانت تُجنّني، تستفزني، أتضايق. لأن هذا تزوير لحياتنا. ليست مشكلتنا في الأمّة العربية الآن الطبخ، . مشكلتنا رغيف الخبز. مشكلتنا البطالة، مثلاً ضعوا برامجَ عن العمال العاطلين عن العمل، عن التنمية، عن الأدب، عن المثقفين، عن الأكاديميين الكثر العاطلين عن العمل، لكنني في المدّة الأخيرة، ومنذ بدء المرض، صرتُ أضطرّ للبقاء في البيت فترات طويلة. ولكن مع تكرار نشرات الأخبار اكتشفتُ أنني صرتُ أتابع برامج الطبخ. يضحك. انقلبت على نفسي.. بعد أن كتبت موبخاً تلك البرامج”، هذا شرّ البلية الذي يضحك..
* من بين إصداراتك العديدة جداً.. هل هناك كتاب أو ديوان هو الأحبّ لديك؟
لا. كلّ مجموعة وكتاب صدر في مرحلته وكان له دوره في تلك المرحلة ويعبر عنها. وتجدين شعراء مثلاً يصدرون الأعمال الكاملة ولكنهم يسقطون ويتجاهلون المجموعة الأولى. أنا لم أتجاهل مجموعتي الأولى “مواكب الشمس”، مع أنها كانت ساذجة من ناحية فنية. قصائد كتبها ابن 12 و13 و15 عاماً، من الطبيعي أن تكون ساذجة لكنني لم أتنازل عنها لعفويتها واكتشفت أيضاً أموراً مثل قصيدة “ليست جميلة”، ساذجة ولكن فيها شيء خاصّ.. كان أبناء جيلي الذين يقفون على عتبة الشباب جميعهم يتغزلون ويبحثون عن المرأة الجميلة، ولكن شاباً في السابعة عشرة من عمره يقول لهم: وما لها غير الجميلة؟ هي إنسانة أيضاً ومن حقها أن تُحِب وتُحَب. هذه القصيدة لفتت نظري لاحقاً ربما بعد خمسين عاماً، دل على أنني كنت وقتها متمرداً على الذائقة والمفاهيم ما يشبه ثورة إنسانية رغم أنني كتبتها وعمري 17 عاماً ولم يكن ينقصني نساء جميلات من حولي..
* ما هو كتابك المفضل.. عبر تاريخك الطويل..؟
أنا لا أجامل.. كتابي المفضل دائماً هو القرآن الكريم.. دعيني أتحدث عن المفهوم الإبداعي الأدبي
القرآن كتاب معجز، وفيه حداثة، أتمناها للجميع، فيه اللغة وروعتها والأسلوب ومتانته، فيه ما لا يوجد في كتاب سواه لذلك لا أجد لدي أفضل منه بكل المعايير.
* ما الذي يدفع شاعر معروف بتجربته الشعرية للتجربة النثرية..؟
لا يوجد قانون يمنع التجريب والمغامرة الأدبية، للشعر شروطه وظروفه، وأيضاً للنثر مبرراته لذلك هناك تكامل بين الشعر والنثر ولا تناقض بينهما على الإطلاق.
* هل هناك طقوس خاصة للكتابة؟
. لا أحبّ الحديث عن طقوس، ولكن هناك بيئة للكتابة. مثلاً بعد منتصف الليل حيث يكون الجميع نياماً، أدخل المطبخ أو المكتب أو في الطابق السفلي. من البيت، في المطبخ أكون محاطاُ برائحة القهوة وأصوات أنفاس النيام ومواء قطة في الكرم. تحت شجرة الزيتون أو التين الدافئة، . هذا جوّ جميل جداً للكتابة. أنا أكتب من منتصف الليل إلى الصباح حيث أصوات الليل.
. كنت أسخر من الشعراء الذين يتحدثون عن طقوس خاصة. وأستعجب من قولهم، مرة قال شاعر أوروبي: لا أستطيع الكتابة إلا إذا شممت رائحة السّفرجل الفاسد. ضحكت يومها من أين سآتي له بسفرجل فاسد وأشممه إياه؟… (نزار قباني) كان يحبّ الكتابة على ورق ملون. كان هذا من طقوس كتابته، أنا في فترة معينة لم أكن أعرف الكتابة إلا بحبر سائل. كنت أخجل من الكتابة بحبر جافّ. ومع مرور الزمن تغيّرتُ، فأحيانا تكون في مكان ما ولست مستعداً وتأتيك شطرة وليس معك قلم سائل فتكتبها بالمتاح قبل أن تتسلل هاربة منك.
* قالت لي العصفورة بأنك تلحن وترسم…
يضحك كطفلٍ ضبطته أمه بسرٍه الصغير، قصة التلحين نكتة. كان طلاب جامعة حيفا يحضرون لاحتفالية وأنا كتبت لهم كلمات لمسرحية اسمها “دولا”.. دولا حيروني، دولا جننوني.. بدهن نبدل كل النفط بقنينة كوكا كولا… قصيدة ساخرة فيها تلاعب على كلمتي “دولا” و”دولة”. ورغبوا بتلحين الأغنية. كان لي صديق اسمه رجب الصلح، قلت له خذ ولحّن، فقال أنا أعزف ولكنني لا ألحن. فقلت له: تعرف؟ أنا سألحّنها وأنت أكمل. وهكذا حدث. ثم صاروا يغنون الأغنية في الأعراس والمناسبات وسمير الحافظ يغنيها وغيره كثر. ولكنها كانت تجربة عابرة.. لها جماليتها لدي كتجربة عابرة حلوة. المرحوم أخي سامي كان عازف عود ومُغنّياً وكنت أمسك العود وأعزف “سماعي” بلا دراسة، كنت أدندن، أما الرسم أنا أحب الرسم ولكن هذه الموهبة فطرية ولم أدرسها. ولكنني بجد نادم لأنني لم أدرس الموسيقى والرسم.
* هل الإيقاع والصورة الشعرية والأخيلة عوضا تلك الرغبة؟
إلى حد كبير.. الشعر ساعدني على تقديم الموسيقى النابضة، واللوحة الناطقة.
* وكأنك تضبط القصيدة على الإيقاع.. أو تكتب بيد وتضرب الإيقاع بيد في آن واحد؟
صحيح. أذكر أنني كنت مرة مع الجواهري رحمه الله في القاهرة وذهبنا لنتناول الغداء بالمناسبة الجواهري أستاذنا الكبير وأخونا الكبير أيضاً ثم بدأ الجواهري يدندن بصوت عال وبإيقاع حثيث، فقلت له: ما بك؟ فقال: “أدندن قصيدة.. أنا أغني القصيدة قبل كتابتها”. يلحنها ثم يكتبها. أي أنه يوجد الموسيقى أولاً ثم يصيغ القصيدة هذه صفة مشتركة عند الكثير من الشعراء، الهمهمة. نعم، الإيقاع، مع أنّ هذه ليست مسألة سهلة بالمرة. ”إنها تحتاج إلى ذائقة عالية وحس موسيقى راقٍ ودراية.
صمت قليلاً بعد أن فاجأه السعال.. ثم قال لي أخشى أن لا أطيل فأنا أشعر بالتعب لكوني مريضاً
فاجأني حزنه وأنا التي تخيلته طويلاً لا يحزن كالباقين…. إلا على ضياع الوطن
أشعر في صوتك بلمسة حزن تغلفها المكابرة وأنت تشير بشيء من الإفصاح الخفي عن مرضك..
لا أحب للمرء إلا أن يكون صادقاً.. الصدق ثم الصدق ثم الصدق
ليس مريحاً أن يمرض الإنسان كمرض صعب، فأنا أحلم بقصيدة جديدة ونص جديد
* ماذا تغير حين علمت بإصابتك بمرض بالسرطان؟
إذا قلت لك إنّ هذا لم يؤثر عليّ مطلقاً فهذا سيكون كلاماً وادعاء غير مبررين. أنا لا أدعي البطولة، الإنسان معرّض لكل شيء. كان نوعاً من المفاجأة حين يقول لك الطبيب إنّ عندك ورماً خبيثاً، لكن السّؤال يظل في رد الفعل. وردّ فعلي العفوي كان: سرطان؟.. أنا لا أحب ثمار البحر، أريد سمكاً. وهو تفاجأ أيضاً من ردة فعلي ولكني وبصراحة قلتها وأقولها
“أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك..
“لست خائفاً… أنا لا أعرف حتى أسماء الأدوية، لولا زوجتي لا أعرف شيئاً ولا آخذ الأدوية. لا أذهب إلى مواعيد الفحص لولاها، لا أنتبه لتلك الأمور لولاها، المرض صعب، مربك بحق وإيماني قوي بالله وليس عيباً أن أقول إنني لست جباناً. لم أكن جباناً في حياتي ولا أريد أن أصير في نهاية عمري جباناً.
هكذا كتبت لمرض السرطان:
“اشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان،
اشرب كي أقرأ بختك في الفنجان،
اشرب…
* من هم أصدقاؤك؟
يجب أن نميز بين الأصدقاء والمعارف، فقضية الأصدقاء مسألة صعبة لأن الخيبة تكون حقاً صعبة
لدي معارف كثيرون ولدي أصدقاء معدودون، وطبيعة تكويني تجعلني أصطفي نخبة منهم تروق قناعاتي.
ولكن أهم صداقة للمرء تكون مع نفسه، مع ذاته، بهذا المعنى أنا مرتاح مع ذاتي.
* هناك استراحات للمقاتل.. وأقصد هنا بالتحديد متعك الصغيرة، لهوك البريء، ألعابك المفضلة
في أيام الشباب كنت أحبّ السّينما كثيراً. كنت أقول لمحمود: يوجد فيلم جديد. يقول لي: أنا أريد الذهاب إلى البحر. هو يذهب للبحر وأنا لمشاهدة الفيلم الجديد.. الذي بعد ذلك صرت أعلق عليها في الاتحاد، أما الألعاب فلا أعرف من ألعاب الطاولة إلا لعبة المحبوسة فقط.. كنت ألعبها مع محمود رحمه الله ومع أدونيس، ومع صليبا خميس وحنا أبو حنا والمعارف أحياناً، مع الأصدقاء المقرّبين. ألعب “الطرنيب” وهي من ألعاب الشدّة..
* كان لك زاوية في الاتحاد اسمها سينماذا..
كتبت زاوية أسميتها سبنماذا صحيح وكنت أكتب تعليقاتي عن آخر الأفلام التي كنت أشاهدها في السينما فقد كنت محباً للأفلام السينمائية
* ما هي الأفلام المحببة لديك؟
لا أريد أن أتحدّث عن الأفلام الكبيرة والمعروفة والتي تعجبني تحديداً ولكن أذكر بشكل خاص فيلم “إنهم يطلقون النار على الخيول أليس كذلك؟”
(They Shoot Horses، Don’t They).
فيلم مدهش يعبر عن إنسانية موغلة عميقة. ولذلك بعد مشاهدة هذا الفيلم بفترة دعوني إلى مهرجان دوليّ ضدّ الرّقابة على الأدب في بريطانيا وطلبوا مني ومن كلّ الضيوف أن نقترح عليهم شعاراً للمهرجان. قلت لهم أقترح شعاراً بسيطاً وهو على غرار الفيلم ذاك وهو
Don’t They?). Shoot Writers They)
تبنوه رأساً كشعار للمهرجان.
* ماذا تعني لك القصيدة..؟؟
القصيدة علاج.. مخرج.. سلاح.. وردة.. مبرر للاستمرار
* وأنت المقاتل دائماً كنت تقول القصيدة عندي أهم من الوطن..
المقصود هنا الحالة الإبداعية، فالمبدع يجب عليه أن يتعامل مع عمله الأدبي على أنه أهم شيء في الكون حتى لو أغضب الآخرين، “أنا قلتها وأكرّرها، رغم أنّ زوجتي وأولادي لم يعجبهم هذا الحديث من قبل. ولكن أهمّ شيء في الدنيا لديّ قصيدتي. أهم من صحتي ومن أسرتي ومن الوطن- قصيدتي عندي أهمّ من الوطن.”
* وأما حيفا!
لكل المدن وجهان لكن هناك وجه لحيفا..
حيفا عشت فيها أكثر من عشرين عاماً بحكم العمل، حيفا كأي مدينة أعطت تجربتي الشعرية والحياتية الكثير ولكن يظل هناك معنى خاص لحيفا، لقد كانت حسب الوثائق الرسمية في 48 مناصفة بين اليهود والعرب ثم تحولوا لأقلية عربية، المأساة الفلسطينية تجسدها حيفا بشكل خاص كما اللد والرملة.. وغيرهما.
* غزة… ماذا لديك عن غزة؟؟
غزة ليست مدينة جديدة، أنا أعرفها من أيام يشوع بن نون قاومت الاحتلال اليهودي كما قالت التوراة، غزة حرب الدفاع عن الكرامة، لقد كانت دائماً في قصيدتي، لقد كتبت لها وعنها أكثر من قصيدة، في الحرب قبل الأخيرة على غزة حملت سربيتي الشعرية عنها بعنوان أنا متأسف وقرأتها في عدة أماكن في العالم
ماتت خِرافي على ساعدي وبئري أهالوا عليها الصخور
ولي تينةٌ أتلفوها وزيتونة جرّفوها ولي نخلة وبّخوها
ودالية عنّفوها وليمونة قصّفوها ونعناعة جفّفوها
عقاباً فكيف تفوح بحزني وضعفي وكيف تبوح بخوفي عليها
إلهي وما من إله سواك أراك بقلبي وروحي
أراك وأنت تراني أسيراً حبيس الشِراك
غزة مدينتي الجميلة التي أتمنى أن يمد الله في عمري لأزورها ثانية..
* لقد كرمتك غزة ذات صباح في جامعة الأزهر وسط جمهورك الكبير وكنت وقتها فارس المشهد.. أتذكر ذلك؟؟
لا أنسى ذلك مطلقاً، فغزة العريقة بتاريخها وناسها لا يمكن أن تتجاوزها الذاكرة وصدقاً أتوق إلى رؤيتها ثانية وقراءة الشعر فيها مرة أخرى
* وأنت في الجانب الآخر من النهر كما يقولون كيف رأيت الحرب الأخيرة على غزة، تلك الحرب التي فرضت واقعاً جديداً في معادلات الربح والخسارة وفي مضامين النصر..؟
أنا أحب العدل التاريخي، كل حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والوطن العربي كانت نزهات أو نزهة قتالية فقط
ولكن هذه الحرب عرف فيها الإسرائيليون معنى الحرب التبادلية لأول مرة. إن تصفعني مرة أصفعك خمس مرات.
* الحرب الأخيرة أعادت فيها غزة الكرامة للأمة العربية وللقهر الفلسطيني بعد انتصار المقاومة الوطنية بفصائلها المتنوعة على الغطرسة الإسرائيلية جاء توجه الاخ أبو مازن للأمم المتحدة وحصل على عضوية فلسطين فيها كيف تقرأ ذلك الإنجاز؟
أنا أقول احكموا على الأمور بخواتيمها.. إذا كانت قوى الشر في أمريكا وإسرائيل وبريطانيا غضبت لهذا الحد فذلك يعني أنه إنجاز على الطريق وإن كان ليس نهائياً ويجب احترام هذا الإنجاز
* الانقسام الفلسطيني.. والمصالحة بين الإخوة كيف تراهما؟
يتنهد بوضوح.. لماذا تصرين يا كفاح على تجديد حزني..؟
أجيبه بسرعه.. أنا لست مصرة على تجديد حزنك ولكني مصرة على القول بأنني هنا في غزة
يرد.. الانقسام لا يليق بإنجازات شعبنا ككل، علينا عدم التشنج أو التعصب الحزبي لأن المتضرر منه المواطن
الفلسطيني الذي ناضل وضحى وصبر ويستحق العيش بكرامة بدون نزاعات داخلية تكسر ظهره، فغزة هي القيم المتأصلة التي يجب أن تعبر عن حضارة هذا الشعب
أما المصالحة أعتقد أنها هي البلسم الشافي لجراحات كثيرة، وأيضاً هي مفتاح القوة في المراحل المقبلة في الصراع الأبدي ضد قوى الطغيان والشر.
أنهيت حواري مع الشاعر سميح القاسم وأنا في أشد حالات نهمي الصحفي لحوارات أخرى ممتعة كتلك… آثرت أن أصمت كي لا أسبب مزيداً من التعب للفارس الذي يريد أن يرتاح قليلاً بعد أن تلى:
البيان قبل الأخير عن واقع الـحال مع الغزاة الّذين لا يقرؤون
لاَ. لاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ..
يَوْمُ الْحِسَابِ فَاتَكُمْ
وَبَعْثَرَتْ أَوْقَاتَكُمْ
أَرْقَامُهَا الْمُبَعْثَرَهْ
فَلاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ…
تَدَفَّقُوا مِنْ مَجْزَرَهْ
وَانْطَلِقُوا فِي مَجْزَرَه
أَشْلاَءُ قَتْلاَنَا عَلَى نَهْرِ الدِّمَاءِ قَنْطَرَهْ
فَلاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ
* توفي الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، بعد صراع مع مرض سرطان الكبد الذي داهمه مدة 3 سنوات، والذي أدى إلى تدهور حالته الصحية في الأيام الأخيرة حتى وافته المنية يوم الثلاثاء الموافق 19 أغسطس2014.