ترجمة وتقديم : مصطفى الرادقي*
خاص ( ثقافات )
كلما جرى الحديث عن أدب أمريكا اللاتينية المعاصر، إلا وذُكرتْ أبرزُ قاماته في مجال الكتابة والإبداع ، مثل غارسيا ماركيز،وبورخيس ، وفارغاس يوسا ،وخوان رولفو، وإدواردو غاليانو،وإرنيستو ساباتو…وآخرين كُثر. ويُعتبرالكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس (بناما 1928- مكسيكو2012)، أحد أكبروألمع هؤلاء العباقرة .فهوصحفي،وروائي،وقصاص، وكاتب سيناريو، وناقد..فمنذ خمسين سنة، لم يتوقف عن كتابة روايات باهرة تَمكّن عبرَها، ببراعة وذكاء، مِن أن يحكي عن الوجوه المتعددة لبلده المكسيك : تناقضاته ،آماله ، تاريخه، ثقافته وسحره. ينحدرمن أب اشتغل في السلك الديبلوماسي .عاش طفولة متنقلة بين عدة عواصم .وفي مراهقته عاد إلى المكسيك، ومن تَمَّ تابع دراسته الجامعية في الحقوق،ثم استكملها في جنيف بسويسرا.
عَمِلَ عضوافي البعثة المكسيكية التابعة للمنظمة العالمية للشغل، مُكلَّفا بالإعلام. ثم عُيّن سفيرا لبلده بفرنسا بين سنوات1975-1977.وأصدرعام 1955صحبةَ مُواطنه،الشاعر الكبيرأوكتافيوباث، “المجلة المكسيكية للأدب “، وأسسا معا دارالنشر” سيغلو 21″ . كما دَرّس بكُبريات الجامعات الأمريكية والأنجليزية . ونال جوائز رفيعة ،مثل جائزة سيرفانتس عام 1987،وجائزة الأميرأستورياس عام 1994. من بين أهم أعماله الأدبية : ” أيام الكرنفال ” (قصص- 1954) . ” الإقيمُ الأكثرُنَقاوةً “، 1958 – ” موتُ أرْتيمْيو كروز”، 1962- “نشيدُ العُميان “،1964 – ” أرضُنا “،1975- ” رأسُ الْهِيدْرَا “،1975- “المياهُ المُشتعِلة “1981- “الغْرِينْغُوالعجوز”،1985- “كريستوف وبيضتُه “،1987- ” المِرآةُ الدّفينَة “،1992 – ” الحُدود الزجاجية “،1995- ” أعوامٌ رُفقةَ لُورَا دْيَاز”،1999- ” شُموسُ المكسيك الخَمس”،2000- “حِصارُالنسر” ،2003
وبمناسبة صدوركتابه الذي يحمل عنوان، ” هذا ما أومِنُ به ” عام 2003،أجرى الصحفي فابيوغامبارو هذا الحوارالعميق والشيّق مع الكاتب ، الذي يقترح علينا نوعا من الأبجدية الشخصية جدا التي يعودُ فيها إلى مَساره وبعض الموضوعات الأثيرة لديه. إذ عبْرالمُناوبَة بين الذكريات الخاصة والتأملات السياسية ،وبين التعليقات الأدبية والمشاعر الحَميمية ، يؤلف الكاتب المكسيكي سيرة ذهنية فريدة وجذابة يَمنحُ من خلالها المفاتيح الخاصة بحياته ونتاجه الأدبي.فمِنَ الصداقة إلى بونويل، ومن فولكنرإلى الحرية، ومن الأوديسا إلى الثورة، ومن الجنس إلى كراهية الأجانب، تتواترفصولُ الكتاب- كمَداخِلِ قاموسٍ خاص- غنيةً بالمُفاجآت، ومُعينةً إيّانَا على فَهمٍ أفضلَ لِقناعاتِ رَجلٍ لمْ يَعُدْ فِكرُهُ ، وجاذبيتُهُ ، ووُدُّهُ في حاجةٍ إلى تأكيد .
نص الحوار:
السيد كارلوس فْوِينْتِيسْ، كيف رأى هذا الكتابُ النور؟ هَل هو عبارةٌ *
عن حَصِيلةٍ لِحَياتِك ؟
_ إن الأمرلا يتعلق بسيرة تقليدية . إنه بالأحرى نوعٌ من ” الحوار ” الشخصي جدا مع نفسي، ومع بعض تجارب حياتي عَبْرَ توظيفِ العديد من الأجناس الأدبية . إنه كتابُ اعترافات، مزجتُ فيه بين الذكريات،والتأمل،والسرد. فحينَ بدأتُ أفكرفي كتابة هذا الكتاب، كان مثالي هو دون كيشوت ؛ حيث للسيرة، والاعتراف، والقصة الخيالية ، مُجتمِعةً مكانَها في الأثر. بعد ذلك ، قررتُ أن أكتب فصولاً مُستقلة ،وأنْ أرتبها تَبَعاَ لِترتيب الحروف الأبجدية، لأنني لم أرغب في كتابة كتابٍ ذي مَسارٍخَطي .عموما، وحينما يتعلق الأمربكتابِ مُذكرات، فإن القارىء ينتظرُدائما مَساراً كرونولوجياً .لكن، يمكن أن نَتّبعَ إيقاعاً مُختلفا مثلما فعلَ غارسيا ماركيز في سيرته المُذهِلَة. الصيغة الأبجدية مكنتني إذاً من الكتابة وِفْقَ مِزاجي: يومٌ عن بلزاك ،واليومُ المُوالي عن الحَسد ، فاسِحاً مجالا شاسِعاً لِلخيال .
على مَدار الكتاب نَجدُكَ تَذكرعدة بُلدان عِشتَ بها: الولايات المتحدة ، * سويسرا، فرنسا، والأرجنتين .ماذا تركَ هذا التيهُ في ذاكرتكَ ،وعلى علاقاتكَ ببلدكَ الأصلي المكسيك ؟
_ إننا نعيشُ في عالم يجمعُ أجناساً مُختلفة ؛ إذاً فنحنُ جميعاً مواطنون عالميون. والكُتّاب ينطبقُ عليهم هذا الآن- وسيُصبحون أكثر- فيما بعد.لكن لديَ جذورمكسيكية عميقة . فخلال الفترة التي كنتُ ألحقُ فيها بوالدي في تيههِ الديبلوماسي،كنتُ أقضي كل إجازاتي بالمكسيك. ثم أقمتُ به لِفترات طويلة، مثلا إبّان الخمسينات.في تلك الفترة،كنتُ محدوداً في تحركاتي لأن إسمي كان مُدرَجاً في اللائحة السوداء للولايات المتحدة؛أقصد اللائحة الماكارثية ،حيث كنتُ على علاقة جيدة مع سيمون سينيوري، وإيف مونتان ،وميشيل فوكو، وغراهام غرين،
وإيريس مردوخ، والعديد من الآخرين. وقد لاحظَ غارسيا ماركيز التناقض الصارخ للموقف الأمريكي: إذ كانوا يمنعوننا من دخول بلدهم، بينما يسمحون بدخول كتبنا التي كانت أخطر منا .في العمق، كانت هذه الوضعية بالنسبة لنا مضحكة .لكن بالولايات المتحدة قد عملت الماكارثية على تحطيم رجالٍ، و دُروبِ حياةٍ، و حيواتٍ، و أُسَر. لِحسنِ الحظ ، انتهى المجتمع المدني الأمريكي بأنْ انتفض، مما مَكّنَ مِن وَضْعِ حَدٍّ لِهذه الفترة المظلمة.
المُلاحَظ أن فرنسا حاضرة بقوة في هذا الكتاب… ؟ *
_ لقد قضيتُ سنوات عديدة بباريس، حيث كنتُ سفيراً لِبلدي خلال منتصف السبعينات . وأولى إقاماتي تعود إلى الستينات. في عام 1968، كنتُ رُفقةَ خوليو كورتازاروآخرين فوق متاريس الحي اللاتيني. 68 كانتْ فترة جميلة مَيّزَتْها الأخوة والمتعة؛ هي فترة كرنفال، حيث انتقدنا للمرة الأولى المجتمع الذي لاَزِلنا نعيشُ فيه إلى اليوم، أعني المجتمع الاستهلاكي الخاضِع لِسيطرة المال،وأيضا لِلعبث والطيش و التسطيح .
هل كان لِغَلَيَانِ تلك المَرحلة تأثيرٌعلى أدبِكَ ؟ *
_ إنهُ من الصعب الحديث دائما عن علاقات مباشرة بين الأدب والسياسة. لأن الأمربصفة عامة لايتعلق بعلاقات تأثير فورية.فإذا كانت أحداث التاريخ تترك آثاراً على الكتابة، فإن هذه الآثارلاتظهرُفي الغالب إلا لاحِقاً جدا.مثلا ،تمكّنتُ من الكتابة عن الثورة المكسيكية،فقط لأنه كانت بيني وبينها مسافة زمنية طويلة أسعفتْني على رؤية هذه الأحداث من زاوية مختلفة. أيضا، تمكّنتُ من الحديث عن مذبحة 1968 بمدينة مِكسيكو، بساحة الثقافات الثلاث، فقط بعد مرورثلاثين سنة، وذلك في روايتي ” لورا دياز” .
_ إنهُ من الصعب الحديث دائما عن علاقات مباشرة بين الأدب والسياسة. لأن الأمربصفة عامة لايتعلق بعلاقات تأثير فورية.فإذا كانت أحداث التاريخ تترك آثاراً على الكتابة، فإن هذه الآثارلاتظهرُفي الغالب إلا لاحِقاً جدا.مثلا ،تمكّنتُ من الكتابة عن الثورة المكسيكية،فقط لأنه كانت بيني وبينها مسافة زمنية طويلة أسعفتْني على رؤية هذه الأحداث من زاوية مختلفة. أيضا، تمكّنتُ من الحديث عن مذبحة 1968 بمدينة مِكسيكو، بساحة الثقافات الثلاث، فقط بعد مرورثلاثين سنة، وذلك في روايتي ” لورا دياز” .
أنتَ تعيشُ اليوم بِلندن منذ عشر سنوات ،هل حياتُكَ جيدةٌ هناك ؟ *
_ في لندن، لَديّ حياةٌ مُنتظمَة وهادئة تُمَكِّنُني من العمل بصفةٍ جيدة . أستيقظُ باكراً جدا، وأكتبُ كل يوم إلى حدود منتصف النهار.أعرفُ أناساً قليلين جدا،وهذا يُجَنِّبُني الإزعاج الدائم. إجمالاً،أقضي الشتاء بالمكسيك .لكن، هناكَ لا أتمكنُ من الكتابة،لأن إيقاع الحياة الاجتماعية، والأصدقاء، والأسرة، ودعوات العشاء، والنقاشات…إلخ، تَشغلُ كُلَّ وقتي . ولكيْ أكتبَ روايةً، فأنا في حاجة إلى الهدوء، لأنه يَتوجَّبُ عليّ أنْ أمنحَها كلَّ وقتي، وألا أعيشَ إلا من أجلِها. ينبغي عليّ إذاً أنْ أنعزل؛ لكن في المكسيك ،على عكس لندن، هذا غير ممكن .
القول بأن علاقتَكَ بِبلدكَ تَنْبَني على التعلق والمسافة… يُمكنُ *
_ هذا صحيح. لقد عشتُ نصف حياتي بالمكسيك.لكن،فقط في العيش بعيداً عن بلدي تمكّنتُ من إيجاد المسافة المُلائمة والمنظور الجيد من أجل الحديث عنه في كتبي. كان عندي امتيازالعيش بعيداً، وهذا ساعدني على رؤيةٍ أفضل لِنقائصه، وأنْ أخوضَ مثلا،صراعاً داخلَ الثقافة المكسيكية ضد الوطنية المُتزمتة. لقد مرّتْ فترة كان يُعتبَرخلالَها كل ما هو غيرمكسيكي رديئاً وغيرمَرغوبٍ فيه. كان يُقال بأن قراءةَ بروست هوبمثابة ” تَعَهُّر”. وإذاً، رغبتُ في فضحِ هذا الوضع .
تتحدثُ عن المكسيك كَ” أرضٍ غيرِ في كتابكَ ” هذا ما أومِنُ به “، *
مُسْتَكْمَلَةِ البِناء”. لماذا ؟
_ جميعُ المكسيكيين لديهم إحساس بأن البلدَ لم يَسْتَكْمِلْ بِناءَهُ كُليا. إنهُ يعيشُ حالةَ جَزرلأن بناءَهُ لم يَكتملْ.فالحزب الوحيد الذي هَيْمَنَ طوال سبعين سنة، جعل البلد يتجمّدُ عند وضعيةِ الشلل التي منعتهُ منْ إتمامِ مُسلسلِ تطورهِ وتغييرهِ. فَكُلُّ إمكانياتهِ الهائلة لمْ تُستَثْمَرْ عن آخرها. واليوم،لانزالُ في مَرحلة انْتقالٍ ديمقراطي حيث لاتنعدمُ الصعوباتُ والمشاكل .
قبل عشرين سنة، كانتْ نَظرتُكَ إلى المكسيك، في روايتكَ “كريستوف **
وبَيضَتُه”، شبه قِيامية؛هل تغيّرتْ هذه الرؤية اليوم؟
_ إن التلوث، وانعدام الأمن، والجريمة، أكثرفظاعة مما عليه الأمر في روايتي. في تلك الفترة لم أرغب قط في كتابة نبوءة.لكن للأسف كل هذا أصبح واقعا فظيعا.كنتُ أيضا قد تَخيّلتُ اقتحام البلد من طرف الأمريكيين.ولِحسن الحظ أن هذا لم يَحدث..وربما قد يَحدث..(ضحِك).مع ذلك،في مجالات أخرى،الوضعيةُ لم تَعُدْ كارثية مثلما كنتُ قد وَصفت: فالبلد يتطورنحوالديمقراطية، ولدينا انتخابات حُرة، وصحافة حُرة؛ وهذه نقطة إيجابية .
في كتابكَ هذا، تَمتدحُ دائما الامتزاج الثقافي.هل هذا مظهرأساسي **
بالمكسيك ؟
كان المكسيك دائما بلدا مُوَلَّداً، وسيُصبحُ أكثر فيما بعد. فنسبة 10بالمائة فقط من السكان من عِرقٍ أبيض،و10بالمائة فقط من عِرقٍ هندي، والباقي خُلاسيون. في الخمس والعشرين سنة المُقبلة لن يبقى هناك بِيضٌ ولا هنودٌ اُصَلاء، فالمكسيك ستُصبحُ خُلاسية عن آخرها. هذا واقع، يُمكن أن نشتكيَ منه أو نبتهجَ به. وفي جميع الأحوال فهو ينتمي إلى هوية بلدي،
الذي يَستبقُ نوعا من النبوءة لِمستقبل العالم بِأسْرِهِ، إذ أن الأرض قاطبة تنحو نحوالاختلاط. فالهجراتُ الكبرى تَصوغُ سيماء وسُحنات البلدان وأيضا خَلاصَها؛ لأن البلد الذي ينغلق على نفسه يُجازف بأن يَفقدَ هويته الأصلية. فالهوية تُبنى دائما بواسطة الالتقاء والتبادل مع الآخرين، وليس أبدا بالانزواء. والاختلاط اليوم تعدى حدود المكسيك لِيصبح مثلا، واقعاً بالولايات المتحدة حيث خمسٌ وثلاثون مليون نسمة تتحدث باللغة الإسبانية. فمدينة لوس أنجلوس هي ثالث مدينة يتحدث سُكانُها الإسبانية، بعد مِكسيكو وبْوِينُسْ أيْرِيسْ، وقبل مدريد أو برشلونة. لكن في نفس الآن تجد بها عدة شوارع مُكتظة يَقطنُها الكوريون واليابانيون. لوس أنجلوس هي بمثابة بيزنطة القرن الواحد والعشرين، ومثال حي لهذه الثقافة المختلطة لِحوض المحيط الهادي التي تتطوركل يوم. وفي غضون قرون قليلة لن تتبقى عندنا أجناس صافية.
مجموعة قصصية بعنوان ” حُدودٌ من زُجاج ” لِرَصْدِ خَصّصتَ **
وَوَصْفِ العلاقات بين العالَم المكسيكي والعالَم الأمريكي..
_ إنني أتشبتُ جدا بهذا الكتاب. فلِكَيْ أكتبَهُ، أمضيتُ ستة أشهر بالمدن المتواجدة على طول الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة؛ وهي من أطول الحدود في العالم. ومثلما هو عليه الحال في الأماكن الحُدودية، نجدُ عالما جذّاباً ومليئاً بالانتقالات،حيث تتعايش اختلافات الثقافتين المتواجهتين، مع ميلاد وقائع ثقافية، ولغوية، وأخلاقية جديدة..إلخ. فوق هذه الحدود، هناك ثقافة مُستحدَثة في طريقها إلى الولادة تنحدرمن طائفة يُمكن تسميتُها( مِكْسْأمِريكا).وخلافا لِما يُمكن اعتقاده، فالتأثيرالمكسيكي بالجانب الآخرللولايات المتحدة هو أكثرجلاءً من التأثيرالأمريكي بالمكسيك. فبلدي لم يفقد لغتَه، ومطبخَه، وعاداتِه، وديانتَه، وتاريخَه، والتأثيرُالأمريكي هوبالأحرى شيءٌ ظاهري فقط .
للأسف، يَنتجُ أحيانا عن تلاقي الثقافات المختلفة نوعٌ من الارتياب، **
واللاتسامح، وكراهية الأجانب. هل أنتَ قلق بهذا الصدد ؟
_ هذا واقع، لذلك يَتوجّب علينا الأمرأن نكون يَقِظين. فنتائج العولمة هي دائما متناقضة، إنْ على مستوى ” القرية الكونية “أو” القرية المحلية “. إنها تقدم لنا مؤهلات عظيمة في مجالات التكنولوجيا، والتجارة والإعلام، وحقوق الإنسان؛لكن هناك إلى جانب هذا مظاهر سلبية. فمثلا، عولمة بدون قانون ولا قاعدة،تَنتُجُ عنها هَيْمَنَة مُطلقة للأسواق، ونوع من الداروينية الاجتماعية على الصعيد العالمي. والنتيجة المُفارِقة هي حرية تَنَقُّل السلع وليس تنقّل الأشخاص.والعولمة، على المستوى المحلي،يُمكن أنْ تُؤدي إلى إعادة اكتشاف الهويات
والعادات المحلية،ولكن أيضا إلى أخطاركراهية الأجانب، والوطنية الضيقة، والتطهير العِرقي. والعولمة تُخاطرُأيضا بأنْ تنحرفَ بالإعلام والثقافة نحومَظاهرمَشهدية سطحية مُكرّسَة فقط لِلتسلية.
لكن مع ذلك، فالعولمة سَمحتْ أيضا باكتشاف آداب جديدة لازالتْ إلى **
اليوم تُثْري الأدب العالمي. لقد سجّلتَ أنتَ بنفسكَ ذلك في كتابكَ ” جغرافية الرواية “..
_ قبل خمسين سنة،لا أحد كان في إمكانه أن يتصورأن بلدا مثل نيجيريا يُمكنُه أنْ يُنجِب ثلاثة كُتّاب كبار من عِيارتْشِينْوَا أشِيبِي، وُولْ سْوِينْكَا،وبِينْ أوكْرِي.في إفريقيا،في تركيا،في أمريكا الجنوبية، في نيوزيلندا، في الهند، في كل مكان..إننا نَشهدُ ازدهار الرواية الذي يُبرز ثراء وتنوع الإبداع الذي لايُمكنُهُ أنْ يَكتفيَ بنموذج واحد. فهذا الأدب العالمي الجديد يُمثل مَظهراً إيجابيا لِلعولمة. فالبُلدان التي كانتْ تَقبعُ فيما مضى على هامش الإمبراطورية، هاهي اليوم تُقدم إسهامات أساسية للأدب العالمي. إن أجْود روايات الأدب المكتوب باللغة الأنجليزية هي نِتاج لِكُتّاب ينحدرون من المستعمرات القديمة.
هل يُمكنُ قول نفس الكلام عن الأدب المكتوب باللغة الإسبانية ؟ **
_ جزئيا فقط، لأن أمريكا اللاتينية كان لديها دائما تقليد أدبي رفيع. فالمُجدِّدُ الكبير للشعرفي اللغة الإسبانية كان شاعراً من نيكاراغوا، وهو رُوبِينْ دَارْيُو. وإذا كان غارسيا لُوركا قد أسهمَ في تجديد شعر أمريكا اللاتينية، فإن بابلو نيرودا قد جَدّدَ شِعرإسبانيا. إن التأثيرات المُتبادَلة بين إسبانيا وأمريكا اللاتينية كانتْ دائما مُثْمِرة. إذاً،لاينبغي الحديث عن أدب إسباني أومكسيكي أوأرجنتيني،بل فقط عن أدب مكتوب باللغة الإسبانية أسَمِّيهِ أدب فضاء دي لاَمَانْشَا، فضاء سِرْفانْتِيسْ الذي يُعانقُنا جميعا.فأنا أشعرُ بمكانتي ضِمن هذا التقليد،مثلما أشعرُ بها داخل المجال اللاتيني الشاسع .
هل تَعتبرُ سِرْفانْتِيسْ بمثابة الكاتب الأكثر أهمية بالنسبة لك ؟ **
_ قطعاً. فأنا أقرأ دُونْ كِيشوتْ مرةً كل سنة في عيد الفصح،وفي كل مرة تَكونُ قراءَتي له مختلفة عن سابقاتها. لقد وجدتُ في هذا الكتاب الحرية الهائلة لِلتعددية الأجناسية: رواية الفروسية، رواية الحب، الرواية البيزنطية،الرواية داخل الرواية..إلخ. في أحد المَشاهد ، يدخلُ دون كيشوت إلى إحدى المطابع- إنها المرة الأولى التي تظهرفيها المطبعة على صفحات رواية- حيث العاملون يُباشرون طَبْعَ كتاب يحمل عنوان” دونْ كيشوتْ “. هذا هو التقليد الأدبي لِدِي لاَمَانْشَا، حيث الأدب عبارة عن خيال دون أن يَدّعِيَ أنه الواقع. بين
سِرفانتيس، وشْتِيرْنْ، ودِيدْرُو توجد استمرارية نجدُها فيما بعد بأمريكا اللاتينية،خلال ق19، في أعمال الروائي الأمريكي-اللاتيني الكبيرالوحيد،مَاتْشَادُو دِي أسِّيسْ.وارتبط بهذا التقليد بعد ذلك، بورخيس وكُتّابٌ آخرون من قارتنا .
هل كان للثقافة الفرنسية دورٌهامٌّ في تَكوينِكَ ؟ **
_ نعم؛ إذ كان والدي،في شبابه، ينتظرُكل شهرعلى أرصفة فِيرَاكْرُوزْالباخرة القادمة من ميناء لُوهَافْرْالمُحَمّلَة بالكتب الأدبية المنشورة حديثا بفرنسا.كان والدي يحب الأدب الفرنسي كثيرا.وبالتالي، في بيتنا، كان الكُتّاب الفرنسيون دائما تحت تصرُّفي-ولذلك قرأتُ لهم.عندما كنتُ في سن 19،سافرتُعلى متن سفينة شَحْن من فيراكروز إلى روتردام ومعي كتاب ” الكوميديا البشرية ” لِبلزاك وقاموس.وخلال الثلاثة أسابيع التي استغرقتها الرحلة، لم أكُنْ أفعلُ شيئا آخرسوى قراءة بَلزاك. وفيما بعد، قرأتُ لِلعديد من الكُتّاب الآخرين. غيرأن درسَ بلزاك كان أساسياً. لقد علمني بأن الكاتب يُمكنُه أنْ يكون،في نفس الآن،مبدعاً لِلواقع الاجتماعي ومبدعا لِعالم الخيال.وبفضله اكتشفتُ أن الواقعية والخيال يُمكنُهُما جيدا أن يَتعايَشا. وهذا درسٌ حاولتُ فيما بعد ألاّ أنساهُ أبداً.
عندما نقرأ كتابكَ “هذا ما أومِنُ به “، يتكوّن لدينا انطباع بأن السينما **
هي أيضا قد حَظِيَتْ باهتمام بالغ في تكوينك. هل هذا صحيح ؟
_ أجَلْ؛ فحتى وِلادتي كانت لها علاقة بالسينما. ذلك أن والدتي أحَسّتْ بأولى انقباضاتها وهي بإحدى دورالسينما تُشاهدُ شريطا صامتا( المُشَرَّدون)لِلمخرج كِينْغْ فِيدُورْ. في الثلاثينات،كانت السينما بالنسبة لنا هي اكتشاف وجه غْرِيتّا غَارْبُو.إنها صورة لن تموت أبدا.فَسِحرُالقاعة المعتمة كان يسمحُ لنا بإسقاط أفكارنا ورغباتنا على المَشاهد التي كنا نُشاهدُها.لقد أحببتُ السينما في تلك المرحلة،وكنتُ أذهبُ إليها مرتيْن في الأسبوع رُفقةَ والدي.وكانتْ والدتي تقولُ لي دائما بأنني أُشْبِهُ الممثل إيرولْ فْلينْ..(ضحِك).
السينما بالنسبة لكَ هي أيضا صداقتُكَ مع بُونْوِيلْ.. **
_ كان بونويل أحد أكبرمُبْدِعي الفن السينمائي؛لكنه كان بالنسبة لي على الخصوص صديقا رائعا.في مِكسيكو،كنا نلتقي كل يوم جمعة من س4 إلي س7،دون أن يتجاوزهذا التوقيت، لأنه كانت لديه عاداتُ إنسانٍ راهب وينامُ باكراً جدا.عندما نتحدث معه كان لدينا الإحساس بأننا نتحاورُمع كل التاريخ الجمالي والفني لِلقرن العشرين.فهو كان قد شاركَ ضِمنَ الطليعة الكبرى لِلسوريالية،ولكنه كان يتحدث عن ذلك بدون تَبَاهٍ، بل بكثيرمن الدعابة.في عام 1967كنتُ، إلى جانب الكاتب الإسباني غْوِيتِيسُولُو،ضمن لجنة تحكيم مهرجان البندقية،
شاركَ بونويل في المسابقة بِشريط (حَسناءُ النهار).وبذلتُ كل مافي وُسْعي لِكَيْ أجعلَهُ يفوزُ بالأسد الذهبي، على حساب شريطيْ (الصينية)لِغودارْ،و(الصينُ قريبة)لِبِيلوتْشْيُو.لقد تمكنّا من إقناع أحد الأعضاء الروس بِلجنة التحكيم،الذي كان قد امتنع في البداية، أنْ يُصَوِّتَ لِصالح” سوريالي سابق صَوَّرَ فيلماً في ماخور”.ولِكَيْ نُقنِعَهُ، قلنا له بأن أي مواطن سوفياتي لايُمكنُهُ أن يُصوّت لِصالح شريطٍ يُشيرُإلى الصين،لأنه عند عودتِهِ سَيُعَرِّضُ نفسَهُ لِدخول مُعتقلات الغولاغ بِسِبيرْيا. وهكذا قرّرَ التصويت لِفائدة بونويل..(ضحِك).
هل سبق لكَ أن كتبتَ سيناريوهات أفلام ؟ **
_ لقد حاولتُ كتابتَها رُفقة غارسيا ماركيزلِكَيْ نستطيعَ تَمويلَ رِواياتِنا؛ غير أننا كُنا سَيِّئين في ذلك. كُنّا نمضي عدة ساعات في مناقشةِ نَعْتٍ بسيط. في الواقع،كُنّا نُبدعُ في مجال الأدب أكثرمنه في مجال السينما.وفي النهاية، أدرَكْنا أن مَصيرَنا لايتمثّلُ في إنقاذ السينما المكسيكية، بل في كتابة أعمالٍ روائية.
بِخصوص الرواية، كتبتَ مايلي:” الروائيون يُبْدِعُونَ واقعاً كَلامياً **
لِلجزءِ غيرِالمَكتوب من العالم.”؛ هل يُشكِّلُ هذا قاعدةَ عملٍ بالنسبة لك؟
_ كلُّ روائي مبدع يعرف أنه إلى جانب عالم الواقع يوجدُ عالَمٌ آخرغير مكتوب. لقد تحدثتُ في هذا الموضوع عدة مرات مع إيطالو كالفينو.إن الرواية مثل الشبح،ووحدَهُ الكاتب الذي يراه. الروائي إذاً، يقولُ الأشياء التي لمْ تُقَلْ ولمْ تُسَجَّلْ بعد في مُدوّنة العالَم. كل هذا لايزال حقيقيا جدا بأمريكا اللاتينية، حيث العالَم الأدبي لِلهنود الحُمر- وهوعالم تُميزه الغنائية بشكلٍ أساسي- قد تَمَّ تدميرُهُ وإقبارُهُ من طرف الغزوالإسباني.وبعد ذلك، عمِلتْ محكمةُ التفتيش والبلاط على منع إدخال الكتب إلى أمريكا اللاتينية طيلة ثلاثة قرون. وهكذا،ففي الوقت الذي كانت فيه الرواية الأوربية تتطوربِأوربا مع سِرفانتيسْ،ومَدام لافاييتْ، وفِيلْدِينْغْ، كانتِ القراءةُ والكتابة مُحرّمَتيْن وممنوعتيْن عندنا. ولم نَشْرَعْ في كتابة الرواية إلا بعد الاستقلال.في البداية كان كُتّابُنا، باستثناء حالة ماتشادودي أسِّيسْ، يُقلدون الرومانسية والطبيعية الأوربيتين. لكن ، في يوم جميلٍ بباريس، حواليْ نهاية العشرينيات، وفي أوْجِ الحِقبة السوريالية، تَعاهَدَ ثلاثة كُتّاب شباب من أمريكا اللاتينية، وَهُمْ: الكوبي ألِيخُو كَارْبَّنْتِيرْ،والغْوَاتِمَالِي مِيغِيلْ أنْخِيلْ أسْتُورْيَاسْ،والفنزويلي أرْتُورُو أوسْلارْ بّْيِيتْرِي، على ألاّ يُقلدوا بعد الأدب الأوربي. لأنه كانتْ عندنا بأمريكا اللاتينية سوريالية فِطرية. وانطلاقا من هذا القرار،وُلدتْ الواقعية السحرية الأمريكية-اللاتينية التي أنتجتْ أدبا استطاع أن يستعيد كل التقاليد الضائعة والمُتوارية لِماضينا.اكتشفنا فجأة بأن كل شيء كان يجب عليه أن يُقال؛وبأنه أصبحت لدينا القدرة على حكي ما لم نكُن قادرين على حكيه طوال ثلاثة قرون. كان كل شيء يحتاج إلى الابتكاروخلقِ تقليد. وعن هذا الاكتشاف الخارق نتجتْ قوة وصلابة الروايات الأمريكية-اللاتينية. روايات صُنِّفتْ،فيما بعد بشكل سريع،تحت يافطة الواقعية السحرية. في الواقع،لم يكن هناك سوى كاتبين كبيرين يُلائمُهُما هذا التصنيف،وهما: ألِيخو كاربنتيروَغابرييل غارسيا ماركيز. أما كورتازار،وفارغاس يوسا،أو أنا نفسي، فلا يُمكنُنا أن نُصَنَّف ضمن هذا النوع .إن أدب أمريكا اللاتينية،في الحقيقة ومنذ البداية، قد بَرْهَنَ على تعدد هائل في الأنواع والأساليب .
هذا الاكتشاف لِإمكانية قولِ كلِّ شيء قد أمَدَّكَ بإحساسٍ شِبهِ ساحر.. **
_ بالفعل، لقد كان إحساسا بليغ الأثر. وجدتُ أمامي أفقاً طَلْقاً ومليئا بالإمكانات.ففي روايتي الأولى” الإقليم الأشد نقاوة”، حكيتُ مثلا عن مِكسيكو،المدينة الأكثرأهمية بالبلاد،والتي إلى ذلك الحين لم تظهر أبدا في أية رواية.فيما بعد،تمكّنتُ من سرد الأشياء التي لم تكن قد قيلتْ بعدعن الثورة المكسيكية،الحدث الأكثر أهمية في قرننا العشرين.في الماضي، تَوفرتْ لَدينا روايات وشهادات لِكُتّاب شاركوا فِعليّاً في هذه الأحداث، لكن عن طريق تركِ مسافةٍ معينة، استطعتُ النظرإلى الثورة وِفْقَ منظورٍأكثر انتقاداً.
في روايتكَ”موتُ أرْتِيمْيُو كْرُوزْ”،سجلتَ خيبةَ أملِ وَتدهورَمُثلٍ الثورة،**
لماذا ؟
_ لقد مَكّنتْنا الثورة من اكتشاف الهوية المكسيكية التي تَمَّ سَحْقُها وحَجْبُها. وحملتْ أيضا عالَمَ الفلاحين إلى واجهة المشهد الوطني،وذلك عَبْرَ فَكِّ العزلة عن سكان القرى والجبال. في تلك المرحلة ظهرت السينما،والأدب،والموسيقى،وفن المكسيك الحديثة.وشَرَعَ البلدُ في اقتلاع جذورِالأمية.كما أن قِطاعيْ الاقتصاد والصحة عَرَفا تطوراً حقيقياً. لكن،على المستوى السياسي لم يتحقق المسلسل الديمقراطي ولا التعددية السياسية. لقد بقينا تحت حكم نظامٍ استبدادي خاضع لِهَيْمَنَةِ الحزب الوحيد. وهذا النظام لمْ يُعَدْ فيه النظرإلا في عام 1968؛ لكن الشباب الراغب في تحقيق الديمقراطية لمْ يَكُنْ يتلقى سوى إجابة واحدة تتمثّلُ في الزَّجْرِوالمَنْع. كان ينبغي انتظارثلاثين سنة أخرى قبل أنْ يتخلى الحزب الوحيد عن السلطة. وهذا ما حدثَ منذ عَهْدٍ قريب.
في أعمالكَ الروائية نَعثُرُ من جديدٍ على كلِّ هذه القفزاتِ الفُجائيةِ **
لِلتاريخِ المكسيكي؛ كيف تنظرُإلى العلاقات بين الأدب والتاريخ ؟
_ في مُواجهتِهِ لِلتاريخ، يحتاجُ الروائي دائما إلى تركِ مسافةٍ مُعينة؛إذْ هي وحدها التي
تضمنُ له مَنظوراً جديداً. في خِضَمِّ الوقائع الحية يُمكنُ أن نكتبَ شهادات جيدة، وأنا أفكرُهنا في ما كتبَهُ بّْرِيمُو لِيفِي عن مُعسكراتِ الاعتقال. لكن، لِكتابةِ روايةٍ يجبُ تحقيق نوعٍ من التراجُع إلى الخلف. وإذا ما أرادَ الروائي التصدي لِلتاريخ،فَعَليْهِ أنْ يَتخلّصَ منه. إذْ يَلزَمُهُ عدمُ التّمَوْضُعِ داخلَ التاريخ بلَ داخل العالَم. المشكلةُ إذاً،هي في معرفتِنا كيف نتمَوْضَعُ داخلَ العالَم. والروائي يقومُ بهذا، بالضبط، عبْرَالخيالِ واللغة.
وهذا ما قُمتَ به في رواية “لورا دياز”،حيث الشخصية الرئيسية **
تَعْبُرُ كل تاريخِ القرن العشرين ..
_ هذه الرواية هي نوعٌ من الحصيلة لِلقرن20،لكن من وجهة نظر امرأة،لأنني أردتُ الابتعاد عن ذكورية التقليد الروائي المكسيكي.فالمرأة تستطيعُ أن تُجَسِّدَ هذه الحصيلة بأكبر قدر من القوة والحساسية والوعي.فروايتا” موت أرتيميو كروز”و” لورا دياز”، هما بالنسبة لي متوافقتان.فهما معا تحكيان عن تاريخ بلدي.الروايةُ الأولى هي عن الثورة،بينما الثانية هي عن علاقة المكسيك بالعالم. ومن ناحية أخرى،ففي هذا الكتاب- لورا دياز- وعبْرَ التغيرات التي طرأتْ على بعض الشخصيات،تحدثتُ عن الواقع خارج المكسيك:عن الحرب الأهلية الإسبانية،عن تراجيديا معسكرات الاعتقال،وعن الماكارثية.ومن وجهة نظر ما، فهي رواية متعددة الأصوات.
نحن مدينون بتعريف الرواية المتعددة الأصوات للناقد الروسي **
ميخائيل باختين.هل هذا التعريف يُشَكلُ مرجعية لِكتابتكَ الروائية ؟
_ قطعاً.فباختين قد أعَدَّ تصوراً للرواية هو،في العمق،نفسه الذي لدى سِرفانتيس. ففي الرواية البوليفونية، يتلاقى الأفراد والتاريخ والسيرة وعلم النفس والسياسية: الكل يُمكن تضمينُهُ في هذه الرواية بفضل اللغة والخيال.فالخاصية الكرنفالية التي يُولِيها باختين أهمية قُصوى تتمثل في هذا التنوع المتناقِض لِلعالَم الذي يَجِدُ ويُحققُ توازُنَهُ داخلَ الرواية.
حياتُكَ وأعمالُكَ الروائية مَشغولةٌ دائماً بِالهَواجِسِ السياسية .كيف **
تتوافقُ الالتزاماتُ السياسيةُ مع العمل الأدبي ؟
_ يتحققُ ذلك بعدم قبول أية عقيدة سياسية. فالطريقة الوحيدة لِدَمْجِ السياسةِ في الرواية هو بقبول كل التناقضات؛ القضايا ونقيضُها. إذْ لاينبغي التأكيدُ على صوتٍ واحد،بل يجبُ إسماعُ جميع الأصوات.إنّ كُتّابَ الواقعية الاشتراكية كانوا دائما يُعبّرون دائما عن صوتٍ
واحد، لأنهم كانوا مُجبَرين آنذاك على التغني بالمجد الستاليني.لكن هذه الحالة لم تنتجْ أبداً رواية سياسية حقيقية،لأن السياسة هي دائما عبارة عن حوارٍبين مختلَف الآراء. في روايتي ” لورا دياز”،حاولتُ أن أقومَ بهذا بِشكلٍ واضح،مثلاً عبْرَ نقاشٍ جَرَى بين ثلاث شخصيات كانتْ جميعُها قد شاركتْ في الحرب الأهلية الإسبانية، لكن ضِمْنَ تشكيلاتٍ مُتباينة:فأحدُهُم فوضوي،والآخر شيوعي،والثالث جمهوري ديمقراطي.وأنا هنا، لاأرغبُ في مَنْحِ الامتياز لِوِجهةِ نظرٍسياسية واحدة،رغم أنني أعتبرُنفسي رَجُلا يَسارياً.فأنا لاأتركُ أبداً وِجهةَ نظري بأنْ تُصبحَ هي المُهَيْمِنَة على الرواية،إذْلاأريدُ لَها أنْتفرضَ نفسَها بطريقةٍ وُثوقِيةٍ ودوغمائية. بطبيعة الحال لَدَيَّ أفكاروقناعات سياسية،لكنني أفْصِلُ بِوضوح بين نشاطي كروائي وبين التِزامي المُتَوقّع للدفاع عن هذه القضية أوتلك.فحينما أكتبُ روايةً ما،لاأتخذُ نفسَ الموقف والمنظورعندما أكتبُ مَقالاً لِجريدةِ(البّاييس)عن السياسة الدولية.فالقيمة الأدبية تنبعُ دائما من تماسُكِ اللغة،وأيضا من الإيمان بِإمكانيات الإبداع.وفي العمل الأدبي الروائي،يُعتبَرُ الخيالُ واللغة بمثابة العُنصُريْن الأساسيْن لِلالتزام الأدبي؛والدفاعُ عنهُما يعني الدفاع عن الحرية.
في كتابكَ “هذا ما أومِنُ به”،تَذكرُإسم أنْيِيسْ هِيلِيرْ،الذي يَعتبِرُ بأنّ **
“عِلمَ الأخلاق هو مسؤوليةٌ شخصية “.ما هي في نظركَ المسؤولية
الشخصية للكاتب ؟
_ بالنسبة لِدوستويفسكي،فالجميعُ يجبُ أن يكونَ مسؤولاً عن الجميع.لكن، كيف يتمُّ ذلك؟ لقد طُرِحَ هذا السؤال على الناقد فِيسَارْيُونْ غ.بْيِيلينْسْكي، الذي نصحَهُ بأنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلى أقربِ إنسانٍ إليه. إنها الوسيلة الوحيدة لِلإحساس بالمسؤولية نَحوَ العالَم أجْمَع. بالنسبة لي إذاً،الروايةُ هي مُحاولةُ مُساعدةِ الآخر.هكذا أتصورُ مسؤوليتي الشخصية.
____________________________________
_ أجرى الحوار : فَابْيُو غَامْبَارُو.
_ عن مَاغَازِينْ لِيتِرِيرْ( المجلة الأدبية الفرنسية )/ عدد 416 ، يناير 2003.
شاعر ومترجم ، من المغرب . *