«حارس الموتى».. رواية تختبر حدْس القراء


*عدنان حسين أحمد


حين نشر جورج يَرَق روايته الأولى «ليل» عام 2013 ذاعَ صيتهُ في الوسط الثقافي اللبناني بسرعة كبيرة وتعلّق القرّاء بالشخصية الكفيفة التي رسمها في نصه الروائي المحكم الذي أثنى عليه النقّاد والقرّاء في آنٍ معا. أما روايته الثانية «حارس الموتى» 1915 فقد قطعت الشك باليقين بأن مُبدعها صاحب مشروع روائي تتكشف ملامحه بهدوء وسلاسة من دون الحاجة إلى السقوط في فخّ الضجيج المُفتعَل.
تختبر حبكة هذه الرواية حدْس قرّائها، فالبطل في هذا النص يُختَطَف من قِبَل أناس مجهولين ولكنه لا يعرف سبب اختطافه فيبدأ بتحليل أبرز الوقائع التي حدثت له منذ هروبه من الضيعة بسبب مصادفة عمياء جمعتهُ بأستاذٍ مخطوف ومُصاب برأسه حتى استقراره ببيروت، وسوف يعرف الراوي لاحقًا أنّ هذا الرجل قد خُطف من قِبَل ثلاثة «شبّيحة» ينتمون إلى ميليشيا حزب «السيادة» الذي يهيمن على جانب من بيروت وبعض المدن والقرى اللبنانية.
لا تخرج الوقائع المثيرة للانتباه التي مرّ بها الراوي «عابر ليطاني» عن أربعة احتمالات رئيسية وهي إمّا «مقتل عزيزي، أو سرقة الصائغ، أو ليلة الكبارية، أو امرأة الهوندا البيضاء» وكلّها أحداث مهمة تبرِّر عملية اختطافه وإطلاق النار عليه لكنه يظل مترجحًا بين الموت والحياة، وينادي بعينيه المرتجفتين ظلال العابرين على الجسر.
اعتمد يَرَق في بناء روايته على ثلاث تقنيات سردية وهي السرد الواقعي الخطّي الذي غطّى القسم الأكبر من الرواية، والفلاش باك، وتقنية الأحلام والكوابيس. ولا بد من الإشارة إلى هيمنة عنصر التشويق على مدار الرواية الذي يحقق واحدًا من أهمّ اشتراطات النص السردي الناجح.
ثمة أشياء كثيرة يمكن أن تقال عن نموّ الشخصية الإشكالية، وتطوّر الأحداث الدرامية التي لعبت دورًا مهمًا في مصير البطل وأوصلته إلى نهايته المأساوية التي لا يُحسد عليها، كما أن ثيمات الرواية كثيرة ومتعددة إلى الدرجة التي توحي وكأن الكاتب لم يترك شيئا للآخرين حيث تبدأ بالخطف والضرب والتعذيب، وتمرّ بالقنص، والسرقة، والاغتصاب، والفساد بكل أشكاله، المالي والديني، والطبي، وتنتهي بالتشبيح، واستغلال السلطة، والقتل. وأكثر من ذلك فإن الرواية تُدين الأحزاب والميليشيات برمتها، وتكشف لنا عبثية الحروب التي كان فيها الخاسر الأوحد هم المقاتلون المغلوبون على أمرهم الذين لاذوا بالثُكنات الميليشياوية لكي يؤمنوا هاجس الطعام والشراب والمأوى، تمامًا كما فعل عابر ليطاني الذي جاء إلى بيروت وقت اشتداد الحرب الأهلية بينما كان السكّان يهربون من جحيمها المُستعر.
لا يمكن غضّ الطرف عن هاجس الخوف الذي يسيطر على البطل من جهة، وعنصر المصادفة السيئة التي تتحكم بمصيره الفردي حتى لتبدو الرواية وكأنها محصورة بين هاتين الأنشوطتين اللتين تُضيّقان الخناق على رقبته حتى يصل إلى اللحظة الأخيرة التي تشتعل فيها أحشاؤه برصاصات ثلاث أطلقها ملثّمون وتركوه يئنّ وحيدًا في مواجهة مصيره المحتوم.
يمكن اعتبار عابر ليطاني بطلاً سلبيًا وخائفًا على الدوام لأنه هرب من مصادقة وجود الأستاذ المخطوف قرب مكبّ للنفايات، وخشية أن يتعرّف عليه الضحية ويتهمه بالخطف والضرب هرب إلى بيروت واضطرّه التشرّد إلى الالتحاق بثُكنة الحزب. وبما أنه لا يجيد سوى القنص فسوف يتم اختياره كقنّاص بعد أن أثبت كفاءته في هذا المضمار لكنه لا يحبذ السلاح لأنه يعتبر نفسه مثقفًا مسالمًا يؤمن بحوار الكلمة ولا يثق أبدا بلغة الرصاص.
لعل الحدث الأهم في الثُكنة هو لقاؤه بـ«عزيزي»، الخطيب المفوّه القادر على تعبئة الطلاب في المدرسة الثانوية وكلية الحقوق لاحقًا. وعلى الرغم من عُزلة «عزيزي» فإن قلبه ارتاح لعابر ليطاني ودعاه إلى غرفته التي كان يقرأ فيها كتبًا بهدف التثقيف لا التسلية، ونصحه بقراءة مذكرات هتلر وبسمارك وغيرهما من القادة، والكفّ عن قراءة الروايات البوليسية. كما أسرّ له بأهمية اليوميات التي يكتبها في دفتر يخبئه تحت البلاط الأمر الذي فاقم لهفة الراوي لقراءة هذه اليوميات ومعرفة الأسرار التي تنطوي عليها خصوصًا بعد تأكيده على «أن مضمون هذا الدفتر خطر، وقد يصبح الدم إلى الرُكب في حال شيوعه» لذلك أوصاه، في حال أصابه مكروه، أن يصون هذا الدفتر أو يدسّه بين ألسنة النار لأن أحرف اسم الراوي قد وردت فيه الأمر الذي يبرِّر خشيته: «لم أخف على عزيزي فقط، خفتُ أيضًا على نفسي».
قد تكون سرقة الصائغ سببا في عملية الخطف لكنه لم يشترك بها قط. وقد كان جالسًا فقط في المقعد الخلفي يراقب تطور الأحداث التي تجري أمام عينيه، حيث نفذّ نابليون، قائد الثُكنة، العملية بنفسه وجُرح في زنده الأيمن كما أصيب الصائغ أيضا. ترى، هل أراد نابليون توريط «عابر» ليضمن إخلاصه له، أم أن هناك سببا آخر لا نعرفه؟
يمكن أن يكون سبب الخطف هو مشهد الكباريه الذي شرب فيه دومينو كثيرًا بحضور شرنّو والراوي ورقص مع الفتيات الأربع اللواتي ركبنَ على ظهره تباعًا حتى تقيأ ونام. وبغية مسح هذا المشهد المُخزي من ذاكرة الناس قرر خطف عابر وإسكات صوته إلى الأبد.
لعل الاحتمال الرابع والأخير للاختطاف هو اغتصاب امرأة الهوندا البيضاء من قِبل الزرزور وشكسبير على التوالي وضرب صاحبها ضربًا مبرِّحًا أوصله إلى مرحلة الإغماء. أما مَنْ يقف وراء عملية الاختطاف فقد يكون أهلها أو عائلة صديقها الذي قد ينتمي إلى أسرة ثرية أو حزب قوي يبسط نفوذه على العاصمة.
لو تركنا النهاية التخمينية المفتوحة جانبا وعرّجنا على «عابر» الذي وجد مهنة عامل في ثلاجة الموتى نهارًا وفي قسم العمليات ليلاً. وعلى الرغم من صعوبة هذه المهنة التي تحتاج إلى شجاعة نادرة، وقلب قوي، وافقَ الراوي عليها، ونجح فيها، وعامَلَ الجثامين معاملة الأشخاص الأحياء حتى لُقِّب بحارس الموتى. وما إن ضَمنَ الأكل والشرب والسكن والراتب الثابت حتى بدأ الفساد يتسرّب إليه مثل الآخرين بغض النظر عن مناصبهم سواء أكانوا أطباء، أم ممرضين، أم كهنة، فحتى الأخت الراهبة كريستين دارت حولها الشبهات، وقالوا: إن المطران متيّم بها، ولا يرد لها طلبا، وقد أحبّها «عابر» وكان يروي لها النكات الخليعة لكن الممرضة شهلا أحبته رغم أنها على ذمة رجل غائب، ومارست الحب معه من دون أن تشعر بالخيانة لأن هذه العلاقة وليدة الروح وليست نتاج الجوع الجسدي.
على الرغم من أن شخصية «عابر» هادئة وغير صدامية فإن المدينة أيقظت الوحش الكامن فيه حيث بدأ يسرق ملابس الموتى، وأسنانهم الذهبية، ويسطو على جارور كريستين في أوقات مختلفة قبل أن تشكّ فيه وتبعث به لشراء قفل جديد كرسالة ذكية لم ترتدِ لباس التهمة بعد. لعل أخطر ما في شخصية «عابر» هو الهاجس النيكروفيلي لكنه لم يرتكب الخطيئة مع جثة الفتاة الشابة ذات البياض المتشح بحمرة خافتة. يستحق برّاد الموتى وحده دراسة منفصلة تعرّي أعماق البطل السلبي «عابر ليطاني» لأن السبب الذي دفعه للموافقة على العمل هو حُب كريستين وصوتها الجميل الذي لا يزال يرنّ في أعماقه، وغلّة البرّاد التي اعتبرها أحدهم ميزابًا من ذهب! إنها رواية شخصية بامتياز في قالب سردي محبوك.
_______
*الشرق الأوسط.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *