عمّي فرج


*وئام غداس


خاص ( ثقافات )
سأل معلّمه: 
– ماذا تقول الكتب عن الكوابيس؟
– أجابه ايسيدور الذي منذ فترة يشعر بالضيق:
– إنها تشبه الحياة.
– والأشخاص الذين يأتون إلينا في الكوابيس، أين يعيشون خلال النهار؟
قال ايسيدور عابساً: 
– إنك تقرأ كتباً لا يجب أن تقرأها!
ربيع جابر/ كنت أميراً (رواية)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يمكن أن أسمّي رؤيتي لعمي “فرج” كابوساً، على العكس، السيارة تمشي دائما بتؤدة، الحركة مستقرّة والصورة تغلب عليها إضاءة مبهرة، وجهه هادئ، مطمئن، وأنا خلفه مطمئنة أيضاً، يغمرني شعور عميق أني في مأمن من كل المخاطر، ليس بإمكاني أن أقيس الوقت، لا أعرف كم يستغرق ذلك في الواقع، أي لو فكرت في قياس زمنه بالساعة الأرضية، لكنه مشهد واحد أخاله يستغرق الليل بطوله.
لا.. لا ليس كابوساً، كنت أعرف لماذا يجيء وكيف ومتى بالضبط، مع الوقت صرت أتوقع مجيئه وكثيراً ما أنتظره، لكن ما يحيّرني حقّاً سؤال واحد: أين يعيش عمّي “فرج” خلال النهار؟ ثم هنالك شيء آخر, مخاوف كثيرة كانت تغزوني وتسكنني, هل في حياته الحقيقية يعرفني مثلما أعرفه؟ هل أنا موجودة في عالمه واختار أن نتقابل فقط في ذلك المكان الآخر، أم أنني عنده لست أكثر من جزء من رحلة منقطعة مع حياته هاهنا، على الأرض؟ هل عنده حياة على الأرض؟ من أنا ومن هو؟ لا أعرف.. لا أعرف.
رأيته في طفولتي عندما كانت عمتي تحبسني طيلة اليوم في الحُجرة الوحيدة الفارغة في بيت جدّي، حيث كنا نعيش أنا وهي وجدتي فقط، تركتنا أمي منذ زمن بعيد وتزوجت من رجل آخر، غادرت معه إلى مدينة الخرطوم ومنها إلى مصر حيث كان يعمل في أحد المصانع الكبيرة هناك وأصرت جدتي أنها من المحال أن تفرّط بي، وتتركني أترعرع على يدي زوج أمّ، أنا الشيء الوحيد المتبقّي من رائحة ابنها البكر، المرحوم، الذي مات مصعوقاً بالكهرباء قبل ولادتي بأشهر قليلة، أخذتني عندها وظلت حاقدة على أمي، لأنّها برأيها ورأي عمتي تخلّت عن واجبها تجاهي من ناحية, ومن ناحية أخرى تنكرت لذكرى والدي وهرعت للزواج بأول رجل يعترض طريقها قبل مرور عام واحد على موت زوجها.
تتفاقم حسرة جدتي كلما تذكرت المهر الذي دفعوه لأمي، تقول جدتي إنهم قدموا لأبيها خمسمائة بقرة، فقد كانت أمي أجمل بنات القرية وأطولهنّ وأشدهنّ سواداً، ممشوقة القوام، واسعة العينين، جذابة، وفي “ابيرو” وغيرها من قرى ومدن جنوب السودان، كانت الفتاة كلما زاد طولها واشتدّ سواد بشرتها ارتفع مهرها وكانت لعائلتها بمثابة الكنز الثمين، من أجل هذا ربما لم تتزوج عمتي “نياندق” أبداً.
تحبني جدتي كثيراً ولكن عمتي لا ترتاح لشكلي الذي كان مطابقاً لشكل أمي، سمعتها كثيراً تقول أني فوق ذلك شريرة مثلها تماماً، ويحلو لها متى أرادت تعنيفي بكلماتها أن تناديني بابنة “أجاك”، و “أجاك” هو اسم أمي.
قتلت دجاجتين والقط الرمادي، أشعلت النار في ذيل إحدى البقرات وفتحت رأس “مانوت” ابن الجيران بمقلاعه الصغير الذي رجوته أن أجرّبه وكل قصدي أن أضربه به، هذا وأنا في الخامسة من عمري فقط، رسمت بأقلامي الملونة على كل جدران البيت النظيفة وكان أول عقاب بالحبس نلته بعدما زينت جدران غرفة عمتي “نياندق” بالكامل، زينتها بأشكال غريبة وخطوط طويلة متشابكة وألوان كثيرة، رسمت شمساً أيضاً، بالإضافة للزهور الحمراء، استغرق ذلك طيلة الصباح الذي قصدت فيه عمتي مدينة “شويبت” التي كانت قريتنا الصغيرة “ابيرو” تابعة لها جغرافيّاً، لتشتري خيوطاً جديدة لمفارش الكروشيه التي كانت مولعة بحياكتها، كانت المسافة إلى هناك تستغرق ساعة كاملة نقطعها على أقدامنا، وساعة أخرى للرجوع، أضف إلى ذلك الوقت الطويل الذي كانت تستغرقه عمتي لشراء أي شيء، شخصت طويلاً أمام منظر الجدران ثم أطلّت على فناء المنزل الخارجي حيث تركتني ألعب عندما دخلت، صرخت بي: “لوسيا لوسيا اصعدي إليّ”، لم ألاحظ أنها كانت غاضبة إلى ذلك الحدّ، كانت هادئة وهي تسحبني من يدي على طول الممر، أدخلتني إلى الغرفة وهي توصد الباب, نظرت في عيني وقالت: “ابقي هنا وحيدة مثل جرذ قذر” تناهى لي صوتها تغمغم وهي تدير المفتاح مرتين داخل قفل الباب: “شريرة ابنة شريرة”.
أنا أكيدة أن جدتي توسلت إليها كثيراً وهما على طاولة العشاء أن تسامحني وتفتح لي الباب، لكنها عنيدة وصعبة، أعرفها لن تفتح، أجلس وراء زجاج النافذة وأتأمل الشمس البعيدة وهي تميل ناحية الغرب، بدأ المساء ينتشر على الأرض، عصافير صغيرة تقطع خلوّ السماء الأرجوانية أمامي من وقت لآخر، أراقب وحشة الجو وهو يميل نحو الانطفاء، أحسد الطيور، وأتساءل أين ستسقط الشمس الآن، الغرفة فارغة تماماً من الأثاث، ومن الجيد أن الشتاء انتهى، ونحن الآن على مشارف فصل الصيف، أين سيختبئ الربيع وأين ذهب الشتاء وكيف يستعد الصيف لاحتلال مكانه، حسناً الأهم من كل هذا أين سأنام هذه الليلة؟.
نمت مباشرة فوق البلاط، لم أشعر بالبرد، ليلتها رأيت عمي “فرج” للمرة الأولى، أذكر أنّي ذرفت بعض الدموع فقط لأني استوحشت ربما، عدا ذلك لم يكن عندي سبب كبير لأبكي من أجله، لا أعرف أبي ولا أمي لأفتقدهما، ولا أذكر أنّي نمت يوماً في حضن أحد، ما الذي سيبكيني إذن؟ السرير؟ ربما السرير، أو الجوع.
في البداية لم أكن أركب معه السيارة، في المرة الأولى كنت في مكان مظلم، وخلفي حقل كبير تأتي منه أصوات مخيفة، كان الدم يهدر في شراييني، بينما أستمع لصوت خوفي يدق داخل جمجمتي، كانت صفوف من شجر السرو المتشابكة أغصانها تمتد إلى أبعد مما يبلغ بصري، مرتفعة تصل إلى مكان عال من الأفق، هناك في الأفق البعيد رأيت وجهه، منيراً مستديراً مثل قمر فضيّ، كان فقط يبتسم لي، ابتسامته تلك أزاحت غشاوة الرعب عن قلبي، وشعرت لأول مرة بالأمان، منذ ذلك الوقت حُفر وجهه في ذاكرتي مثل أخدود عميق، زينت ابتسامته الطيبة روحي الوحيدة مثل خربة مهجورة جاءت يد غريبة لتعلق فيها مصباحاً وضّاءاً، ومضت..
لم تتبدل حياتي كثيراً، سنوات كثيرة مرت ولم أخرج من “ابيرو”، مازلت أعيش أيامي بين عمتي “نياندق” وجدتي، هنا في جنوب السودان، عرفت فترات حالكة من حياتي، لعل أهمها خبر أتانا ذات يوم أن أمي ماتت هناك في الغربة، حزنت لأنها أمي، حزن فطريّ على ما يبدو، حدقت لساعات في المرآة لأرى وجهها، جلست محاولة أن أتخيل لأول مرة أننا متقابلتين، لم نجلس كذلك أبداً طيلة حياتي فجدتي تمنعها من زيارتي، وهي غرقت في حياتها هناك وأولادها حتى نسيت تماماً أمري، حدقت في وجهي لأنه وجهها فلطالما قالت القرية أني هي وأنها أنا بلا فرق واحد، كأننا توأمان أكثر من أم وابنة. ليلتها جاء عمي “فرج”، ونهضت من النوم بقلب مغسول، مات “ملوال” في الحرب الأهلية الضارية التي نشبت بين حكومة السودان الإسلامية والحركة الشعبية، قبل أربعة أيام من موعد زواجنا، وهجمت عليّ أمه وأختيه واتهموني أني شؤم، أينما حللت وكيفما ارتبط مصيري بأحد قتلته، قادني بكاء طويل إلى النعاس، وجاءني عمي “فرج” بسيارته تلك التي يقودها بهدوء ورصانة والابتسامة لا تفارق وجهه، السيارة حيث أجلس على الدوام في مقعدٍ خلفه لا أخشى مخاطر الطريق، الفقد، الموت، الحيوانات المفترسة، الأرواح الشريرة، العزلة، وولائم الوعر التي لا تخلو منها طريق، قرأت في أحد الكتب أن الطريق حياة والحياة طريق، كنت أشعر بذلك أيضاً، ولكن أي ربّ طيب أعفاني من مغبة القيادة فيها وتركها للعمّ “فرج”، ولكن كيف؟ كيف؟ هل هو في حياتي حقاً؟ وإذا كان لا يجيء سوى في المنام، في الحياة الأخرى، فأين يقضي طيلة النهار؟.
أصحو بقلب نظيف ثم سرعان ما تنقشع الغيوم، لكني لا أفهم كيف لم أكلمه هناك ولو مرة واحدة، لماذا لم أسأله إطلاقاً عنه وعن كل هذه الأشياء التي تحيرني، ولماذا هو دائم الصمت؟
صرت أدقّق في الغرباء أكثر مما يجب محاولة أن أجده هنا أو هناك، أنتظر اليوم الذي سيصادفني فيه هنا، لأرى إن كان سيعرفني ويحكي لي حكايته أو حكايتنا، مرّت أعوام كثيرة وهو لا يزورني سوى هناك وآمنت أني روح مشطورة، كتب لي الله حياتين وما أراه هناك لا يمكن أن أراه هنا، أن وجود عمي “فرج” في حزني كالجرّافة التي تزيح الثلوج المتراكمة لتسهل مرور الكائنات، ماهو إلا اندفاع روح طيبة إلى روح مسكينة لتجلو همومها أيا كان مكانها، قد يعرف عمي “فرج” أنه ليس من الصحيح كثيراً أن يدخل عالما آخر ليصحّح أخطائه ويرتق شقوقه، لكنه يفعل من أجل كائن يسهل كسره، خصوصاً لو أنه مثلي بلا أحد!
كنا خارجين من بيت عزاء إحدى قريباتها، وأمام بيوت العزاء وبالقرب منها يتخذ المتسولون شريطاً متناغماً يكاد يكون منظماً للجلوس على قارعة الطريق، أخرجت منديلاً من صدرها الضخم كانت تضع فيه قطعها النقدية وكلما مرت أمام أحدهم وضعت في يده شيئاً منها، تعجّبتُ أنها وزعت المال على كل هؤلاء وبمثل ذلك السخاء ونحن في أشدّ الحاجة إليه، عندما ابتعدنا قلت لها وأنا أسير بجانبها متخذتين شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين حشائش الحقول: “هذا كثير يا جدتي”، “لا يهم يا لوسيا، الله يختبرنا دائماً، أنتِ لا تعرفين أن الله يرسل ملائكته في هيئة دراويش ومتسولين ليرى ما سيكون من عباده الصالحين.”
جدتي الطيبة لا تعرف أنه يرسلهم أيضاً في هيئة عمّي “فرج” ليحرسوا عباده الأشدّ حزناً، منذ ذلك اليوم أصبحت علاقتي بالدراويش والمتسولين متينة، علّني أجد بينهم يوماً من يعرف عمي “فرج”.
_______________________
*شاعرة وقاصة تونسية
من مجموعة “أمشي وأضحك كأني شجرة” الفائزة بالمركز الأول في جائزة 
الشارقة للإبداع العربي 2016

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *