من أعلام شمال المغرب


د. هـــدى المجاطي


كتاب: من أعلام شمال المغرب.. للدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله

هذا الكتاب هو نموذج من النماذج الشاهدة على سبقه وأصالته في علم التراجم الذي ساهم مترجمه (رحمه الله) في إرساء ضوابطه.
كتاب “من أعلام شمال المغرب” من منشورات المجلس العلمي المحلي لعمالة طنجة – أصيلة، صدر الجزء الأول في نوفمبر 2014 والجزء الثاني في أغسطس 2015.
ويختص الكتاب بتراجم أعلام شمال المغرب للتعريف بهم وإحياء ذكرهم، وتأكيد حضورهم في المشهد الثقافي بالشمال، ولا تقتصر هذه التراجم على أبناء منطقة الشمال؛ ممن كانت ولادتهم به، بل أيضاً بالوافدين عليه من العلماء والأدباء الذين استقر بهم المقام في هذا الربع.
يقع الجزء الأول في مئتين وأربع وتسعين صفحة، ويضم سبعاً وخمسين ترجمة؛ يبدأ بترجمة الفقيه أبي مهدي عيسى المنصوري أحمدون (كان حياً سنة 1142هـ/1729م)، وتنتهي بترجمة الأستاذ سعيد بن أحمد العياشي أعراب (ت 1424هـ/ 2003م). بينما يقع الجزء الثاني في مئتين وست وثلاثين صفحة، ويبدأ بترجمة الشريف البقالي سيدي علي بن أحمد (كان حياً سنة 1111هـ/ 1699م)، وتنتهي بترجمة الشاعر عبد الواحد أخريف (ت2010م)، فالاختصاص الزمني لهذا العمل يغطي مرحلة مهمة من تاريخ المغرب تمتد من القرن الثامن عشر إلى نهاية القرن العشرين.
وإذا كانت التراجم في الجزء الأول تقتصر على العلماء والأدباء، فإنها في الجزء الثاني تتجاوزها إلى القضاة وأصحاب الفتوى باعتبارهم أصحاب علم ومواقف مارسوا في بيئتهم ما احتاجت إليه من علوم وقضاء وشريعة، “فحفظوا لأنفسهم موقعاً في الذكر بين أعلام شمال المغرب”.
وينفرد الكتاب – في جزأيه- بالترجمة لأعلام البادية الذين كان لهم حضور في الدرس والتأليف، لم يرد ذكرهم في الكتب التي أرخت للمغرب ولشماله، ولم يكن لهم حضور في كتب التراجم.
يجري نموذج الترجمة في كتاب “من أعلام شمال المغرب” على ذكر كل المعلومات التي تعرف القارئ بالمترجم له؛ يسلك المؤلف السبيل المتعارف عليه من التحلية والأوصاف التي تميز الرجل، مع ذكر تاريخ مولده، ونشأته وبيئته، ثم تدرجه في الطلب من الكتاب القرآني إلى مجالس العلم، والأخذ عن الأشياخ، والمواد العلمية التي أخذها، وتولي الخطط وممارسة المهام مع ذكر الأحوال الملحة في ذلك من تدريس وقضاء، وتأليف وكتابة.
ويعجب الباحث في هذه التراجم بتركيز المؤلف على ذكر مشايخ المترجم بأسمائهم وألقابهم، وأحياناً بالتعريف بهم بذكر تاريخ الوفاة والمناقب وما إلى ذلك، وكذا ذكر مقروءات المترجمين من فنون وكتب، والفائدة من ذلك معرفة المتصدرين من أهل العلم للتدريس، ومعرفة العلوم والفنون التي كانت رائجة إذ ذاك، والتي مثلت ركائز للحياة العلمية في المغرب.
ترفق التراجم بعدد من النصوص الأدبية؛ نثرية كانت أم شعرية، لتكون عنواناً بارزاً على مشاركتهم في الكتابة والشعر، وترد هذه المادة الأدبية حسب ما توصل إليه المؤلف أو حسب القيمة الجمالية للنصوص التي تم استدعاؤها، من منطلق الذوق الخاص أو الرؤية الذاتية للنص.
وتستوقفنا في هذا العمل بعض الملاحظات الجديرة بالإبراز، وهـي: 
أولاً: من ضمن وظائف الترجمة؛ أن المؤلف رحمه الله يترجم لشخص، لكنه في الأصل يسكنه هاجس التعريف بالعائلة، فالترجمة عنده تفتح أفقاً للبحث في تاريخ الأسر العالمة في شمال المغرب؛ ففي ترجمة العلامة محمد السعيد بن عبد الله الغزواني البقالي الواردة في الجزء الأول (ص: 37) يشير إلى أنه من حفدة الحاج المفضل البقالي دفين الحرائق بقبيلة أغصاوة (أغزاوة) والمترجم له في فهرسة التاودي بن سودة، أو في ترجمة الفقيه العلامة المفتي القاضي عبد الكريم بن عبد السلام الحضري الشفشاوني الواردة في الصفحة 41 من الجزء نفسه، وفي ترجمته لبعض الشرفاء العلميين في الجزء الثاني من الكتاب، مثل القاضي أبو الحسن علي بن عيسى بن علي الشريف العلمي (ص: 13) والعلامة القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله العلمي الموسوي الحوات (ص: 29).
ثانياً: لا يتعامل المؤلف في بناء الترجمة بما توصل إليه، وما وقع بين يديه من معلومات فقط، بل يطرح فرضيات – بحس علمي دقيق- يربطها إما بالفترة الزمنية، كقوله في ترجمة الأديب أحمد أبي سلام الحميدي: ‹‹.. ماعدا هذا الشيخ المصرح بأخذه عنه، فإنه يمكن أن يكون قد أخذ عن ابن زاكور الفاسي (ت1220هـ) ومحمد المسناوي الدلائي (ت 1136هـ)، ويمكن أن تكون له علاقة تعارف مع معاصريه من طلبة شمال المغرب الذين كانوا يدرسون آنذاك بفاس، مثل الشاعر علي مصباح الزرويلي، والأديب عمر الحراق الشفشاوني، والمؤرخ محمد بن الطيب العلمي وغيرهم››، (ج: 1- ص: 17) أو بالعادات في الدراسة والتحصيل؛ كقوله في ترجمة الفقيه أبي مهدي عيسى المنصوري: ‹‹لا أشك في أنه قد وسع رحلة الطلب عنده لتشتمل الجلوس في حلقات العلم ببادية شمال المغرب عند علماء الجبال، قبل أن يؤم مدينة فاس للاستفادة من علمائها››.
ثالثاً: كعادة المؤلف في كتاباته الترجمية؛ يلاحظ في هذا الكتاب كثافة المادة المصدرية وتنوعها: شفوية، كتابية ووثائقية، ولا يكتفي المؤلف بما هو وارد في تلك المصادر، بل يدخل في نقاش مع تلك المادة بالانتقاء، وأحياناً بالتصحيح، سواء تعلق الأمر بحياة المترجم له، أو بقضية أدبية مرتبطة بعصره، ولا يكتفي باستعراض المادة الأدبية، بقدر ما يغوص في مكنوناتها، ويستبطن آثار المترجم له ليستخلص معلومات نادرة عنه.
رابعاً: على الرغم من كثرة هذه المصادر: تقاييد (خاصة تقاييد والده الفقيه محمد بن المفضل الترغي رحمه الله في الوفيات)- كنانيش (مثل كناشة تراجم أساتذة المعهد الديني في ترجمة الشيخ محمد بن عياد الخمسي الهوتي، وكناشة ظهائر تعيين القضاة في ترجمة الفقيه العلامة محمد بن عبد السلام بودغيا الزياتي الغماري) –جرائد (الخضراء الأصيلة- الشرق الأوسط- الميثاق..) كتب التراجم (مواكب النصر وكواكب العصر- عمدة الراوين في تاريخ تطاوين – تاريخ تطوان- من أعلام طنجة في العلم والأدب والسياسة) – بحوث جامعية – شهادات شفوية.. فإن المؤلف رحمه الله أشار في مقدمتي الكتاب أن بعض التراجم كانت شحيحة المادة، مما يؤكد أنه كان موسوماً بالنهم المعرفي الذي تترجمه عبارات من قبيل ‹‹رغم الحسرة التي نحس بها لغياب المصادر والمصنفات، حينما نبحث عن رجال العلم في منطقة المغرب عامة، وفي منطقة الشمال خاصة›› (مقدمة الجزء الأول)، وقوله ‹‹وهي تراجم وإن كانت شحيحة المادة..›› (مقدمة الجزء الثاني).
خـامساً: في هذا الكتاب تنبيه الناس للاهتمام بالبادية والتعريف بأعلامها، فالترجمة عند سيدي عبد الله المرابط الترغي تهدف إلى التأريخ العلمي والثقافي للبوادي والحواضر، والثقافة في البادية ثقافة أخلاقية مرتكزها الثوابت الحضارية للأمة، وعلى رأسها الدين الإسلامي واللغة العربية.
ذلكم هو كتاب “من أعلام شمال المغرب” الذي يعد بحق مصدراً مهماً لا غنى عنه للباحثين في التراجم، بذل فيه المرحوم الدكتور سيدي عبد الله المرابط الترغي جهداً مضنياً، والكتاب تأصيل لنفس موسوعي.. وبذرة لمتابعة العمل لإنجاز مشروع علمي وثقافي خاص لأعلام هذه الجهة الشمالية للمملكة المغربية.
* الدكتور عبد الله المرابط الترغي نموذج للأستاذ المتمكن، والباحث الرصين، والخبير بالتراث الأدبي، ورغم تنوع اهتماماته ودراساته في الأدب والشروح والرحلات واللغة والتصوف والتاريخ، فإن علم التراجم حظي عنده بالنصيب الأكبر، وهذا الاتجاه أصلـه منذ إنجازه لأطروحته الأولى “فهارس علماء المغرب: من النشأة إلى القرن الثاني عشر للهجرة” (التي أنجزها بإشراف الدكتور عبد السلام الهراس رحمه الله)، حيث تبدو صورة المرحوم سيدي عبد الله في هذا العمل النفيس بقامة العالم الصبور الدؤوب على الإبحار في هذا العلم.
والترجمة عنده بقدر ما هي خاضعة لمجموعة من الضوابط والثوابت، تتجاوزها حسب المادة البيوغرافية التي يتوصل إليها من خلال بحثه المستقصي.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *