“سناب شات”


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
“السناب شات”، أو المعضلة الخامسة بعد المائة في سلّم التسليات اللاسلكية، الذكية. 
مما جعلني أعود إلى الوراء خمسة عشر عاما على الأقل، حيث كان امتلاك جهاز حاسوب يتطلب تجميعا دقيقا من محال بيع الأجهزة الإلكترونية، وكان على الزبون أن يدفع مبلغا إضافيا لقاء كل خيار ترفيهي تضيفه، كإضافة كرت الصوت والشاشة “والفاكس مودم” والذي بدونه هذا الأخير لن تتمكن من ربط جهازك بالأنترنت، لينتهي به الأمر صندوقا ميتا بلا نبض وبالتالي بلا حياة.
أذكر حين انتقلت إلى فرع الشركة الجديد في حيّ “الراكة” بالدمام، كان كل شيء بالنسبة لي جديدا بما فيه السكن وتلك التطلعات البدائية بالتعاطي مع هذه الشبكة العنكبوتية الغامضة، والتي كانت بمثابة أخطبوط لنا.
انتهى الحاسوب بأسلاكه المتشابكة والتي تربط بين أجزائه الكثيرة، المتعددة، كمحطة أرضية للأقمار الصناعية فوق طاولة خشبية تم تفصيلها بعناية لتلك التوليفة المعقدة، بصندوقه الأزرق المهجن من كل قطر أغنية، والمزود “بالفاكس مودم” وشاشته المحدبة ذات المؤخرة المغزلية الضخمة، كتلفاز قديم، ولم يبق سوى الاشتراك في الهاتف الثابت، حيث مُنيت وقتها بأولى صدماتي الالكترونية أو العنكبوتية في حياتي، وكانت صدمة قاسية وغير متوقعة تلقيتها مثل “دوش” ثلجي في مكتب الاشتراكات، حيث أفاد الموظف بكل برود: أترى؟ العلبة الرئيسة مزدحمة ولا إمكانية لمشترك جديد… ربما في التوسعة القادمة.
وكانت المأساة، فكلما دخلت البيت ورأيت ذلك الحاسوب متربعا بجسده وسط المضافة كعروس معطوبة، بلا نبض عنكبوتي، ينتابني الوجع الخفي وأرى خيبتي وهي تحدق بي، فأسدلت سترا غليظا وقسمت المضافة إلى جزئين ” لا عين تشوف ولا قلب يحزن “.
كان لزاما عليّ التسلل كلص إلى مكتبي في فرع الشركة ليلا بعد رحيل الحرَس، ثم إيصال سلك الهاتف إلى “مودم” الحاسوب الخاص بي في العمل، ثم إدخال كلمة السّر والمرور من بطاقة الاشتراك “الأنترنتية” المدفوعة مسبقا، ثم الانتظار متسلحا بصبر عجيب على أمل أن يشبك الخط. وعندما يتحقق المراد بعد نصف ساعة على الأغلب أكون قد تورمت وفقدت شهيتي لمتاهة العناكب، ولا يبقى في خاطري إلا ما يكفي لتصفح سطحي مضطرب وسريع لبعض المواقع المسليّة وقراءة “الإيميل”.
وهكذا حتى كاد أن ينكشف أمري في الشركة، بعد وصول أول فاتورة هاتف غير مسبوقة منذ قدومي إليهم، حمل تفصيلاتها ثلاثة رجال أشدّاء نحو قسم المحاسبة، فعدّلتُ نحو الخطة البديلة، حيث كانت غرف “الإنترنت كافيه” ورائحة الهندي الوصي عليها، خانقة ومعتمة، ورائحة الدخان في فضائها أثقل من أن يتحملها صدر مدخن مخضرم مثلي، وعند العودة للبيت كان على الحاضرين إغلاق أنوفهم بالملاقط، حتى بعد غسيل البدن الثالث، فالرائحة في تلك الأماكن تتشبث في المسامات الجسدية والعقلية وتعشش فيها حتى اليوم التالي للعودة.
أحيانا، والبطء سياسة متعمدة كي تدفع بالتي هي أحسن في تلك الأماكن، حيث تمضي الساعة ولم تتصفح سوى إيميلك الشخصي، لتضطر آسفا أن تجدد لساعة أضافية أخرى.
حتى جاء الفرج ورحل مشترك ثقيل عن تلك العلبة الهاتفية المكتظة وأخذتُ أنا مكانه، لأرتاح من “الكافيهات” وعذابها، نهائيا، أو هكذا ظننت، لكن بعض الظن إثم … فبعد أيام قليلة من التعاطي الحميد مع الإنترنت البيتي والتصفح الحرّ مع فنجان قهوة وسجائر وخدمة تخطّت نجومها السبعة بقليل، بدأ التذمر من إشغال الخط لساعات طويلة، وشريكة العمر لا تحتمل، فهناك العديد من الجارات يتذمرن لها
– عن حسن نيّة طبعا –
(هاتفكم مشغول… يظلّ مشغولا على الدوام !!) 
كان الوصول إلى حلول وسطية مشتركة وخطوط تماس وهمية، أمرا لا مفرّ منه، قادني في النهاية إلى التبادل الحرِج، ولكن بعدالة منصفة لكلينا، حيث تفرّق النبض الهاتفي بين جولات الدردشة النسائية وجولات التصفح “الانترنتي”، مناصفة، وطبعا لا عدالة كانت ستصمد أمام حراك الدردشات التي تناقش مصير الأمّة، حتما، حيث انتهى بي المطاف بعد أيام زبونا تائباً بين يدي ذلك الهندي “كومار”، وأنا أعود إلى ركني الدافيء في ” الكافيه ” القديم، منكساً رأسي، طامعا بكرم عفوه، مصغيا إلى تقريعه ولومه اللطيفين لي على سوء الغياب.
بعد كل تلك السنوات، يتم تحميل وتفعيل “السناب شات” تلك المعضلة الكونية الخامسة بعد المائة، في زمن “اللاسلكي” حيث أضحى التواصل ميسراً بلا وسيط، بلا أجهزة، وبلا علبة هاتف أو محطة أرضية.
البعض وُلد ولم يسمع بتلك الحواسيب الضخمة المترهلة بأسلاكها، ولا بتلك المعاناة أو بتطورها الجيني إلى شاشات LCDنحيلة، بلا خلفية مغزلية، ثم إلى محمول “لاب توب” وأخيرا وليس آخراً، إلى هواتف ذكيّة، صغيرة حنونة ورقيقة في جيوب الصغار من أبنائنا.
______________
*قاص أردني 

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *